فالح عبد الجبار في “العمامة والأفندي”: مقاربات النموذج الطائفي في الدولة القومية
نظام مارديني
يعتبر هذا الكتاب الموسوم “العمامة والأفندي” للباحث العراقي فالح عبد الجبار محاولة لفهم العلاقة بين المقدس والدنيوي في مناشئ حركات الاحتجاج الدينية في العراق، بمقارنة، مضمرة في الأغلب، مع إيران، اعتماداً على الأدوات النظرية لسوسيولوجيا الدين، وعلى مناهج البحث الأكاديمية.
ويرى الباحث في كتابه القيّم هذا، إن هناك ثمة ثلاث مقاربات متمايزة يجب التطرق إليها، في الأدبيات المتعلقة بالمذهب الشيعي، والحركة الإسلامية الشيعية في العراق: المقاربة الطائفية، والمقاربة الجوهرية ـ الثقافية، والمقاربة البنيوية ـ الظرفية.
تتمحور المفاهيم الأساسية للنموذج الطائفي حول ثنائية الجماعة (الطائفة) مقابل المجتمع (gemeinschaft/gesellschaft) التي ترى أن هناك دولة تسيطر عليها أقلية سنية مقابل جماعة مضطهدة هي الأغلبية الشيعية. وفي هذا السياق، ينظر إلى النضالية الإسلامية في صفوف الشيعة على أساس أنها تعبير عن الشعور بالمظالم الناجمة عن هذه الثنائية المتوترة، ويلتزم الكثير من المؤلفين بهذه المقاربة أو يشاركونها في بعض من جوانبها (بارام، بنجيو، لويزاردLuizard ، فرهاد، وإلى حد أقل إسحاق نقاش). وفي معظم الحالات يصور المذهب الشيعي ومجتمع الشيعة والحركات الإسلامية الشيعية وكأنهم يمثلون الشيء نفسه تقريباً، أو كأنهم جميعاً يشكلون فئة سوسيولوجية واحدة: كياناً اجتماعياً ـ ثقافياً متجانساً، صوانياً. ومن شأن هذه المقاربات أن تضفي جوهراً ثابتاً على الفضاءات والبنى الجمعية والهوية (أو الهويات) التي تنتجها، وكأنها حبُيت باتجاه واحدي اجتماعي أو سياسي، وكأن الثقافة الدينية في حد ذاتها تخلق فضاءً موحداً ذا طبيعة اجتماعية وسياسية متجانسة في ظل أي ظرف.
إن تحليل الحركة السياسية الإسلامية الشيعية في العراق يشكل حالة معقدة، وذلك على ضوء حقيقتين: أولاهما حركية وانتشار النزعة الإسلامية والأصولية الشيعية والسنية في الشرق الأوسط منذ أوائل سبعينات القرن العشرين، وثانيهما الصعود المصاحب الموازي للحراك الطائفي في المجتمعات المتعددة الطوائف.
إن الحراك الديني النضالي في مصر وإيران والسودان والجزائر يمثل نموذجاً للإسلامية وللأصولية الحقتين. أما حالات الاحتجاج الشيعية في لبنان والسعودية (المنطقة الشرقية) وأفغانستان فهي أمثلة على الحراك الطائفي. ولقد أدى حصول الظاهرتين المتداخلتين في آن واحد، في بعض الأحيان، إلى تعتيم حقيقة أنهما حالتان متمايزتان في أصولهما واستراتيجيتهما في الأقل. أما تعقيد المثال العراقي وثراؤه فهما مستمدان من حقيقة أنه مزيج فريد لتينك الحالتين.
إن فهم الحالة العراقية للحراك السياسي النضالي الإسلامي الشيعي يستلزم تحليل طبيعة النزعة الإسلامية والأصولية من ناحية، وتحليل طبيعة تشكيل الدولة وبناء الأمة، في العراق، من الناحية الأخرى، وذلك لغرض رسم الحدود الفاصلة وتحديد معالم شتى أشكال النشاط السياسي الإسلامي الشيعي في العراق. وسنقوم في هذا الفصل بتحليل المراحل المتغيرة للنزعة الإسلامية وللأصولية عموماً، لننتقل بعدها إلى معاينة التطور الخاص بالدولة ـ القومية العراقية والمجتمع العراقي خصوصاً بقدر تعلقهما بالشيعة والحركات الإسلامية الشيعية.
إن تشكل الدولة ـ القومية العراقية وتطورهما هما السياق التأريخي الذي ظهرت فيه شتى أشكال الحراك السياسي الإسلامي الشيعي. ومثلما هي الحال في الكثير من بلدان العالم الثالث، فإن الدولة ـ القومية العراقية كانت نتاجاً للحقبة الاستعمارية التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وجاء تشكيل الدولة العراقية، بعد اقتطاعها من أراضي (الرجل المريض)، أي الأمبراطورية العثمانية، من تجميع ثلاث ولايات: بغداد والبصرة والموصل.
وكانت هذه الرقعة العشوائية، التي قرر حدودها وحماها البريطانيون، تضم مزيجاً غير متجانس من المجموعات الإثنية والدينية والمذهبية، ذوات الخصائص المتباينة بأقصى درجات التباين. وجاء “اختراع” هذه الدولة على يد القوة الاستعمارية من حيث تحديد نظام الحكم فيها (العاصمة، العلم، النظام الملكي، والبيروقراطية)، والتشريع والتمثيل (الدستور، والبرلمان)، وأنماط آليات السيطرة والدفاع (العسكر والشرطة)، والبنى القانونية (القانون الأساسي وقوانين الجزاء، مع منظومة المحاكم وترتيبات قضائية خاصة بالقبائل)، وتعريف الجماعة الوطنية من حيث الجوانب القانونية والإقليمية (ترسيم الحدود، وضع قوانين المواطنة)، واستحداث نظام اقتصادي مركزي (العملة الوطنية، تنظيم التجارة، الضرائب)، وتوحيد ومجانسة الثقافة الوطنية (النظام التعليمي، الإذاعة، الصحافة)، وأخيراً من خلال إدخال الدولة الجديدة في حظيرة المنظومة العالمية للدول ـ القومية (معاهدات مع دول مستقلة أخرى، الانتداب، عضوية “عصبة الأمم”). وبكلمة موجزة، قامت بريطانيا ببناء دولة ـ قومية حديثة.
استناداً إلى التقليد الهيغلي، تتولى الدولة الحديثة الأدوار الآتية بصفتها:
1 ـ هيئة تنبع من (ولكنها تعمل على ضبط) التناقضات المتأصلة القائمة بين شتى المجموعات المتنازعة والمصالح الفردية ضمن “مجتمع مدني”.
2 ـ منظومة من المؤسسات (العرش والسلطتين التنفيذية والتشريعية) تديرها “طبقة كلية” (أي: الطبقات السياسية والبيروقراطية).
3 ـ تنظيماً لجماعة وطنية (قومية) معينة (أي: تمثل “أمة” معينة).
4 ـ عنصراً فاعلاً على النطاق العالمي (السيادة، القانون الدولي، تأريخ العالم).
لكن واقع الدولة ـ القومية العراقية يتناقض مع المفهوم الهيغلي. فقد قامت على مجتمع يغلب عليه العنصر البدوي الزراعي ويضم مدناً هشة شبه مستقلة تفتقر إلى “المجتمع المدني” أو التجانس الثقافي الوطني (أي: المؤسسات المتطورة للأسواق والشركات والنظام القضائي، أو الفضاءات الثقافية الوطنية الموحدة). وكان على هذه الدولة أن تنمو وتتطور لكي تقترب من مفهوم الدولة ـ القومية الحديثة. ولقد كان إدخال العراق في الأسواق العالمية والنظام العالمي للدول القومية إدخالاً قسرياً، وبالتالي جاء هشاً في بداياته. فكان أن أضفت الظروف التي تشكلت فيها وتطورت الدولة العراقية سمات خاصة على هذه الهيئة الشاملة والحديثة للحكم والسيادة. ولم تكن هذه السمات مقتصرة على العراق، بل كانت تميز الكثير من دول الشرق الأوسط.
إن الحركة الإسلامية الشيعية في العراق كانت ولا تزال وستبقى ظاهرة فريدة. فلقد تميزت مختلف فصائل الحركات الأصولية الإسلامية على امتداد رقعة الشرق الأوسط، بل حتى خارجه، بكونها إما حركات شعبوية أو وطنية أو اجتماعية تعبر عن الاحتجاج من جهة، أو كونها، من جهة أخرى، حركات فئوية تقف ضد التمييز المذهبي الذي يمارس ضد الجماعة. ولقد كانت الحالة العراقية مزيجاً من الاثنتين، الأمر الذي يجعلها تمثل نموذجاً جديداً فريداً في نوعه.
ضمن هذه الظروف مرت الحركة الإسلامية الشيعية بثلاث مراحل من التطور: فقد بدأت بصفة حركة أصولية تسعى إلى قيام إسلام كلي جامع في وجه إيديولوجيات علمانية غربية، أي السعي لإيجاد منظومة فكرية متقنة، تحتفظ بالمبادئ والعقائد القديمة مع ما تمثلها من مصالح اجتماعية. وتحت تأثير نظام حكم الأخوين عارف السلطوي العسكرية، والسني في معظمه، غيرت الحركة مسارها باتجاه اتباع سياسة محلية قائمة على الاحتجاج ضد التمييز الممارس ضد الجماعة (الطائفة). فتكون بهذا قد تحولت إلى النموذج الثاني، نموذج الخصوصية المذهبية. أما المرحلة الثالثة من التحول إلى الراديكالية فقد ظهرت إلى الوجود خلال الحكم الشمولي العلماني للبعث، تحت تأثير الثورة الإيرانية، وهي التي كانت تتويجاً لتحول جذري في الثقافة السياسية في الشرق الأوسط ـ أي صعود النزعة الإسلامية الشعبوية. ولا شك في أن العنصرين السابقين (نموذج الإسلام الكلي الجامع والنموذج الخصوصي ـ المذهبي) لم يختفيا، بل تداخلا بالحركة الجديدة مع إيديولوجيتها واستراتيجيتها الجديدتين.
[الكتاب: العمامة والأفندي
سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني
[الكاتب: فالح عبد الجبار
[الترجمة: أمجد حسين
[الناشر: منشورات الجمل
المستقبل