الحجاب في القاهرة: زمن ما بعد النقاش حول ارتدائه
دلال البزري
أتجوّل في سوق الأزكبية بين أكشاك الكتب والمجلات القديمة. لا أبحث عن كتاب محدّد. فقط عندي فضول لمعرفة هذا السوق الواقع وسط البلد بالقرب من المسرح القومي. أتجوّل وأمارس هوايتي: أتخيّل هذا السوق ومحيطه قبل مئة عام. السور والمسرح، دار الاوبرا القديم، فندق “الشرق”، شارع عدلي. ألاحظ من بعيد كتابا قديماً، أتصفحه… هكذا من دون تفكير. وأنا غائصة في هذه النزهة، يقترب مني شاب بالهندام السلفي، من زمن آخر، هادئ وخفيف. من غير أن يتفوّه بكلمة، يعطيني كتيباً، كأنه يرمي لي زهرة. عنوان الكتيّب “حجاب المرأة المسلمة”. هذه الدعوة لارتداء الحجاب هي ألطف المواعظ من بين تلك التي ألاقيها في شوارع القاهرة وأحيائها.
الدعوة الى الحجاب بالنظر قصة أخرى. نظرات، هي عين الحجاب الرقابية؛ مثل أسهم برؤوس مسمومة، تكْبح العفوية. والجنسان يتعادلان في الدعوة عبر النظر. يجتمعان على الادانة، ويختلفان على أطيافها: النساء يستنكرن فحسب، استنكارهن صافٍ، لا يختلط بشيء آخر، فيما الرجال يستنكرون بالنظر ويستبيحون به في آن… وبعد النظرات، يأتيك اللسان. ومع أن سمية تروي لي قصصا يومية عن تعرّض منقبات لسفورها، وكونها مسيحية لا يردعهن، فدينها “حُرِّف” برأيهن… لكن في حالتي، الدعوة اللسانية للحجاب في الأمكنة العامة هي حكر على الرجال: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!”…. سمعتها مراراً في وسط البلد من رجال بالغين، بعد المراهقين أو الأطفال المشاغبين. وما كنتُ لأتذكّره، هذا الاستيعاذ بالله، لولا اعتداءت تعرّضتُ لها بسبب سفوري. لا تُروى كلها، بعضها فقط، ذات الكثافة الخاصة.
قصة الاعتداء الأول: كريستين، صديقتي الفرنسية ذات العيون الزرقاء والشعر الأشقر الناعم الطويل… أنا وهي في طريقنا الى محطة مترو المعادي. مع اقترابنا من المترو، يطلع من الخلف هدير، ثم ضربة على عنقي من الخلف، ورهط من المراهقات المحجّبات الخارجات لتوهن من المدرسة. يصرخن “إتحجبي يا مرا! إتحجبي يا مرا!….” (و”المرا” في العامية المصرية هي ابتذال للـ”مرأة”). يمكن تصوّر المشاجرة التي تلتْ هذا الاعتداء، والفضيحة التي تسبّبت بها جمْهرة الفضوليين. كريستين في غاية الهدوء. لا تهزّها الحادثة كلها. لم تكن معنية بالاعتداء. كانت معي على الطريق، ولم يطلْها شيء من الشتائم والخبطْ على الرأس. ولكنه هدوء غير عادي يا كريستين. “ربما لأني لست معنية بما يحصل لهذا المجتمع” تجيب، “ربما لأنني أجنبية، ربما لأن سعادتي بالاقامة في القاهرة تغطّي على ما فيها من مشكلات…”. هدوء كريستين ينتقل اليّ، ويسمح لي بالالتفات الى ما لم يكن ممكنا ملاحظته في معْمعة المشاجرة: أمر غريب، ان أحداً لم يقترب منها، ولا سألها عن حجابها ولا نهرها… ولو بوثبة عدوانية واحدة. فيما أنا… ما الفرق؟ الفرق ربما ان مظهر كريستين يضعها أوتوماتيكيا في خانة الاجانب، “الخواجات” الحقيقيين، والمحصّنين بالتالي. ومع اننا نتكلم الفرنسية، ولكن مظهري أنا، وخاصة انني متجهة نحو المترو، لا نحو سيارة وسائق…. فلا. لست بمصرية، صحيح، ولكن الأغلب، أيضا، انني شرقية أو عربية… وقد أصابت المراهقات المتحمّسات للحجاب في تقدير موطني من مظهري.
على رصيف المترو نفسه، في يوم آخر، كنتُ لوحدي أنتظر القطار. واذا بهدير مماثل لهدير المراهقات يأتي من الخلف، يقترب مني. مراهقون أيضا، ولكن صبيان هذه المرة، يصفّقون ويصرخون باتجاهي: “Perruqua! Perruqa!”؛ ولتبقى هذه الحادثة قوية في ذاكرتي، يصل في هذه الاثناء القطار المنتظَر، وتتجه أنظار ركابه الى الضجيج، فيشاركون مع الصبية في الكارنفال الموعظي. وأتحوّل في لحظة الى محطّ أنظار العشرات، كأنني عارية… والدليل شعري البائن على الملأ.
درس اللغة الانكليزية الآن: في نادي “سي. ب. أس. ” البريطاني. في الصف التلامذة نساء من أنحاء العالم: كوريا، اليابان، كولومبيا، اسبانيا، فرنسا… ثم مصرية واحدة محجّبة، اسمها أمال، وأنا. ينتهي الفصل وتدعونا أستاذتنا الى حفل “تخرّج” في منزلها. الحفل عبارة عن تمرين أخير لدرس الانكليزية وسط الشاي والحلوى والأحاديث المسلّية. في نهاية الحفل تقف أمال أمامي، بوجهي تقريبا، وأنا جالسة؛ وتسألني بعصبية إن كنتُ مسلمة. “نعم”، أجيب. ثم تتصاعد عصبيتها، وتعيد: “لماذا اذن لا تتحجّبين!؟ لماذا…!؟”. تلتفتْ النساء الأخريات الينا، يسألن عن الخطب. أشرح لهن… فيما تتابع أمال تأنيبها، وأنا أفتعل الهدوء واللامبالاة. يزداد سؤال النساء الأخريات: “ماذا تقول؟ لماذا الآن؟ ما خصّها…!؟ من أين لها الحق!؟ بأية صفة تتكلم…؟!”. وأمال كالهاذية الحجاب… الحساب… الفروض… أركان الدين… الايمان…. وينتهي الحفل بالفوضى والنكَد.
يمكن رواية العشرات من الرويات المماثلة، ولا ننتهي من وصف طغيان الحجاب. انه ليس مفروضا بالقانون بعد. انه أقوى منه، هو مثل الارادة الجماعية المنجرفة بـ”حرية” نحو هدف واحد. انه مناخ بمرساة، قوة ضاربة، أقوال محفوظة: “الحجاب قبل الحساب”، أو “لا صوت يعلو فوق صوت الحجاب”، تجدها على أسوار الأحياء الشعبية والراقية، في العقول محفورة. وفي مواقف جمعيات حقوق الانسان المصرية، التي لا تتوقف عن تأكيد ما بات من بديهياتها؛ من ان الحجاب “حرية شخصية”. انها هيمنة بالمعنى الغرامشي، هيمنة طوعية، مطلوبة، آخر انجازاتها انها أغلقت النقاش حول كون الحجاب من الاسلام أو من غيره. الآيات مكرّسة، بعد انتهاء النقاش، والهجمات المظفرة لرجال الدين ضد كل الاصوات المساجِلة. مات السجال، وصار الجميع، على الأقل في العلن، يسلّم بأن هذه الآيات تحديداً هي الجازمة الواضحة بفرض الحجاب كعبادة.
قصة “العلني” هذه تستوقفني. لماذا تلبسين الحجاب يا فلانة؟ في العلن تجيبك: “لأن الله يريد ذلك”، أو “لأنني مسلمة صالحة”، أو “لأن هذا ما يمليه عليّ ديني”… أما في غير “العلن”، والذي يعني ان لا يزيد عدد المتحدثات عن اثنتين، في هذا “الخاص” بالذات، تكون الاجابة على السؤال متنوّعة بتنوّع الافراد: طبائعهم، قناعاتهم، وأذواقهم، ظروف حياتهم…
هدى ترتديه، لا لأسباب دينية، فهي لا تؤمن بأن الآيات المعنية بالحجاب تمْليه كفريضة. بل لأسباب تتعلق بالهوية. يعني؟ يعني انها تعتبر نفسها شخصيا في مواجهة ثقافية مع الغرب، وان “سلاحها” في هذه المواجهة هو أولا “أناها”. وهذه “ألأنا”، أول إشارة “خارجية” اليه هو الحجاب. وهدى ترتاد كثيرا الندوات العالمية التي ازدهرت في السنوات الأخيرة حول الاسلام الوسطي والحرب الحضارية… رانيا، تحجّبت لأنها عاشت في المملكة العربية السعودية. هناك تقول الحجاب “عادي”. لبسته عند السن “الشرعي”، وأمها كانت تلبسه قبلها. والعائلة كلها محجبة. ولا خروج عن العائلة. نوران وهي ناشطة في احدى الجمعيات تلبسه لأنها تشعر بأن “الجماهير” لن تستمع اليها ان لم تتحجّب؛ أول ما تنظر اليه هذه الجماهير، تتابع نوران، هو ان كانت المرأة التي تتكلم معهم محجبة ام لا. دينا، تحجّبت لتجد عريسا. كل رفيقاتي تحجّبن إلا انا، تقول، لا أعرف لماذا، ربما محيط عائلتي الليبرالي. وفي يوم، وجدتْ ان كلهن تزوجن، فقررتْ التحجّب لإيجاد عريس. كوثر، اسلامية مؤمنة. اسلامية سياسيا، تؤيد كل المواقف الاسلامية المعارضة لأميركا واسرائيل. تغتبط من الموجة الدينية من غير ان تلتزم حزبيا أو تنشط. منيرة، استفاقت يوما واعتقدت بأنها اتخذت قرارا شخصيا بارتداء الحجاب، “من دون أي تأثير لأحد عليّ”، تقول. لبنى، يسارية سابقة، إرتدته بانتظار “مرور العاصفة الاسلامية”، وهي، رغم كل شيء، تتفاءل بكل “هجوم أميركي على المنطقة…”.
خلف هذه الدوافع وغيرها، يبدو الحجاب مثل مارد يحيط بكل الوقائع، يستوعبها ويطوّعها. فيما تقف الحيثية الدينية معصومة، كالحارس على تمرّد محتمل، أو على تسجيل قول علني معاد للحجاب. وسلاح الحارس التكفير. السفور يساوي الكفر: تلك هي الصيغة الشائعة اليوم في القاهرة. ما أسكتَ غير إشارة، أو كلمة تقول غير ذلك. وواقعة الوزير المثقف الذي تلا أفعال الندامة المكرّرة بسبب قوله، أثناء مقابلة صحافية، انه يفضّل سفور جدته وأمه على حجاب اليوم… جعلت أي نطْق حرّ حول الحجاب يُحسب له ألف حساب.
المستقبل