محاولة أولى
عناية جابر
بالطبع لا يموت واحدنا من الحب. عثرتُ على صديقتي مستلقية على سريرها غائبة عن الوعي. إستدعيت سيارة إسعاف نقلتها الى المستشفى. لمّا أفاقت، أخافها وجهي يُحدّق في وجهها تماماً. عاتبتني على نقلها هكذا الى المستشفى تحت نظرات اهل الحيّ والجيران الفضوليين. لا شيء يستحق كل هذه ‘الشوشرة’ والجرصة، قالت. كان يسعك (أضافت) التربيت على خديّ فأستفيق. لا مبرّر على الإطلاق (قالت أيضاً) لخوفك، لم أمت. لا أحد يموت من الحب، حتى أنني لم أغب عن الوعي.
هدباها مُبللان. أمضت ليالي ثلاث ساهرة، تُفكر في الرجل الذي تُحبّ. عموماً،
أعتقد أنها قادرة على التفكير فـــــيه، سنة، ســــنتين وحتى أكثر من ذلك، ومــن دون انقطاع. تُفكر فيه دائماً، حتى لو بدا الأمر هستيرياً ومستحيلاً، حتى لو بدا غير معقول.
المشكلة أنك لا تتركينني وشأني (عادت الى معاتبتي بصوتها المُجهد) ولا تفهمين ما ينبغي ان تفهميه.
في إحدى إغفاءاتها المتقطّعة، تركتها في حاجتي الملحّة الى التدخين. قصدت للغاية الباحة الفسيحة خارج المستشفى وكلي ثقة أنها فتحت عيناها الآن مرتاحة الى خروجي، وتسأل في سرّها أسئلتها المعتادة: لماذا كل هذا الحب؟ لم؟ لمن؟ ولأيّ سبب؟
لمّا عدت عاجلتني، وهي مسندة ظهرها عالياً الى الوسادة وقد استفاقت تماماً: ‘يا ستي، لو أنني حاولت حقاً قتل نفسي، لكنت ميتة الآن أليس كذلك؟ سوى أنني (ولم تترك لي مجالا للرّد) إنما أردتُ ان أُترك وحيدة قليلاً، لكي أُفكر به، ما عاد بمقدوري القيام بأيّ شيء آخر، سئمت النهوض في الخامسة فجراً، وسئمت المشي بمحاذاة الشاطىء، وساعات العمل، والزملاء، والعودة الى البيت، والكآبة الثقيلة لما بعد الظهر، ووحشة اللحظات القليلة الفاصلة بين اليقظة والنوم. كان عليك أن تتركينني وشأني (حملقت بي بعينين مجنونتين، وأكملت) لم أعد أحتمل هذا العيش ولا النهوض مجدداً والركض نحو التلفزيون، وتشغيله، والتقيؤ بأسرع وقت ممكن، ثم التقيؤ مرة أخرى، دائماً هذا الغثيان، الكثير منه كل الوقت ..
تعرفين (أضافت) ربما في ما يعنيه، هو القاطن بعيداً جداً، ما أفعلهُ سيئ، ولا عــــلاقة له بالـــحب. ولكن كــــيف له أن يعرف شيئاً، وهو القــــاطن بعيداً كما قلت لك، عن ما يعنيني أنا. أعلم يا صديقتي، انه في هذه اللحظة تحديداً، مشغول تماماً بأمور كمبيوتره ويُحني رأسه متابعاً ومهتماً.
من بين أفكــــاري عنه كافة، هذه تبــــدو أكثر إلحاحاً: مُطبقٌ أجفانهُ على مهل، مُشفقٌ عليّ في سرّه، يتردّد مطولاً وهو يكتب لي عبارات التفــــهّم والمواساة.
مسكين فعلاً (اضافت محملقة في سقف الغرفة هذه المرّة) إذا كان يحسب أنه يفهم شيئاً، والأعجب يا صديقتي هو أنني على الرغم من قلة فهمه، بقيت أحبه وافكر به كل الوقت، وللأسف يسعني القول الآن إنني أُعطيتُ حباً تعساً ولا اجد توصيفاً آخر للحب لأني لا أعلم عن الأشكال الأخرى له.
تناولت رشفة من كوب العصير أمامها وأكملت: حب تعيس على ما ترين. ثم أنني أعتقد أنه لا يوجد حب سعيد! أجل لا يوجد حب سعيد وهذه هي القاعدة، وعلينا ألآ نلوم الرجال على ذلك، كما لا نلوم النساء بالطبع، بل نلوم المشاعر المتعفنة المُصرّة على تعفنها. ليس هناك أفضل من الوحدة وأن يُترك المرء لشأنه، وحضرتك لا تتركيني لشأني، ولكن يا صديقتي، وبصراحة، أيّ ظلم حين نُتركُ ونكون وحيدين! مع ذلك لو قُيّض لي العيش مع الرجل الذي أُحبُهُ، لسحقتُهُ.
إنه بمحض الصدفة يعيش بعيداً جداً، بينما أعيش هنا، وسط هؤلاء الذين لا أكنّ لهم مشاعر من أيّ نوع. أعبر من نهار الى آخر بمفردي، كارهة هؤلاء الناس الرافعين أبداً شعار المحبة المُمضّ. لقد تركتُ له المسافةُ ما بيننا على حالها. لم أقترب خطوة واحدة وكان بمقدوري أن أفعل. كان بمقدوري أن أعيش في الحيّ الذي يعيش، في البيت الذي يعيش. أكان ذلك ليكون شراً أم خيراً؟ اعتقد أنه يكون مُدمراً!
لا يكفي أن أفكر فيه (ارفعي هذه الستارة المقرفة، صرخت بي)، بل يجب أن أفكر فيه طوال الوقت، عليّ التفكير به دائماً لكي أُشعرهُ بالذنب، فالمُفــــكر فيه كثــــيراً ينتهي الى أن يلوم نفسه. أمّا أنا، وعلى ضوء هذه العاطفة المشكوك فيها من الأساس، توصلت الى الشكّ في وجوده اصلاً. هيّا، باشري بأوراق الخروج من هذه الغرفة اللعينة (أشارت لي بأنامل مُرفرفة) وخذيني الى البيت، لقد كانت ليلة قاسية.
القدس العربي