صفحات العالمميشيل كيلو

يا عمال العرب، أفيقوا!

ميشيل كيلو
لم يعد أحد يتذكر أن للعمال عيداً، مع أن عيدهم كان في الماضي القريب جدا مناسبة سياسية واجتماعية وطنية تثير قدرا هائلا من الاهتمام، تحتفل بها كل عام قطاعات واسعة من الشعب، وها هو يمسي اليوم مناسبة قليلة الأهمية، نسيتها قطاعات واسعة من العمال أنفسهم، يرتبط تراجع أهميتها وأعداد الذين ينتبهون إليها بتراجع دور «الطبقة العاملة العربية» ومكانتها، بعد أن تحولت إلى جماعة مشتتة ومجردة من القوة، فقدت خلال السنوات الأربعين الماضية ما كانت قد نالته من استقلالية وحضور اجتماعي مباشر من خلال نقاباتها، وغير مباشر عبر الأحزاب السياسية، التي نسبت نفسها إليها، أو تصارعت على تمثيلها.
لا يعرف أحد بدقة عدد العمال العرب. يقدر بعض المتابعين حجم ما يسمونه «الطبقة العاملة العربية» بما يزيد عن مئة مليون امرأة ورجل، بينما يقدر عدد العاطلين من العمل منهم بحوالى ستة وعشرين مليونا. يحصل العمال العرب، الذين يعادلون وأسرهم قرابة 65% من العرب، على أكثر قليلا من 20% من إجمالي الدخل الوطني لبلدانهم، بينما يحصل العمال الأوروبيون على ما بين 65 و70% من هذا الدخل! بهذه النسبة الهزيلة التي تلقي بالعمال إلى ما تحت خط الفقر، وببنية المصانع العربية، التي يشغل 96% منها في بلدان عربية عديدة منها سوريا أقل من أربعة عمال، يصعب تحول العمال العرب إلى قوة منتجة أو مستهلكة أو مدخرة. إنهم بالأحرى كتلة هائلة الحجم من المحرومين، تفتقر إلى تعريف وهوية محددة، وإلى مستوى مقبول من الدخل، لذلك يصعب اعتبارها طبقة حديثة أو صناعية بمعنى الكلمة، ويصعب النظر إليها بوصفها حامل التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام، المستقل عن غيره من تكوينات المجتمع. إنها بالأصح خليط تتجمع فيه أعداد هائلة من الفقراء والمظلومين، الذين يعملون في ظروف قاسية، ليس لهم فيها حقوق واضحة يستطيعون الدفاع عنها بأنفسهم أو عبر نقاباتهم، فإن حدث وخاضوا نضالا من أجل مطلب ما، كان نضالهم جزئيا وقصير النفس ووقع في جو يخلو من أي تضامن اجتماعي أو سياسي معهم، بعد أن تلاشت أحزاب كانت تنسب نفسها إليها وغاب دورها بصورة تكاد تكون تامة، وتحولت نقابات«هم» عن وظيفتها الرئيسة في حماية حقوقهم والحرص على مصالحهم وتطوير مؤهلاتهم ودورهم التقريري في الاقتصاد، وانقلبت إلى نقابات سياسية لا هم لها غير إبعادهم عن الحياة العامة، وتشويه وعيهم كطبقة ذات مصالح متميزة، وحشدهم وراء نظم بلدانهم السياسية: في مناسبات متفرقة ومتباعدة، ذلك أن هذه النقابات تابعة للدول، وهي على العمال وليست لهم، لذلك تمتنع عمداً عن المطالبة بأي أمر يخصهم، كزيادة أجورهم وتحسين أحوالهم. وتقيد نفوذهم وحضورهم في العملية التنموية والإنتاجية، ولا تحافظ حتى على قوامهم كفئة أو كطبقة اجتماعية خاصة، مع أن انتسابهم إليها، (الذي يحرمهم من الحق في ممارسة حراك حر ومباشر يقومون به بأنفسهم)، إجباري في معظم الدول العربية، فلا نفع أو فائدة لهم فيه، علما بأنه يعطيهم شيئا يستحق الذكر ويأخذ منهم كل شيء، وخاصة دورهم كقوة اجتماعية لو كانت منظمة وذات وعي طبقي متبلور لكانت فائقة القدرة، ولاستطاعت الحصول على ما ترغب، في الدولة والمجتمع.
ليست طبقة لنفسها
تفتقر الطبقة العاملة العربية إلى حضور مؤثر في بلدانها، اجتماعياً أكان هذا الحضور أم اقتصادياً أم ثقافياً. وليس لهذه الطبقة أهداف تتخطى حالها أو الحال العربي الراهن، فهي ليست طبقة لنفسها أو لمجتمعها، وليست مؤهلة، من حيث درجة تنظيمها ووعيها، لأي دور غير الذي تمارسه كتجمع هائل للفقراء، المحرومين من حق الدفاع عن أنفسهم وحق امتلاك تمثيل مستقل خاص بهم. يرجع جزء من أسباب وضع العمال إلى ارتباط معظم قياداتهم بمنظمات وسياسات رسمية مناوئة للعمال، وفساد هذه القيادات وسعيها إلى تحقيق مصالح شخصية وخاصة بدلا من مصالح الذين تزعم تمثيلهم، وافتقارها إلى الشعور بالانتماء إلى الطبقة العاملة، وتاليا إلى الرغبة في الدفاع عن مصالحها ودورها التاريخي، وهي تتصرف كمن يخجل من الانتماء إلى قاع المجتمع السفلي، حيث العمال.
بالمقابل، يرجع وضع العمال الراهن إلى تهتك وعيهم الطبقي، وتدني مستواهم المعرفي والعلمي، وضمور اهتمامهم السياسي ومحدوديته، وضعف إحساسهم بأنهم جزء من طبقة يمكن أن تكون، وبوسعها أن تصير، هائلة القوة، من الضروري التضحية من أجل أن يكون لها دور وأهداف، ما دام عائد التضحية سيعود بالنفع على العمال أنفسهم.
ولعله مما يضعف شعوبنا أشد الضعف أن من يعملون من أبنائها بأيديهم وعقولهم لا يعرفون كيف يكونون عمالا، حتى إن أرادوا ذلك، وأن قيادتهم العليا ليست منهم بالاختيار وإن كانت مفروضة عليهم بالانتماء، وقيادتهم الوسطى والمباشرة ترى في نفسها فئة من إدارة السلطة، تكمن وظيفتها في مراقبة العمال مقابل السماح لها بالتكسب على حسابهم، فهي جزء من بيروقراطية الدولة وليست جزءا من المجتمع، وهي تمارس في حالات كثيرة مهمات أمنية ووظائف تشبه أو تماثل وظائف البيروقراطية في قطاعات الدولة الأخرى، فليس القصد من عملها تحقيق المصالح الخاصة بالطبقة العاملة، بل الحفاظ على النظام الاجتماعي والسياسي العام، وأخذ الطبقة العاملة إلى مواقع تهمشها تقلع فيها عن لعب أي دور، خاصة إن كان يجسد مصالح طبقية واضحة تجاه الدولة وطبقات المجتمع وفئاته غير العمالية، وكان يضمر بعض التعارض مع مصالح غيرها من الفئات، ويمكن أن يتسبب في إعادة نظر جدية ببعض القضايا المهمة كإعادة توزيع الدخل، والمشاركة في تقرير شؤون وإدارة المصانع والعملية الإنتاجية، وتخصيص العمال بخدمات وعوائد تجعل منهم قوى منتجة ومستهلكة ومدخرة، تقابل رأس المال بالنسبة إلى عالم العمل، والسلطة على مستوى المجتمع، وتمتلك دورا كبيرا ويزداد باطّراد في الشأن العام.
أخيرا، تقبع في أسفل سلم الطبقة العاملة كتل بشرية هائلة العدد، تفتقر إلى أية حقوق، تنازلت ـ أو أجبرتها ظروف السياسة على التخلي ـ عن دورها الخاص، جزئيا كان أم عاما. فهي قطاعات وفرق متناثرة متنافسة، تنتهي وحدتها وتتقطع صلاتها مع توقفها اليومي عن العمل، وهي تابعة لغيرها من الطبقات، تفتقر إلى تمثيل حر، نقابيا كان أم سياسيا، يشوش وعيها السياسي المتدني وعيها الطبقي الأكثر تدنياً، وتحد طرقها المتنوعة لكسب العيش، في المصنع كما في خارجه ـ يمارس معظم العمال العرب أعمالا أخرى غير عملهم الأصلي ـ من صفتها وهويتها الطبقية، فلا يعرف قسم كبير من المنتسبين إليها كيف يصف نفسه، فإن عرف حار في تعيين هويته الشخصية ومكانه من المجتمع. ولعله من اللافت أن معظم هذه الكتلة البشرية الضخمة يعتبر نفسه من الفقراء إن سئل عن هويته، بدل أن يعد نفسه من العمال. انتشر هذا الوضع بعدما أقلعت جميع الأحزاب عن تمثيله والتذكير بمصالحه، وأدخلت في روعه أنه فقير لأنه عامل وعامل لأنه فقير، فالفقر هو صفته الرئيسة وليس الانتساب إلى عالم العمل.
أين نحن؟
ذات يوم من عام 1959، رفض عمال مرفأ أميركي شحن باخرة مصرية بالقمح. في اليوم التالي رد العمال العرب بمقاطعة شاملة للطائرات والسفن الأميركية في جميع البلدان العربية، دون أن يدعوهم أحد إلى ذلك. وبعد يومين، أنهى العمال الأميركيون مقاطعة الباخرة المصرية ففتح العمال العرب الأجواء والبحار العربية، التي أغلقوها في وجه كل ما هو أميركي. أين نحن اليوم من هذا الأمس؟ أين نحن من عمال مصر الذين قاتلوا ضد الاستعمار والظلم الاجتماعي منذ عشرينيات القرن الماضي؟ أين نحن من عمال السودان، الذين أسقطوا الدكتاتوريات العسكرية كدكتاتورية عبود؟ وأين نحن من عمال العراق، الذين أذاقوا الإنكليز وحلفاءهم الداخليين الأمرّين؟ أين عمال المغرب، قادة وقاعدة النضال ضد الاستعمار والملكية؟ أين عمالنا العرب في كل قطر ومصر من أسلافهم، الذين سارعوا إلى نسف خطوط النفط البريطانية والأميركية، عندما غزت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل مصر عام 1956، دون أن يطالبهم أحد بذلك، واستمروا في مقاطعة كل ما له صلة بالمعتدين، طيلة أشهر بعد العدوان؟
ليست الطبقة العاملة كياناً قليل الأهمية في المجتمع الحديث. إنها حامل ومنتج وقوة دفع التقدم. وليس أمراً قليل المعنى أن يكون تدهور أحوال مجتمعاتنا العربية متصلا أوثق اتصال بتدهور أحوال عمالها وبالعكس. ليس ممكناً اليوم، ولن يكون ممكناً في المستقبل أيضا، الخروج من مأزقنا العصيب والشامل، إن بقي العمال مجرد فئة فقيرة، منخلعة طبقياً، متأخرة سياسياً، قليلة الوعي والمعرفة، غائبة عن نفسها وبلدانها.
لقد حملت الطبقة العاملة العربية قسطاً وافراً من أعباء النضال الوطني: السياسي والاجتماعي والتنموي في الماضي القريب، لأنها كانت تعي دورها كطبقة حديثة يستحيل أن يتقدم المجتمع دون جهودها ودورها. واليوم، وبمناسبة عزيزة جداً على قلب كل من يعرف أهمية العمل، يجب أن نقول: يا عمال الوطن العربي، أفيقوا من سباتكم، أنقذوا أنفسكم، وأنقذونا من حاضر سد دروب مستقبلكم ومستقبل شعوبكم ودولكم!
السفير

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى