“عودة تركيا” لميشال نوفل: تشريح العثمانية الجديدة
سحر الاطرش
يبدو كتاب “عودة تركيا إلى الشرق – الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية” الصادر عن “الدار العربية للعلوم ناشرون” (2010) للكاتب والصحافي ميشال نوفل – يبدو كأنه استجابة فورية للحراك السياسي التركي في المنطقة. ويأتي هذا الكتاب في لحظة يستحوذ فيها دور تركيا على انتباه المراقبين والمحللين وصانعي القرار ولا سيما الغربيين والشرق أوسطيين منهم.
تكمن أهمية الكتاب في أنه لا يتوقف عند اللحظة الراهنة فحسب بل يقدم قراءة معمقة تاريخية وسياسية واجتماعية للأسباب التي تقف خلف التطورات الأخيرة في السياسة الخارجية التركية. وتمثل ما يعتبره الكاتب “العثمانية الجديدة”، أي عودة تركيا إلى محيطها بعد عزلة دامت عقوداً طويلة، وإعادة تصويب للسياسة الخارجية من خلال الاهتمام مجدداً بدول الجوار بعد تركيزها المفرط على علاقاتها بالعدو القديم: أوروبا، والصديق الجديد: الولايات المتحدة.
وتستقي هذه السياسة الجديدة مضمونها من مبدأ “العمق الاستراتيجي” الذي أرساه وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو ومبدأ “صفر مشاكل مع الجيران”. إلا أن هذا التغيير ليس وليداً طارئاً بل هو نتاج مراحل متلاحقة. لقد حجبت القومية الأتاتوركية الاهتمام بـ “العالم التركي” – والذي يمتد من البلقان إلى القوقاز وصولاً إلى تركستان الشرقية ويشمل نحو 150 مليون ناطق باللغة التركية – وذلك رغم أهميته الجيوستراتيجة. وعليه بقيت تركيا إلى عقود طويلة تتجاهل قضايا جيرانها بل تحاول التخلص من بقايا الإرث العثماني الى درجة أصبح الاهتمام بأتراك الخارج مناقضاً للهوية التركية التي أرساها مصطفى كمال. هكذا تُرك أتراك الخارج لأنفسهم في مقابل استغفال شبه كامل لقضايا الشرق الأوسط.
والحال، سمح الفراغ الناتج عن تفكك الاتحاد السوفياتي بصعود قوى إقليمية من بينها تركيا اللاعب القديم الذي بات يجدد وفادته إلى المنطقة. وفادة بدت معززة بنشوء جمهوريات جديدة في البلقان والقوقاز تضم أقليات تركية. لكن كسر العزلة التركية، كما يبيّن الكاتب، لم يجرِ إلا بخضّات داخل المجتمع التركي ونخبه وطبقته السياسية. وعليه، عاشت الدولة “المعافاة” – وليدة “الرجل المريض” على ما جرى في وصف الإمبراطورية الآفلة – تضارباً بين نوستالجيا الدور العثماني وواجب الحفاظ على الهوية الوطنية. إذ أنتج هذا الانفتاح صراعات داخلية بين معتدلي الدولة وحرّاس الذات التركية الصافية الذين رأوا فيه قطيعة مع إرث أتاتورك. هذا الصراع يجيد المؤلف إبرازه وتفكيكه في ضوء قراءة التحولات في السياسة والهوية منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، مستفيداً – أي المؤلف – من معرفته بالمجتمع التركي وأبعاد هويته المركبة، التاريخية والإثنية واللغوية والدينية.
إذاً، عادت تركيا أخيراً إلى مضاربها السابقة: الشرق والقوقاز والبلقان. إلا أن هذه العودة كان لا بد لها من أن تمر عبر المصالحة مع الإرث العثماني، السياسي منه والديني، مفرزة “العثمانية الجديدة” التي نشهدها اليوم بحسب الكاتب. وهذه العودة ليست وليدة الارتجال بل هي نتاج تاريخي لحركة “التوليف التركي – الإسلامي” التي تهدف إلى إعادة بناء الهوية وإضفاء البعد الإسلامي- أي الإيمان- عليها، من دون أسلمة الحكم. مفهوم لعبت النخبة العسكرية دوراً أساسياً في ترسيخه. هذه “العثمانية الجديدة” تبدي اهتماماً متجدداً لما شكل في السابق ولايات عثمانية بعدما أسفر الحراك السياسي والاجتماعي عن وصول حزب إسلامي إلى السلطة سنة 1996 في جمهورية تأسست على مبدأ العلمنة، ليس السياسية فحسب بل والمجتمعية أيضاً.
لقد ساهم “تغريب” تركيا الأتاتوركية في توثيق علاقتها بالغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. وكلاهما التغريب والصلة بالغرب كانا صانعين في الهوية التركية الحديثة وإرساء أدبياتها. لكن لحظة تفكك الاتحاد السوفياتي، أتاحت لتركيا ملء الفراغ ولا سيما في دول آسيا الوسطى، بدعم غربي طبعاً، معطوفاً على خوف وريبة من الصعود الإيراني الناشئ والمتمدد. هكذا أصبح في مقدور تركيا أن تلعب دور الوسيط في هذه المنطقة. وقد وضع انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي أنقرة في موقع الحليف القوي للغرب حتى باتت تصنف علاقتها بأميركا بـ”الخاصة”. كما وضعها هذا الموقع في ارتباط وثيق مع إسرائيل فاستمر “التحالف الاستراتيجي” بين الدولتين عقوداً طويلة. ووجهت تركيا كبرى اهتماماتها نحو الاتحاد الأوروبي إذ أصبح الانضمام إليه العامل الأبرز في التوجهات التركية. أدى ذلك كله إلى الابتعاد عن المنطقة العربية وقضاياها، وذلك رغم التأثر الشعبي بالمسألة الفلسطينية.
يمكن اعتبار حرب العراق سنة 2003 منعطفاً أساسياً في تاريخ تركيا المعاصر إذ شكل رفض تركيا، على صعيدي الحكم والمجتمع، السماح للولايات المتحدة باستعمال أراضيها ما يعتبره نوفل “لحظة مؤسسة” في السياسة الخارجية الجديدة أسفرت عن نتائج مكلفة. أدى هذا إلى سقوط “مقاربة الخطوط الحمر” بحسب تعبير الكاتب، وأهم هذه الخطوط المسألة الكردية، أي إمكان قيام دولة كردية مستقلة في العراق. إذاً، أوجدت تركيا مقاربة جديدة لسياستها في المنطقة كانت إحدى نتائجها تلاشي التحالف الاستراتيجي بينها وبين إسرائيل. ويذكّر نوفل بأن هذا التحالف كان مبالغاً فيه أساساً، إذ إن حكومة “حزب الرفاه” أجبرت على توقيع اتفاقات مع إسرائيل. والعارف بتركيا يؤكد الحيز الذي تحتله المسألة الفلسطينية في المجتمع. كان استعمال العنف المفرط من قبل إسرائيل في مواجهة الانتفاضة الثانية أحد أسباب تلاشي العلاقة بين البلدين.
يقدم نوفل في فصول سريعة عرضاً موجزاً للموقف التركي في ما يتعلق بمختلف قضايا الشرق الأوسط. من خلال هذا العرض يبين المؤلف جهد تركيا في لعب دور الوسيط في المنطقة، كما حصل أثناء حراكها السياسي تجاه الحرب ضدَّ غزة وفي الأزمة اللبنانية الأخيرة بين فريقي الموالاة والمعارضة. ويوضح الكتاب سياسة تركيا حيال الملف النووي الإيراني. سياسة تقوم على كسب جارتها الفارسية من غير خسارة حلفائها الغربيين: رفض الضربة العسكرية يقابله رفض جارة نووية. ولا يفوت “عودة تركيا إلى الشرق” أن يعرض للتقارب التركي السعودي بناء لمصالح مشتركة أهمها المسألة الكردية وكذلك التعاون التركي السوري. إلا أن مجمل هذه القضايا كانت تستأهل اهتماماً وتعمقاً أكبر، لا سيما أن مقاربات الكاتب هنا افتقرت أحياناً إلى أحداث مهمة أو تبيان التعقيدات التي تتخلل العلاقات بين تركيا وبعض البلدان العربية.
على سبيل المثال، يؤكد ميشال نوفل أن ركيزة السياسة التركية تقوم على مبدأ عدم الانحياز إلى بلد عربي ضد آخر وابتعادها عن اتباع سياسة المحاور التي، أي هذه السياسة، تسعى إلى دعم مجموعات أو بلدان ضد أخرى أو استثمار أطراف وجماعات لتحصيل مكاسب بالواسطة، الأمر الذي يسمح بقبول الدور التركي بشكل واسع، مدعوماً عبر وجهه الإسلامي السني في مقابل الدور الإيراني الشيعي. لكن هذه المقاربة تبدو قابلة للاضطراب أو النقض، إذ إن الترحيب المعلن بالدور التركي من جانب بعض الدول العربية، يثير قلق أنظمة عربية أخرى ناظرة إلى أن دورها يتقلص أكثر فأكثر. ولم يكن موقف تركيا في الحرب ضد غزة إلا كشفاً لبعض السلطات العربية إزاء شارعها.
“عودة تركيا إلى الشرق” ليس انعكاساً آلياً للهوى التركي نظاماً وشعباً فحسب، وإنما هو إطلالة من المستقبل عابرة للراهن إلى حيث يقيم الماضي المؤبد.
(باحثة في “فريق الأزمات الدولية”)
النهار