ما يحدث في لبنان

د. رفيق عبدالسلام يقرأ الوضع العربي من خلال النافذة اللبنانية في دراسة مهمة

null
الدوحة- الراية: ورقة تقدير موقف جديدة أصدرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان قراءة في الوضع العربي من خلال النافذة اللبنانية . الورقة أعدها الباحث بالمركز الدكتور رفيق عبدالسلام وفيها يؤكد أن اتفاق الدوحة يحمل الكثير من مقومات الصمود والثبات لأنه يعبر عن حاجة لبنانية داخلية. وأشار إلي أن نزول عناصر حزب الله للضاحية الغربية من بيروت اضطر الموالاة لإعطاء المعارضة ما ترغب.. فإلي التفاصيل..
ليس ما جري في شوارع بيروت ومنطقة البقاع اللبناني بداية هذا الشهر إلا مؤشرا علي مجمل التغيرات التي طالت توازنات القوي، ليس في الساحة اللبنانية فحسب، بل في عموم الرقعة الشرق أوسطية والعربية . الساحة اللبنانية كما شأنها دوما هي عبارة عن مرآة عاكسة لما يدور حولها من تدافع بين القوي الإقليمية والدولية المؤثرة في أوضاع المنطقة، ولذلك ليس من قبيل المبالغة في شيء القول بأنه يمكن قراءة عموم المشهد الإقليمي، وربما الدولي من خلال ما يطفو علي الساحة اللبنانية من معطيات وما يظهر فيها من متغيرات، خصوصا في حال الأزمات التي يمر بها البلد.
يبدو أن المعادلة التي تشكلت في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري سنة 2005 والتي أعقبها انسحاب الجيش السوري من هناك، ثم تسلم مجموعة 14 آذار مقاليد الحكم في طريقها إلي التفكك التدريجي من غير أن نعرف علي وجه الدقة صورة الوضع الجديد الذي سيحل محلها لبنانيا وعربيا.
ربما يمثل اتفاق الدوحة صيغة تسوية دائمة ومستقرة، بعدما أعيا الصراع قوي الموالاة والمعارضة علي السواء، وتبين العجز عن حسم الأمور بصورة كاملة لصالح أي من طرفي النزاع، وربما يكون مجرد تهدئة مؤقتة علي أمل أن تتضح صورة الوضع الإقليمي والدولي، ثم يحدد كل طرف نوعية التحالفات والوجهة التي سيتخذها لاحقا، وإن كان من الراجح الآن أن هذا الاتفاق يحمل الكثير من مقومات الصمود والثبات. فهو يعبر عن حاجة لبنانية داخلية، بعدما اقتنع فريقا الحكم والمعارضة بأن أياً منهما ليس قادرا علي حسم الأمور لصالحه بالكامل، فضلا عن كونه قد حظي بغطاء عربي ملموس، إلي جانب دعم فرنسي وأوروبي نسبي. هذا إذا استثنينا الموقف الأمريكي الذي يبدو مختلفا وشاذا عن السياق العام.
رغم ترحيب واشنطن المتأخر نسبيا بالاتفاق واعتباره خطوة ايجابية وضرورية علي ما نحو ما ورد علي لسان مساعد وزيرة الخارجية ديفد ولش، إلا أن هذا لا يخفي تململ الأمريكيين ورغبتهم في استمرار الأزمة مفتوحة، خصوصا بعدما عجزوا عن بلوغ الوضع الذي يرغبون فيه. أكثر ما يثير حفيظة الأمريكيين والإسرائيليين من خلفهم، هو إخراج موضوع سلاح حزب الله من دائرة التفاوض، مع الالتزام بعدم استخدامه في الداخل، وإعطاء المعارضة ما كانت ترغب فيه من مطلب الثلث الضامن أو المعطل. ولعل هذا ما حدا بدنس روس المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط في حقبة الرئيس السابق بيل كلينتون وصف اتفاق الدوحة بأنه كارثة علي واشنطن، لأنه منح حزب الله علي حد قوله قوة سياسية لا سابق لها (تصريح لصحيفة الحياة اللندنية، السبت 14 مايو 2008).
