صفحات أخرى

الانفجار العظيم

ساطع نور الدين
نوع التجربة ونتائجها تحتاج الى عالم فيزيائي لشرحها، والى متخصصين لفهمها. لكن ثمة تفاصيل سبقتها وتوقعات تعقبها توحي بأن البشرية امام فتح علمي خارق، سيحدث انقلاباً جذرياً في معارفها وثقافاتها وبالتالي في سلوكياتها، وسيجعل القرن الحادي والعشرين شاهداً على قطيعة نهائية مع كل ما راكمه الانسان من تطور وتحوّل على مدى مليارات السنين.
ثمة نفق يبلغ طوله 27 كيلومتراً حفر على عمق مئات الأمتار بالقرب من مدينة جنيف داخل الاراضي السويسرية المتاخمة للحدود مع فرنسا. الحديث هنا يدور عن واحد من اعمق واطول الانفاق التي حفرها الإنسان حتى الآن في باطن الارض، الذي كانت ولا تزال الحفريات فيه تقتصر على المناجم التي تستخرج منها المعادن الثمينة، او على الأنفاق العسكرية السرية التي تخزن فيها الاسلحة النووية، او على قطارات الانفاق التي لا يتجاوز عمقها عشرات الامتار كحد اقصى.
في داخل ذلك النفق، وعلى امتداد 27 كيلومتراً، جرى تركيب اسطوانات ضخمة تعادل حجم قطار، أُحكم إغلاقها بحيث تستطيع أن تستوعب التجربة التي أجريت للمرة الاولى في العام 2008 وفشلت، وكادت تؤدي الى صرف الانظار عن المشروع العلمي الباهر، والى وقف التمويل الاوروبي الذي يقدر الآن بعشرات مليارات الدولارات، من ميزانيات دول وشعوب يفترض انها تعيش ازمة اقتصادية حقيقية… لكن هناك عقلاً سياسياً وعلمياً متقدماً، أصرّ على جدوى المضي قدماً في الاختبار مهما كانت التضحيات، لمعرفته المسبقة بان المكاسب العلمية المتوقعة، ستكون أكبر من كل ما حققته البشرية حتى الآن منذ ان بدأت بغزو الفضاء، في منتصف القرن الماضي، ولدرايتهم بأن استكشاف أسرار المادة المعتمة في الكون يمكن أن تصبح أهم الانجازات الانسانية وربما آخرها.
المحاولة الثانية التي جرت امس الاول الاثنين في تلك البقعة السويسرية الهادئة نجحت نجاحاً مثيراً. اصطدمت البروتونات ما دون الذرية التي اطلقت من طرفي النفق ببعضها البعض، وأحدث اصطدامها ما يعادل الانفجار العظيم الذي يعتقد العلماء أنه سبب تشكل الكون قبل 13 مليار سنة، ومحور انتظام المجموعة الشمسية، وتالياً مصدر تطور الحياة على الكرة الارضية، التي لا يزال معظم البشر ينسبونها الى قوة خارقة تدخّلت قبل آلاف السنين على الأكثر، وانتجت كوكب الارض بمكوناته الراهنة، واخرجت الانسان بشكله الحالي وبمهمته الفريدة!
تبادل العلماء الأنخاب، وسجلوا وقائع التجربة ونتائجها على أجهزتهم، وشرعوا على الفور في تحليلها. التجارب ستتكرر خلال السنوات المقبلة، والتقارير ستظهر تباعاً، والاكتشافات العلمية المرتقبة ستكون أبعد من بلوغ المريخ وأهم من النزول على سطح القمر.. وهي لن تبدل نظرية النشوء والارتقاء، لكنها ستطيح بالكثير من النظريات الغيبية التي قام عليها الفكر الانساني، وستفتح آفاقاً لانهائية للعلوم التطبيقية التي استندت حتى الآن الى معطيات ارضية محددة بالمكان والزمان.
هو ايضاً إنجاز اوروبي يعيد الى القارة العجوز دورها الرائد في الحضارة البشرية التي شوّهها ورثتها في الغرب الاميركي والشرق الروسي او الآسيوي، عندما اعتبروها سلاحاً في معركة السيطرة على الكوكب.. الذي ينتظر بفارغ الصبر ما سيخرج من باطن الأرض السويسرية.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى