«ينبغي أن نحلم» أو.. أن نموت أقل؟
صقر ابو فخر
استعار كميل داغر عبارة «ينبغي أن نحلم» من لينين، وجعلها عنواناً لكتابه الجديد([)، وهي عبارة نقشها لينين في كتابه المشهور «ما العمل؟» الذي صدر في سنة 1902 وأثار سجالات هائلة لم يتوقف ضجيجها وطنينها حتى اليوم. ويلوح لي أن هذه العبارة متنافرة الجزئين على الرغم من أنها توحي بالانطلاق والحرية والانفلات من قيود الواقع. فكلمة «ينبغي» تتشرب معنى الأمر، أما الحلم فهو الفعل الوحيد الذي يرفض أي أوامر أو قواعد أو قوانين، ونحن، جميعنا، نحلم من غير «يجب» أو «ينبغي». والحلم هو الفضاء المتخيل الفريد الذي يحلق فيه الكائن الانساني المقموع بحرية لا حدود لها على الاطلاق، ويمارس فيه تخريبه الجميل للعالم الواقعي رغم أنف الأديان والسلطات وأوامرها ونواهيها.
الأحلام الغائرة
كُتبت نصوص هذا الكتاب، ونُشرت متفرقة، على امتداد أكثر من عشرين سنة، أي «في الحقبة التي شهدت انهيار الأحلام» (ص13)، والتي «تشقلب» العالم في أثنائها أيما «شقلبة». فقد انفجرت ثورة المعلومات والعلوم والعولمة، وانهار الاتحاد السوفياتي، وفرطت يوغوسلافيا، وانقضت طائرات أسامة بن لادن على نيويورك في 11/9/2000، واندلعت الحرب على أفغانستان، واحتُل العراق، ثم انفجرت الأزمة المالية العالمية. وكان عصر «التصالح» مع اسرائيل قد بدأ سنة 1977، وجرى ترسيخه في أوسلو سنة 1993، ودُمّرت «السلطة الفلسطينية» في سنة 2002 واحترب «المناضلون» في غزة في سنة 2007… وهكذا. ومهما يكن الأمر، فقد أعادتني نصوص هذا الكتاب إلى زمن الأحلام العظيمة، وذكّرتنا بلاهوت التحرير وكاميليو توريس، والتوباماروس وكارلوس ماريغيلا وراوول سانديك، وثورة الجزائر وتشي غيفارا وثورة الطلاب في ربيع باريس سنة 1968، واليسار الجديد وفيتنام وجمال عبد الناصر وجورج حبش… لقد كان ذلك العصر عصراً وثابا وخلابا، لكن وعوده غارت وأحزابه خارت وأمسينا اليوم في عصر البراقع والعمائم والتمائم والفتاوى المسمومة والمخدرات الفقهية العجيبة.
النقد الجريء
تتناول فصول هذا الكتاب معظم ما يشغل خواطرنا في هذه الأيام، أو ما يشاغل حياتنا الفكرية والسياسية مثل: الموارنة، اليسار، الاصلاح، المقاومة، اغتيال الحريري، سوريا، الفلسطينيبن، نهر البارد، كمال جنبلاط، الزواج المدني، العراق، الشرق أوسطية، العولمة، الأكراد، الارهاب، الماركسية، تروتسكي، كرونشطاط، ماياكوفسكي، الأدب، الوحدة العربية، الطبقة العاملة…الخ. وحدهما السينما والموسيقى لم يتطرق إليهما كميل داغر. ولا ريب في أنني، بعد قراءة الكتاب، حسدته على هذا الجلد في العودة إلى موضوعات ربما صارت وراء ظهورنا، أو اندرجت في تاريخ الأفكار مثل المجادلات التي اندلعت في شأن فكرة «المركزية الديموقراطية» أو كتاب «ما العمل؟» أو وقائع انتفاضة كرونشطاط في مدينة بتروغراد في سنة 1921، أو إعادة الاعتبار لتروتسكي في بلده روسيا… الخ. وفوق ذلك أعادنا إلى زمن السجالات الفكرية الجميلة، مثل السجال الذي احتدم بعد ظهور مصطلح «الطائفة ـ الطبقة» في مجلة «الحرية» (11/6/1973) التي رأت «أن الطبقات الاجتماعية اللبنانية لها أيضاً لون طائفي غالب: غلبة الانتماء الطائفي المسيحي على الطبقات البرجوازية والمتوسطة، وغلبة الانتماء الاسلامي على الطبقات الكادحة» (ص193). وفي هذا السياق يتهم كميل داغر فواز طرابلسي بأن تحليله ذاك صب في الفكر الديني ولا سيما حين دعا في «الحرية» (3/10/1977) إلى «مجابهة دين الحكام بدين المحكومين، دين الشبعانين بدين الجياع» (ص95). على ان أجرأ ما تضمنه هذا الكتاب كان النقد السياسي الذي أصاب حملة تمجيد رفيق الحريري وتعظيمه التي حوّلته إلى أسطورة مقدسة، فرأى «أن الحريري هو صاحب مشروع إعادة بناء الدولة البرجوازية التابعة والمفرطة في الفساد، والتي استولت ظلماً وعدواناً على المنطقة التجارية من العاصمة، والتي ضربت الاتحاد العمالي العام والحركة النقابية، وأطاحت مشروع الزواج المدني الاختياري، وأرادت من الإعمار أن يغطي إحدى أخطر عمليات نهب الشعب اللبناني، علاوة على الدين العام الذي ارتفع من ملياري دولار (قبل وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة) إلى أكثر من أربعين ملياراً في نهاية عهده، ذهب منها سبعة مليارات دولار للإعمار، والبقية أكلها النهب والرشوة والهدر والفوائد الفاحشة للمصارف وبينها، على وجه الخصوص، بنك البحر المتوسط الذي يملكه الحريري نفسه. وأبعد من ذلك كان للحريري، بحسب كميل داغر، دور خاص في إنتاج القرار 1559 الذي جمع بين مطلب إخراج سورية من لبنان ومطلب تجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها» (ص 86 ـ 89).