لبنان كما هو دوما، ساحة صراع بين استراتيجيات كبري في المنطقة بعضها إقليمي، وبعضها الآخر دولي، بل كثيرا ما يتحول ميدانا لحروب الوكالة الدولية والإقليمية. سوريا فاعلة ومؤثرة بقوة الجغرافيا وميراث التاريخ وعلاقتها بالمعارضة اللبنانية. إيران حاضرة بشكل محسوس عبر القناة السورية ومن خلال روابطها العقدية ودعمها السياسي والمالي لحزب الله والجماعات الشيعة الموالية لها. السعودية تتمتع بنفوذ نشيط بقوة الضخ المالي ودعم الموالين. فرنسا لها بصماتها في الساحة اللبنانية التي تعتبرها بوابة لما تبقي لها من نفوذ ثقافي وسياسي متراجع في المشرق العربي، وذلك عبر صلاتها التاريخية التقليدية بالطائفة المارونية ورأس البطريكية خصوصا. الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الحليف الإسرائيلي تعتبر الرقعة اللبنانية موقعا متقدما لمحاصرة سورية ومواجهة إيران علي خلفية ملفها النووي، وهي إلي جانب ذلك تعتبر تجريد المقاومة من سلاحها وإبعادها عن الحدود أهم مطالبها في المرحلة الراهنة.
لقد تعددت عناوين الصراع بين الموالاة والمعارضة، من العلاقة بسوريا وإيران، إلي المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، إلي المحكمة الدولية وسلاح المقاومة، بيد أن المشهد السياسي بقي يراوح مكانه بين سلطة تعتبر نفسها تمتلك شرعية الأغلبية وبين معارضة نزلت إلي الشارع لإسقاطها بقوة الاحتجاج، لم يقدر أي من طرفي النزاع حسم الأمور لصالحه بما أدخل الوضع اللبناني في حالة من التأزم والتجاذب المزمنين حتي أصبح هذا التجاذب ملمحا ثابتا في الحياة السياسية اللبنانية إلي غاية اتفاق الدوحة. فلا مجموعة 14 آذار تمكنت من رسم المشهد السياسي علي النحو الذي ترغب فيه، ولا القوي المعارضة تمكنت من إزاحتها عن السرايا الحكومية، وهو ما عبر فعلا عن توازن قوي إقليمي ودولي أوسع يمتد إلي ما هو أبعد من هذا القطر العربي الصغير.
القرار الذي اتخذته حكومة السنيوره بتفكيك شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله، وعزل مدير أمن المطار العميد وفيق شقير، ثم نزول عناصر حزب الله وحلفائه إلي الضاحية الغربية من بيروت ومنطقة الجبل، قد حرك الكثير من المياه المتجمدة في الأرض اللبنانية. وبغض النظر عن مدي مشروعية العملية العسكرية التي أقدم عليها حزب الله، ومدي رجحان المصلحة فيها، إلا أن الثابت في كل ذلك أنها قد أفرزت معطيات جديدة علي الأرض غير تلك التي تشكلت عشية الانسحاب السوري سنة 2005 ولعل هذا ما أدي إلي جنوح أطراف الأزمة الجلوس إلي طاولة التفاوض في الدوحة، بعد سلسلة من المحطات التفاوضية الفاشلة قامت بها الجامعة العربية وفرنسا. فقد اضطرت الموالاة مثلا إلي إعطاء المعارضة ما ترغب فيه، من الثلث الضامن، أو حق النقض في الحكومة المزمع تكوينها، بعدما أدركت أنها لا تستطيع البقاء في نفس النقطة التي توقفت عندها قبل الأحداث الأخيرة، كما أن حزب الله وتحت ضغط الاحتقان الطائفي وخاصة التململ الذي ظهر في الصف السني بعد مداهمة أحياء بيروت الغربية، قد اقتنع بأنه لا يستطيع الذهاب بعيدا في الحسم العسكري.
