“حوار الأديان وبناء الدولة” لعباس الحلبي
خالد غزال
كم نحن بعيدون عن طاولة النقاش الجوهرية
في كتابه الصادر بعنوان “حوار الاديان وبناء الدولة” لدى “دار النهار”، يقوم عباس الحلبي بسياحة واسعة في امور متعددة منها ما يتصل بالعنوان، ومنها ما يتخطاه الى قضايا اخرى، وهو مجموعة مقالات صدرت للكاتب على امتداد خمس سنوات، جمعها ضمن اربعة اقسام، الاول “في حوار الاديان وقضاياه”، يطرق مواضيع تتصل بالطائفة الدرزية وموقعها في مشهد التنوع في المشرق العربي، ويعرج على المستجدات في الحوار الاسلامي – المسيحي، وما يعانيه من ازمة، ومنها ما يطاول الاديان واثرها في انتاج العنف، وقضية الاديان والدولة. القسم الثاني “في المجتمع المدني وبناء الدولة”، مواضيع مختلفة من نوع الدولة اللبنانية ومشروع بنائها والصراع العربي – الاسرائيلي ودور الشباب وموقع المراة. القسم الثالث، حول الحضور المسيحي في لبنان وشرعة العمل السياسي في ضوء تعاليم الكنيسة وخصوصية لبنان ودور الموارنة فيه وموقع البطريرك ضمنها. الرابع “تأملات بالقيم الايمانية”، وفيه رأي حول الايمان الذي يساعد الانسان والروحانية التي تجدد قيمته.
بما ان الكتاب لا يجمعه موضوع واحد، وبما ان الكاتب يعطي اهتمامه منذ سنوات لقضية الحوار الاسلامي – المسيحي، فإن هذه المعالجة ستتناول هذا الجانب بالتحديد. مما لا شك فيه ان حوار الاديان يشكل موضوعا فكريا سياسيا، انعقدت حوله المؤتمرات في اكثر من مكان في العالم، وضمت اليها ممثلين عن الاديان التوحيدية الثلاثة. ان مجرد الدعوة الى الحوار وتبادل الرأي تمثل مسألة بالغة الايجابية، في كون الحوار هذا وسيلة للتفاهم وطريقا الى الاعتراف المتبادل ونبذ التكفير وانكار الاخر، بما فيه الحد من الاحتقان التاريخي بين هذه الاديان. في هذا المجال يُطرح سؤال عن مدى ملامسة المتحاورين فعلا للمسائل الخلافية الاساسية بين الاديان، وهل يدور الحوار حقا حول المسائل الدينية ذات الطابع اللاهوتي، ام يتهرب من مواجهة المعضلات الحقيقية الى نقاش قضايا سياسية واجتماعية لا علاقة للدين بها، ولماذا يراوح الحوار مكانه ويعجز عن التوصل الى حلول على رغم مرور اكثر من نصف قرن على انطلاقته، ولماذا يتجنب المتحاورون التطرق الى الانبعاث الاصولي وأخطاره والمندلع في الاديان التوحيدية بقوة؟
يطرح موضوع حوار الاديان جملة ملاحظات، تتصل الاولى باختزال المتحاورين للدين واعتبارهم مرجعيات في هذا المجال. ليس صحيحا ان ما يجري هو حوار بين الاسلام والمسيحية او اليهودية، بل بين مسلمين ومسيحيين ويهود، والفارق كبير بين المفهومين. فالمسيحية اليوم مجموعة “مسيحيات” تختلف مرجعياتها في الرؤية الثيولوجية وفي الاصل الديني لعدد من القضايا الجوهرية. والاسلام ايضا مجموعة “اسلامات” متعددة المذاهب والشيع والمرجعيات، بحيث لا يمكن اختصارها بالازهر او قم او النجف، في وقت تتسع كل يوم الخلافات المذهبية بين مكوّنات هذا الاسلام وتتخذ بعدا سياسيا يصل الى حدود تبادل العنف. الامر نفسه يطاول اليهودية لجهة وجود مذاهب متعددة ضمنها.
الملاحظة الثانية، تصنيف المرجعيات الدينية للتاريخ البشري في وصفه تاريخا للمسيحية والاسلام على العموم، واليهودية احيانا. انه تاريخ يتجاهل حقيقة كون المرجعيات القائمة على تمثيل الدينين المسيحي والاسلامي، كانت على الدوام ادوات في يد الدولة السائدة تقوم بوظيفة تسويغ شرعية السلطة واصدار الفتاوى اللازمة لتبرير قراراتها وحض الناس على التزامها. ولا تشذ اليهودية في مرحلتها الراهنة عن هذه الوجهة.
الملاحظة الثالثة، تطاول الاصرار على تصنيف البشر انطلاقا من انتمائهم الديني او الطائفي. تكمن الخطورة في الرفض الضمني للفصل بين الدين والدولة، وتاليا لفكرة الانسان- المواطن. كان تحقق المواطنة ابرز انجازات صراع الديموقراطية مع الدولة الاستبدادية المستندة الى الحاكمية الالهية ومؤسستها الدينية، وهو صراع امكن في نتيجته انتزاع حرية الانسان وحقه في اختيار الدين والعقيدة التي يشاء، وكذلك حريته في ان يكون متدينا او غير متدين.
تتصل الملاحظة الرابعة في اصرار المرجعيات الدينية المسيحية والاسلامية على اختزال الحوار في هذين الدينين، ورفض الاعتراف بوجود ديانات اخرى ذات انتشار واسع ولا يقل اتباعها عددا عن معتنقي المسيحية او الاسلام. يستبعد الحوار الجاري بين الاديان حاليا، التواصل مع الديانات البوذية والهندوسية والبراهمية وغيرها، وهي اديان تحمل الكثير من نقاط اللقاء مع الاديان التوحيدية، وخصوصا في الجوهر الروحي والانساني والقيم التي تدعو البشر الى الايمان بها.
اما الملاحظة الاخيرة فتشير الى ما يواجهه الحوار والمسارات التي قطعها على امتداد العقود الماضية، من تحفظات واعتراضات صدرت عن اكثر من مرجعية دينية، ومن علماء وفقهاء ورجال دين. تتغذى هذه الاعتراضات من موروثات تتصل بالصراعات السياسية ذات الطابع الديني، وبالاعتقاد الراسخ لدى كل دين بأنه يمثل الحقيقة المطلقة والايمان الصحيح، فيما سائر الاديان تقيم في الضلال، وتصل بالنتيجة الى دعوة جميع البشر الى الالتحاق بهذا الدين وحده، سبيلا لإرضاء مشيئة الاله وتالياً الدخول الى الجنة.
لا تهدف هذه الملاحظات الى تسفيه ما يدور في هذا المجال منذ عقود، لكن الملاحظات تشير الى ضرورة تصويب البوصلة وتعيين المواقع الفعلية التي يجب ان يتركز عليها الحوار. ما تحتاجه الاديان، خصوصا منها التوحيدية، هو حوار مع ذاتها اولا واخيرا، اي ان يراجع كل دين منظومته اللاهوتية. تعاني هذه الاديان من انقسامات مذهبية وتشتت طائفي، بحيث تنبذ الواحدة الاخرى، وترى نفسها “الفرقة الناجية” فيما سائر الفرق تقيم في الكفر. ويحتاج الحوار ايضا الى وجوب القيام بمراجعة تاريخية يقوم بها كل دين للعلاقات التاريخية التي تسببت في صراعات سياسية ودينية لا تزال آثارها ماثلة في الزمن الراهن. ويحتاج نجاح الحوار الى اصلاح ديني ومتجدد داخل كل دين، يتوافق مع تطورات العصر والقيم الانسانية، وخصوصا منها المساواة بين البشر والاعتراف المتبادل بالاخر وبحق كل انسان في اختيار الدين الذي يشاء وممارسة معتقداته بحرية، واحترام خصوصيات كل معتقد.
يعوّض المتحاورون عن عجزهم في وضع اليد على مواطن الخلاف بين الاديان، بالزج بالحوار في قضايا سياسية واجتماعية تقع في صميم عمل الحركات السياسية والمدنية، والتدخل في امور لا علاقة لها بالدين وجوهره الروحي ودوره الاخلاقي والانساني. لا يفيد هذا الهروب في تحقيق اهداف الحوار بمقدار ما يؤجج حدة الاحتقان بين معتنقي الاديان ويزيدهم تعصبا لما يعتقدون.
النهار