ملاحظات
أولا: حيرتني بعض نصوص هذا الكتاب أيما حيرة. فالصديق كميل داغر يتصدى لوضع خطوط عامة لمشروع الانقاذ في لبنان في صيغة برنامج متشعب ومتكامل (ص 23 و24 و75)، فهو يدعو إلى إصلاح الدولة، وضرب المافيات الوظيفية، واختيار من يستطيع قطع رؤوس الفساد والنهب وتعطيل المؤسسات والاستيلاء على الأملاك العامة وتكبيل البلد بالديون، ثم إصدار قانون انتخابي عصري وديموقراطي على أساس التمثيل النسبي مع إلغاء الطائفية، وإصدار قانون مدني للأحوال الشخصية، وفصل الدين عن الدولة، وعلمنة المجتمع، وإصلاح الأوقاف.
أإصلاح هذا أم ثورة؟ إذ تحقيق هذا البرنامج يحتاج الى ثورة جذرية بالتأكيد، الأمر الذي يعني المحال في الواقع اللبناني بحسب اعتقادي. لقد كان لينين، الذي يحلو لكميل داغر الاستشهاد ببعض أقواله، يقول: «إذا لم تنجدنا ثورات البروليتاريا الأوروبية فمقضي علينا بالفشل»، أي على ثورة اكتوبر 1917. وكان تروتسكي يعتقد أن الاشتراكية في بلد واحد غير ممكنة، وهو على حق، مع أن ستالين ظل يردد أن الاتحاد السوفياتي ليس بلداً واحداً بل قارة. وقياسا على ذلك، فإن تحقيق هذا البرنامج الثوري الذي عرضه كميل داغر، والذي يندرج في إطار الحلم، مرهون بتغير العالم العربي أيضاً، ولا سيما بلاد الشام. لكن، إذا تغيرت الشام على النحو الذي يرغب فيه كميل داغر، وأنا أيضا، فربما صار هذا البرنامج متقادماً وبلا فائدة في ضوء الواقع الجديد، وربما يصبح لبنان جزءاً من اتحاد عربي أوسع.
ثانيا: يطالب كميل داغر بوضع قيود صارمة على إخراج الأموال، واعتماد سياسة حمائية للاقتصاد الوطني، وتصنيع البلد وفقا لحاجاته (ص24). وهذا الأفكار مستحيلة في عالم اليوم، فالحماية، في عصر حرية التجارة وحرية انتقال الأموال غير ممكنة على الإطلاق في البلدان الصغيرة، لأننا لو بادرنا، في لبنان مثلاً، إلى وضع قيود على إخراج الأموال، فسيبادر الآخرون إلى وضع قيود على تدفق الأموال إليه. وإذا اتبعنا سياسة حماية بعض السلع، فسيقوم الآخرون بمنع دخول السلع اللبنانية إلى أسواقهم بذريعة الحماية أيضاً والمعاملة بالمثل.
في إمكان البلدان الصغيرة والضعيفة اقتصاديا مثل لبنان أن تتخصص في انتاج سلع وخدمات ذات قدرة تنافسية عالية، وأن تسعى إلى ذلك بخفض تكلفة الانتاج، وتحسين النوعية، فضلاً عن الاستثمار في تنمية الموارد البشرية… الخ. أما التصنيع فهو أيضاً مهمة غير ممكنة في واقع الحال نظراً إلى ضيق السوق المحلية وارتفاع تكلفة الانتاج. التصنيع ممكن، إلى حد ما، في نطاق سوق عربية واحدة ومتكاملة. وقصارى القول في هذا الميدان ان التصنيع وسياسة الحماية فكرتان تنتميان إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى وقبل التهام أسواق العالم مع انهيار معاهدة «برايتون وودز».
ثالثا: يقول: «لقد كان بين الأسباب الأساسية لانهيار الوحدة بين مصر وسورية في أوائل الستينيات مساعي الهيمنة شبه المطلقة التي مارسها النظام المصري على دمشق، ولا سيما عبر أجهزة المخابرات وعناصر القمع» (ص36). والصورة صحيحة بالتأكيد، لكنني أعتقد ان الهيمنة والقمع ليسا من الأسباب الأساسية. نعم، لقد كان للقمع شأن كبير في نفور السوريين من أجهزة الأمن المصرية. لكن أسباب انهيار الوحدة كانت أبعد من ذلك. كانت الوحدة بحد ذاتها خطراً على المصالح الامبريالية، وكان هناك صراع محتدم على سوريا آنذاك، وتحول إلى صراع متعدد الوجوه بين جمال عبد الناصر والامبريالية نفسها انتهت بسقوط الوحدة، هذا إذا لم ننس المصالح الضيقة للبرجوازية السورية التي كان لها شأن في سقوط الوحدة.
رابعا: يقول «إن وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر كان في سنة 1974 قد أعطى دمشق تفويضاً كاملاً بالسيطرة على لبنان» (ص39). أظن أن هذا الأمر وقع في سنة 1976 وليس في سنة 1974. ففي 2 أيار 1973 وقع الصدام المشهور بين الجيش اللبناني والفدائيين بعدما اكتشفت الولايات المتحدة الأميركية والسلطة اللبنانية اليمينية ان الفدائيين صاروا قوة سياسية لبنانية، وقد ظهر ذلك في المسيرة الكبيرة التي شيعت كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار (200 ألف مشارك). وكان لا بد من ضرب هذه الظاهرة على الطريقة الأردنية، أي على يد الجيش اللبناني. ولسوء حظ السلطة اللبنانية آنذاك أن سوريا ومصر كانتا قد بدأتا العد العكسي لحرب تشرين الأول 1973، وخشيتا من فتح جرح في لبنان يعرقل خططهما العسكرية. فجاء الإنذار السوري المشهور إلى الرئيس سليمان فرنجية، وتوقفت الاشتباكات. هنا بدأت خطة كيسنجر الأولى، أي ضرب الفدائيين، لا على يدي السلطة هذه المرة، بل على أيدي قوى لبنانية تدعمها السلطة وتحميها. وهكذا اندلعت الحرب في سنة 1975. لكن هذه الخطة فشلت، واندحر اليمين اللبناني، وباتت القوات المشتركة، كما نعلم جميعاً، فوق بكفيا. وفي تلك اللحظة قبل كيسنجر مرغماً ان يرسل دين براون إلى المنطقة، وأن يقبل دخول الجيش السوري إلى لبنان الذي كان يتحين الفرص ربما منذ سنة 1920. وكان كيسنجر، إلى ذلك، يرغب في صرف الأنظار عن انسحابه المخزي من فيتنام، ويستعد لعقد اتفاقية سيناء بين مصر واسرائيل. وقد تشابكت أسباب كثيرة لتجعل من اندلاع الحرب في لبنان أمراً محتوماً.
خامساً: يستخدم صديقنا كميل مصطلح «مسيحيي الشرق» (ص77)، وهو مصطلح رهباني إلى حد ما. ولا اخال انه يقصد مسيحيي الصين والهند وإندونيسيا! لذلك اقترح استخدام مصطلح «العرب المسيحيين».
سادسا: في معرض تحليله الثاقب لأسباب اندلاع الحرب اللبنانية في 13/4/1975 يذكر «حركة الصيادين في مواجهة شركة بروتيين الاحتكارية». ومع أنني منحاز بالطبع إلى الصيادين في مواجهة «بروتيين»، إلا أنني طالما تأملت في موقف اليسار اللبناني آنذاك الذي وقف إلى جانب «الحرفة» ضد «الصناعة»، وهو موقف يخالف على طول الخط النظرية الفاسدة عن «التطور اللارأسمالي» التي كان اليسار العربي يروجها في تلك الحقبة.
سابعا: حبذا لو أنني قادر على امتلاك بعض من تفاؤل كميل داغر. فهو يتحدث، بشغف، عن الصراعات الطبقية في المنطقة العربية، بينما عيناي تشاهدان في كل يوم، الصراعات الدينية المندلعة في مصر والسودان، والصراعات المذهبية في العراق ولبنان واليمن، والاثنية في المغرب والجزائر، والقومية في العراق. وهذه الصراعات تُخرس أي صراعات طبقية في ما لو كانت تختلج هنا أو هناك في أرجاء العالم العربي.
[[[
ثمة عبارة مشهورة لمايا كوفسكي تقول: «حيثما أموت سأموت وأنا أغني». وكان غيفارا يردد: «لن أموت على سريري». كان ذلك في عصر الأحلام العظيمة وفي زمن مقارعة السماء كي يستقيم العدل على الأرض. أما كميل داغر الذي بدأ كتابه بعبارة «ينبغي أن نحلم» فقد أنهى صفحاته بحلم عن صديق في أحد سجون العالم العربي.
انه كابوس إذاً، وهذه هي حال العالم العربي.
[ كميل قيصر داغر، «ينبغي أن نحلم»، بيروت، دار التنوير، 2010.
السفير