المشهد العربي والإقليمي
مثل الغزو الأمريكي للعراق في شهر آذار-مارس من سنة 2003 نقطة البدء في إعادة تشكل خارطة توازنات القوي في المنطقة، وهو ما انعكس فعلا علي عموم الوضع العربي، وخصوصا الجناح الشرقي منه. أريد لعملية الغزو هذه أن تكون بمثابة شهادة ميلاد للشرق الأوسط الجديد الذي حلم به فريق المحافظين الجدد، الذين أحاط بهم بوش نفسه، كما أريد لها أن تكون إثباتا قاطعا لجبروت الآلة العسكرية الأمريكية، وقدرتها الفائقة علي الإطاحة بالأنظمة وتغيير وجه الجغرافيا السياسية بقوة التفوق الناري، بما من شأنه أن يحدث صدي في سائر عواصم المنطقة الفاعلة، في القاهرة، والرياض، وطهران، ودمشق، وحتي اسطنبول. كان من المفترض، وعلي وقع صدمة سقوط بغداد، أن تلجأ سائر دول المنطقة إلي تغيير سلوكها السياسي، ومن ثم تغدو أكثر استجابة للأجندة الأمريكية أو تواجه نفس المصير الدامي الذي واجهه نظام صدام حسين.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تري في العراق بمثابة القطعة الأولي في حجر الدمينو لدحرجة الوضع العربي والإسلامي برمته، ثم إعادة تشكيله علي نحو جديد. لا شك أن معطي النفط لم يكن غائبا في عملية الغزو في بلد يتوفر علي ثاني احتياط طاقة في العالم بعد المملكة العربية السعودية، إلا أنه في حقيقة الأمر لم يكن سوي عنصرا من بين عناصر أخري أكثر أهمية وحيوية في السياسة الأمريكية. كان علي رأس أهداف الغزو الأمريكي تغيير الجغرافيا السياسية لمنطقة ظل ينظر إليها باستمرار علي أنها بالغة الحيووية من جهة المصالح، مثلما تمثل مركز خطر وتهديد دائمين، ثم إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة.
ما ان أنجزت مهمة الغزو حتي بدأت السياسة الأمريكية في فتح جبهات أخري للمواجهة في عموم المنطقة. التهديد بشن حرب واسعة ضد إيران، أو مواجهة نفس المصير الذي واجهه حكم صدام حسين إن لم تقدم علي تفككيك مشروعها النووي بالكامل، وذلك بموازاة توسيع حشودها العسكرية في منطقة الخليج العربي.
تشديد الضغوط علي الرياض بتهمة دعم الإرهاب والإرهابيين، ابتزاز القاهرة تحت ذريعة نشر الديمقراطية علي خلفية دفعها نحو تسجيل مزيد من التنازلات في ملف التسوية. الإمعان في محاصرة سوريا بتهمة دعم المقاتلين في العراق، ثم دفعها كرها إلي سحب جيشها من الفناء الخلفي اللبناني بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري سنة 2005 أما قوي المقاومة فقد أصبح مطلوبا خنقها وتجريدها من سلاحها.
لا شك أن تفاعلات الغزو الأمريكي للعراق قد تركت بصماتها علي عموم الوضع العربي والإقليمي برمته، ومن ذلك نوعية الصراعات والاصطفافات السياسية سواء داخل بعض البلدان العربية مثل فلسطين ولبنان والسودان والصومال، أو بين الأقطار العربية فيما بينها، ومن ذلك عودة المحاور العربية-العربية، بما يذكر بأجواء الحرب الباردة. كان من النتائج المباشرة لسقوط بغداد تراجع مقومات العمل العربي المشترك، وتفكك المحور الثلاثي المصري السوري السعودي الذي كان أحد أهم رافعات العمل العربي المشترك ومواجهة مشروع التسوية بالشروط الأمريكية الإسرائيلية منذ توقيع أوسلو سنة 93 وما أعقبها.
اتجهت القاهرة تحت الضغوط الأمريكية التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر وغزو العراق، إلي جانب طغيان هاجس توريث الحكم، إلي مزيد من الانكفاء علي نفسها، في الوقت الذي كان المحيط العربي من حولها يزداد التهابا وتعقيدا، من فلسطين إلي لبنان، ومن السودان والصومال، إلي العراق، تاركة خلفها حالة من الفراغ السياسي الهائل مازالت آثاره ملموسة إلي يومنا هذا، بما يمس أسس الأمن القومي المصري في الصميم، قبل أن نتحدث هنا عن الأمن العربي الأوسع. الرياض أضحت تحت سيف تهمة الإرهاب الوهابي التي تحوم فوق رأسها أميل إلي إتباع سياسة أكثر استجابة للمطالب الأمريكية، سواء فيما يتعلق بموضوع التسوية، أو التضامن العربي، أو النفط وغيره، نازلة بسقف سياستها الخارجية، إلي ما دون السقف الذي نهجه الملك المرحوم فهد نفسه.
سوريا تركت لحالها ومن دون غطاء عربي في مواجهة عاصفة غزو العراق ونزع لبنان من بين يديها بعدما أصبح خيار عزلها سياسة أمريكية إسرائيلية بقدر ما هو سياسة عربية أيضا. في مثل هذه الأجواء الصاخبة أصبح الفضاء العربي الواسع حقلا لتجاذب مشروعين كبيرين: مشروع أول، إيراني صاعد من جهة بقوة المطامح القومية، ومطبات السياسة الأمريكية في أفغانستان والعراق، وغياب الدور والرؤية لدي كبريات العواصم العربية، المؤثرة في الوضع العرب؛ ومشروع ثان أمريكي حريص علي تثبيت مواقعه بقوة الأساطيل والقواعد العسكرية المزروعة في المنطقة.
كان الانسحاب السوري من لبنان، ثم ظهور ما سمي بثورة الأرز وتسلم مجموعة 14 آذار مقاليد الحكم تعبيرا عن التوازنات الجديدة التي بدأت تتجمع خيوطها في الساحة اللبنانية، كجزء من مشهد أوسع يشمل عموم المنطقة بعد غزو العراق. وفعلا عززت مثل هذه التطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية الشعور لدي الأمريكان بأن ما يجري في هذا البلد ليس سوي مقدمة لثورة الحرية التي بدأت تدق أبواب منطقة الشرق الأوسط الموصدة، والتي بشر بها الرئيس الأمريكي بوش منذ غزو العراق، وذلك علي منوال الثورات الملونة التي بدأت تتمدد في المجال الإقليمي الروسي في جورجيا وأوكرانيا وكرجيزيا وغيرها. كما أن رحيل، أو ترحيل، الرئيس عرفات قبل ذلك قد رسخ القناعة لدي واشنطن وتل أبيب بأن الساحة الفلسطينية في طريقها إلي التشكل علي النحو الذي يرغبان فيه، ومن ذلك إمكانية عقد تسوية بالمواصفات الأمريكية الإسرائيلية.
أما أحزاب الموالاة المنضوية تحت 14 آذار فقد رأت في الانسحاب السوري من لبنان تجسيدا لتغير المعادلة بالكامل علي حساب المحور السوري-الإيراني وحلفائه في لبنان، وأعادت ترتيب وضعها ورسم تحالفاتها علي هذا الأساس. بعض أطراف المعارضة ذهب في روعها أن النظام في دمشق يسير حتما نحو الانهيار الكامل، وأن المسألة مسألة وقت ليس أكثر، وبعضها الآخر راودته فكرة استخدام لبنان مخلبا في وجه سوريا لمزيد إيلامها وعزلها. ولعل هذا ما يفسر الاستهداف الشخصي وغير المسبوق للرئيس السوري من طرف بعض الزعامات اللبنانية بشكل يخرج عن تقاليد العمل السياسي اللبناني المعهود.
إلا أنه تبين فيما بعد أن كل هذه التوقعات كانت أشبه ما يكون بالحمل الكاذب، فلا احتلال العراق حقق ما كانت تخطط وتطمح له الإدارة الأمريكية، ولا ثورة الأرز في لبنان تحركت في الاتجاه المتوقع منها أمريكيا، ولا غياب الرئيس عرفات قد أعطاها ما كانت ترغب فيه. تبين أن القاطرة الأمريكية وعلي عكس ما كان يتصور الكثير لا تسير ضرورة في اتجاه تصاعدي وبسرعة فائقة علي ما كان يظن، بل هي واجهت عقبات كثيرة حدت من سرعتها، وعطلت حركتها أصلا في بعض الأحيان. فقد تمكن بمحورا الممانعة المسنود بقوي شعبية واسعة، ثم مشاعر الغضب المتصاعدة ضد السياسة الأمريكية من كبح جماح المشروع الأمريكي ومحاصرته.
أما مقولة الحرية وجلب الديمقراطية التي جعلتها أمريكا عنوان حروبها في المنطقة فقد ارتدت عليها في مصر ولبنان وفلسطين، وأصبحت كلفتها أعلي بكثير من المكاسب المفترض تحصيلها، خصوصا بعدما تبين أن ما يسمي بقوي الممانعة هي المستفيد الأكبر من مشروع الدمقرطة في المنطقة.
مثلما كان منتظرا لأي نجاح أمريكي في العراق أن تكون له نتائج واسعة النطاق علي عموم الرقعة العربية والشرق أوسطية، فإن أي فشل، أو تعثر كذلك، لا بد من أن تكون له كذلك تداعيات وارتدادات في سائر عواصم المنطقة، وهذا ما نري نتائجه علي الأرض في عموم المنطقة تقريبا. ما زاد في تعقيد وضع الولايات المتحدة الأمريكية أنها قد رسمت لنفسها مهمات كبيرة وشاقة في العراق وعموم المنطقة، ربما عجزت جل القوي الامبريالية السابقة من قبلها عن تحقيقها منذ الحملة النابليونية علي مصر لقد تبين فعلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، وبحكم قوة عضلاتها العسكرية، أنها قادرة علي الإطاحة بأي وضع قائم، خاصة حينما يتعلق الأمر ببلد صغير أو متوسط الحجم مثل العراق، ولكنها مع ذلك لا تستطيع إعادة تركيبه علي الصورة التي ترغب فيها أو خططت لها، وهذا ما بدا جليا في العراق وأفغانستان والصومال ولبنان وفلسطين.
ليس من المبالغة في شيء القول أن عموم المنطقة تعيش اليوم، علي وقع المأزق الأمريكي في العراق وأفغانستان، يضاف إلي ذلك فشل الحرب الإسرائيلية علي لبنان صائفة 2006 هذا ما منح عموم القوي المناهضة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة فرصة ذهبية لالتقاط أنفاسها، بل تعزيز وضعها، ومراكمة مكاسبها، مقابل تضعضع القوي المرتبطة بالمشروع الأمريكي، أو حتي تلك المترددة في مواجهته.
يحرص الخطاب الأمريكي والغربي عامة علي تصوير المشهد السياسي في المنطقة علي شاكلة تقابل حدي وقاطع بين ما يسميه معسكر اعتدال من جهة، يضم مصر وتركيا ودول الخليج، زائد إسرائيل، ومعسكر تطرف من الجهة الأخري، يمتد من طهران، ويمر إلي دمشق، ليصل إلي بيروت وغزة. وفعلا يرغب الأمريكان في تحويل الاصطفاف السياسي في المنطقة علي هذه الصورة، وبعيدا عن ملف الصراع العربي الصهيوني، بيد أن مجريات الأمور علي الأرض تبدو أكثر تعقيدا وتداخلا.
عند التحقيق يتبين أن ما يسمي بمعسكر الاعتدال الذي تريد تشكيله الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة إيران لا يرتقي فعلا إلي اكتساب صفة المحور أصلا، نظرا لوجود قضايا خلافية كثيرة بين الأطراف المنضوية تحته، وخاصة فيما يتعلق بملف الصراع العربي الإسرائيلي.
فأكثر الدول العربية اعتدالا لا تستطيع ابتلاع المطالب الأمريكية، أو الذهاب بعيدا في الانضمام إلي حلف توجد فيه إسرائيل، وتتولي رعايته أمريكا، لأنه بكل بساطة يعرض وضع النظام للخطر الداخلي أصلا. كما أن الطرف المقابل الموصوف بمحور الممانعة أو التطرف فهو لا يقل تداخلا في الألوان والأشكال بدوره بما ينفي عنه صفة الحلف أو المحور أصلا. إيران عينها أساسا علي السلاح النووي، ودفع المخاطر علي حدودها من الجبهتين العراقية والأفغانية. سوريا تتركز أولويتها علي فك العزلة من حولها واستعادة لبنان.
حركات المقاومة تدافع عن قضاياها وسلاحها المهدد بالمصادرة، ولكن الثابت في كل ذلك أن هذه القوي الرسمية والشعبية، علي اختلاف أجندتها وأولوياتها، وجدت نفسها موضوعيا في مواجهة المشروع الأمريكي، ومن خلفه الإسرائيلي طوعا أو كرها.
من المؤكد هنا أن القوي المناهضة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي، والتي أصبح الاسم الرائج لها اليوم محور الممانعة أو محور التطرف أصبحت في وضع أفضل مما كانت عليه، وتمكنت من تعزيز مواقعها خلال السنتين الأخيرتين علي الأقل. فإيران وفي زحمة انشغال الأمريكيين بالساحتين العراقية والأفغانية، تقدمت خطوات كبيرة في مشروعها النووي. سوريا استطاعت وبصورة متزايدة من فك حبل المشنقة من حول رقبتها بسبب مصاعب الأمريكيين في العراق، والعجز عن ترتيب وضع لبناني علي حسابها، كما أن تعزيز علاقتها بالجار التركي، فضلا عن صلاتها الوثيقة بطهران، قد أعطاها هامشا أوسع للحركة. عموم القوي الشعبية المناهضة للسياسة الأمريكية في المنطقة، من الحركات الإسلامية، والقومية، والوطنية تزايد نفوذها وتأثيرها في الأحداث.
وعلي الجهة الأخري فإن مجمل القوي التي ارتبطت بالمشروع الأمريكي علي نحو أو آخر باتت اليوم في وضع مأزوم وقلق من كابول وإسلام أباد إلي بغداد ومن رام الله إلي بيروت. وحتي مصر والسعودية رافعتا النظام السياسي العربي الرسمي ازدادت مصاعبهما بسبب التخبط وغياب الرؤية والعجز عن مواجهة السياسة الهجومية الأمريكية الإسرائيلية.
طبعا إيران التي تعد إحدي حلقات ما يسمي بمحور الممانعة، تبدو بالغة التركيب والتعقيد يختلط فيها المعطي المذهبي، بالمعطي القومي الفارسي، بالعنصر الإسلامي الثوري، وسياستها الخارجية تعكس هذا التركيب بكل توتراته وتناقضاته، علي نحو ما نري ذلك اليوم في العراق.
مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية، كما هي مشكلة القوي التي ارتبطت بها أنها لم تحسن قراءة المتغيرات الجارية في توازنات القوي بما يكفي من الدقة، ولذلك فاجأتها أحداث بيروت مثلما فاجأتها أحداث غزة قبل ذلك. لقد ظلوا يتصرفون بعقلية المنتصر إلي الأبد، وأن الطرف الآخر في وضع المهزوم والمحاصر من دون تقدير العواقب الناتجة عن ورطة العراق وأفغانستان.
ولعل خطاب بوش في شرم الشيخ يوم السبت 18 مايو من الشهر الجاري يعكس مثل هذه المفارقة الغريبة، أو لك أن تقول هنا الغيبوبة عن إدراك المتغيرات الجارية في وضع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وعموم الساحة العالمية.
فقد ظل الرجل يتحدث عن العراق وأفغانستان نموذجا ملهما لمشروع الديمقراطية الذي بشر به في الشرق الأوسط، مثلما ظل يشهر عصا التهديد والوعيد في وجه الخصوم، ويقرع المحسوبين علي الحلفاء أو الشركاء، كأن لم يتغير شيئا من حوله.
الخطوة التي أقدمت عليها حماس بالاستيلاء علي غزة وطرد أجهزة السلطة الفلسطينية من هناك، لا يمكن بأية حال من الأحوال القول بأنها لا تحمل في طياتها الكثير من السلبيات والمخاطر التي تطال الوضع الفلسطيني، كما أن إقدام حزب الله علي استخدام سلاحه في الداخل اللبناني قد أثار عليه حساسيات كثيرة، سواء في الداخل اللبناني، أو في المحيط العربي الأوسع، بيد أنه من الثابت أنه ما كان لحماس أو حزب الله أن يقدما علي تلك الخطوة بالهجوميةا لولا شعورهما بأن الأرض باتت تهتز من تحت أقدام الواقفين علي المشروع الأمريكي، وفعلا، لولا هذه التغيرات الكبيرة التي طالت موازين القوة في المنطقة ما كان لغزة هذه الرقعة الصغيرة والمحاصرة أن تصمد أصلا كل هذه المدة، وما كان للقوي اللبنانية أن تصل إلي تسوية الدوحة علي النحو الذي نراه.
ما ذكرناه أعلاه من متغيرات كبيرة طالت وجه المنطقة وخارطة توازنات القوي فيها يجعل من الوضع بالغ الخطورة، ومنفتحا علي إمكانيات متعددة، بما في ذلك احتمال شن الحرب ضد إيران. فالأمريكيون، وشريكهم الإسرائيلي من خلفهم، لن يسلموا بسهولة بتشكل حالة جديدة علي حسابهم، ولصالح خصومهم، خصوصا إذا تعلق الأمر بمن صنفوهم في دائرة محور الشر والتطرف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى