معرض الكتاب الفرنسي في دورته الثلاثين: القراءة متعة الفرنسيين المطلقة
باريس ـ مها حسن
كعادته، في شهر آذار من كل عام، افتتح معرض الكتاب، في باريس، من السادس والعشرين ولغاية الواحد والثلاثين من هذا الشهر.
لقاءات مع الكتاب، محاضرات، تواقيع، تسوق، عناوين كبيرة ومتعددة تتوزع هنا وهناك.
ما أن ينزل أحدنا في محطة ً بورت دو فرسايً في الدائرة الخامسة عشرة في باريس، بافتراض أننا نستعمل المترو، حتى يكتشف أن ثمة أرتالاً تسير أمامه، تتجه جميعها إلى الجهة ذاتها: معرض الكتاب.
بمناسبة دورته الثلاثين،تم دعوة ثلاثين كاتباً أجنبياً، إضافة إلى ستين كاتباً فرنسياً، التقاهم الفرنسيون في سرادق أو خيمة حملت اسمً سرادق الثلاثين عاماً .
حين ينظر أحدنا، نحن الآتين من ثقافة مختلفة، إلى لائحة الأسماء المدعوة، يُصاب بالدهشة. إذ ثمة أحلام تتحقق هنا، وببساطة.
شخصياً، تهيأت نفسياً، وحلمت، بهذا اللقاء، الذي لم يتحقق بعد، لحظة كتابة هذه المادة، لحضور اللقاء المشترك بين قطبين كبيرين من أقطاب الأدب العالمي: بول أوستر وسلمان رشدي.
الأسماء المدعوة، أو لنقل بعضها حتى لا نبالغ، أسماء تعتبر محط اهتمام كبار دور النشر الغربية والعربية، أسماء نراها على صفحات الكتب التي يفترسها الفرنسيون ويلتهمون سطورها في المترو، وفي أي مكان يجلسون فيه في حال انتظار… هذه الأسماء التي رافقت أحلام الكثير، وشاركتهم محطات انتظاراتهم المملة، وأوقاتهم الضائعة في المواصلات، تأتي هنا، وتتصدر سرادق الثلاثين سنة: هل أقول امبرتو إيكو، إيميلي نوتمب، نديم غورسيل، دوريس ليسينغ… ومن العرب، ياسمينة خضرة من الجزائر، وعلاء الأسواني من مصر، هذه الأسماء وغيرها… كل هؤلاء جاءوا إلى معرض الكتاب الفرنسي، لتحقيق متعة الجمهور الفرنسي المطلقة: القراءة.
الغريب، وهذا ما لم أفهمه بعد في فرنسا، هو تبسيط العلاقة بين الكاتب والجمهور، إذ مهما كبرت شهرة الكاتب وأهميته، إلا أن “النجومية” بالمعنى الشرقي، الاحتفالي، المظهري، غير متواجدة في الثقافة أو التقاليد الثقافية الفرنسية.
فأنت تذهب لحضور ندوة مع كاتب مهم، لكنك لا تضطر إلى الوقوف في صف طويل، أو المناضلة للحصول على مكان للدخول، وحين تأخذ تذكرتك وتدخل، ببساطة ولوجك أي مكان آخر، أقل أهمية بكثير، كمحل بيع المواد الاستهلاكية، تحصل على مخطط المكان، وتتجه إلى المكان الذي تنوي حضور نشاطه، إذ أن من المفترض أن تكون على معرفة بالنشاط الذي جئت من أجله، وإلا تاهت جولتك في المعرض، بين أروقة دور النشر، من دون أن تحقق اي هدف، سوى الفرجة.
حسنا، تفتش في مخطط المكان، تتبع أرقام المستطيلات المرسومة أمامك، وتصل غالبا بسهولة إلى وجهتك، ولنقل هنا أنها خيمة الثلاثين عاما. تصل، تجد بعض الحضور الهادئ، لا صخب، لا تهليل … ثمة الكثير من المقاعد الفارغة، ليس لأن الفرنسيين غائبون، بل لأن كل شيء مرتب، بحيث لا يخلق أزمة أمكنة، وتتحقق فعلا حصص التعادل، في الجلوس وفي الاستماع.
لا أزال عاجزة عن فهم هذا التفاوت الكبير في إيقاع التعامل مع الكاتب، ففي بلادنا، تتحول الأمسيات الأدبية أو الشعرية لاسم مهم له وزنه الجماهيري إلى مشاكل وعراكات، والشاطر هو من يحجز يلحق مكاناً ويحصل على مقعد، والأشطر من يقترب من الشاعر أو يتحدث إليه.
هنا، لا يحتاج الكاتب لمرافق، أو لحماية، ينهي محاضرته، أو الحوار معه، أو القراءة… ثم يتحرك كأي شخص آخر من بين الجمهور ويغادر أو ينتقل إلى سرادق آخر من دون أن يهرع الناس خلفه أو يهرولون مطالبين إياه بصورة تذكارية أو أي حشرية أخرى نمارسها عادة مع كتابنا النجوم.
كتّابنا النجوم، لا يتمتعون بالاحتفائية ذاتها في بلاد الغرب. لا لأنهم لا يقدّرون كتّابنا، بل لأن ثمة مسافة آمنة وتلقائية تفرضها تقاليد الثقافة الغربية، لا تفترض اللحاق واللهاث وراء الكاتب.
أدونيس مثلا، وهو اسم كبير بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف حول أهميته الثقافية، إلا أن شهرته واسعة وهذا ما لا يجادل عليه كما أظن. أدونيس في الشرق، غير أدونيس في الغرب. لأصحح العبارة وأقول، صورته مختلفة، صورته مع الجمهور. إنه أدونيس ذاته، ولكن المكان والجمهور يختلفان في طريقة التعامل مع أدونيس. القارئ الغربي يحترم المسافة بينه وبين الكاتب، تستطيع مثلا أن تحضر ندوة ثقافية، وتجلس خلف أدونيس، من دون أن تزعجه بالثرثرة معه. هكذا يتصرف الغرب مع الكتاب والشعراء. وأظن مع شخوصهم الاجتماعية الأخرى ذات الشهرة والنجومية.
طبعا أنا لا أ نوي تدبيج دروس في طريقة التعامل مع الكاتب، إذ ربما يشعر كاتب عربي ما، بكآبة أو بحزن، حين لا يتم الاحتفاء به على طريقتنا المشرقية المبالغة في إظهار العواطف والانفعالات، أو قد يكون العكس، قد تكون تلك الاحتفائية مدعاة لسعادة كاتب غربي لم يعتد هذا الحبور الجماهيري.
فقط أحاول أن أفهم، لماذا أفلح في دخول معرض الكتاب من دون أزمات، وأشاهد كبار الكتّاب، من دون حواجز، بل وأستطيع اختيار أي مقعد، لأن ثمة الكثير من المقاعد الفارغة، أتراني حضرت في يوم عمل، ولم أكن في عطلة نهاية الأسبوع؟
المستقبل