صفحات أخرى

التنوّع اللغوي يحتضر

جيروم شاهين
برج بابل اللغوي الكوني يحترق.
تخبرنا التوراة أن أبناء نوح أرادوا بناء برجٍ عالٍ جداً يصل إلى حدود السماء. إلاّ أن الله قد أفشل مشروع تحدّيهم جبروته وعظمته. ففيما كانوا يبنون برجهم شتّت الله ألسنتهم (لغاتهم المتعدّدة). فما عاد بعضهم يفهم لغة بعضهم الآخر فسقط برج بابل.
يشير إحصاء علمي، أجراه اختصاصيون يعملون لحساب منظمة اليونيسكو، أن هناك حالياً ستة آلاف لغة محكيّة في مجمل الكرة الأرضية. وتوصّلت أبحاث هؤلاء إلى النتيجة التالية: تسعون في المئة من اللغات المحكيّة في الكرة الأرضية ستنقرض مع نهاية هذا القرن.
ما هي الجغرافيا اللغوية الراهنة في العالم؟ ولماذا مع بداية ظاهرة العولمة وانتشارها، معظم لغات العالم مهدّدة بالانقراض؟
بدايةً، إذا كان برج بابل اللغوي الكوني يحتضن اليوم ستة آلاف لغة محكية (قليلها مكتوب)، فإن 97 في المئة من سكان العالم يتخاطبون بواسطة 4 في المئة فقط من اللغات المحكية في العالم راهناً. فمعظم اللغات لا يحكيها إلاّ عدد قليل من الناس. فهناك، على سبيل المثال، 10 في المئة من لغات العالم ينطق بكل منها عدد من الأشخاص يقلّ عن المئة شخص.
تتوزّع اللغات في مناطق العالم على الشكل التالي: أميركا الشمالية 230 لغة (تتفرّع من 50 لغة أصل، أو أم)، أميركا الوسطى 300 (14 أصلاً)، أميركا الجنوبية 419 (93 أصلاً)، أوروبا 209 (6 أصول)، افريقيا 1995 (20 أصلاً)، شمال آسيا 380 (12 أصلاً)، جنوب آسيا 1400 (10 أصول)، اوستراليا 234 (15 أصلاً)، سائر جزر المحيط الهادي 250 (4 أصول)، غينيا الجديدة 1109 ( 27 أصلاً).
اللغات، كالجماعات البشرية، تنمو بسرعة أو ببطء. تتمتّع بالصحة والعافية وتعتلّ فتعالج من دائها لتتماثل إلى الشفاء أو يخفق الأطباء في علاج أمراضها فيشتدّ عليها المرض وقد يودي بحياتها. يتكاثر عدد الذين ينطقون بها أو يتضاءل.
توصّل اختصاصيو اليونيسكو في دراستهم عن وضع اللغات في العالم ومستقبلها إلى وضع إحصاءات عديدة تتناول العديد من وجوه ماضي وحاضر ومستقبل اللغات في العالم. من تلك الإحصاءات نذكر اثنين. الأول عن اللغات العشر الأولى الأكثر انتشاراً في العالم ، وجاءت النتائج بالترتيب التالي:
1- الصينية (ويحكيها 1113 مليون شخص ـ والأرقام هنا، وفي ما يتبع، بملايين الأشخاص)، 2- الإنكليزية (372)، 3- الهندية/ الأوردو (316)، 4- الإسبانية (304) ، 5- العربية (201)، 6- البرتغالية (165)، 7- الروسية (155)، 8- البنغالية (125)، 9- اليابانية (123)، 10- الألمانية (102).
الثاني، وبالمقارنة بين ما كان عليه انتشار اللغات العشر الأوائل في العام 1995، وما يُتوقّع أن يكون عليه الترتيب في الانتشار، في العام 2050 إنما فقط في الفئة العمرية 15-24 عاماً، جاء الترتيب كالتالي: (الأرقام هي أيضاً بملايين الأشخاص) 1- الصينية (166)، 2- الهندية/ الأوردو (73,7)، 3- العربية (72,2)، 4- الإنكليزية (65,0)، 5- الاسبانية (62,8)، 6- البرتغالية (63,5)، 7- البنغالية (31,6)، 8- الروسية (14,8)، 9 – اليابانية (11,3)، 10- الماليزية (10,5).
يلاحظ: غياب اللغة الفرنسية في المراتب العشر الأولى حالياً ومستقبلاً ـ زيادة انتشار العربيّة ـ تراجع الروسية ـ غياب الألمانية في أوساط الشباب في العام 2050.
أما العناصر التي تدخل في إطالة عمر اللغة ونموّها وحيويّتها فأهمّها: توارث اللغة ما بين الأجيال. وهذا العنصر هو، في نظر الاختصاصيين، أهمّ من كثرة عدد الذين يحكون اللغة. العنصر الثاني يتكوّن من مجالات استخدام اللغة وبالتالي من قدرتها على التكيّف مع أوضاع حياة الذين يتحدّثون بتلك اللغة ولا سيما عندما تتغيّر أوضاع هؤلاء. العنصر الثالث يتكوّن من مدى استخدام اللغة في وسائل الإعلام المختلفة. العنصر الرابع يتكوّن من توفّر الأدوات التربوية التي تساعد اللغة على النمو والانتشار والتجدّد، ووجود انتاج أدبي يستخدم تلك اللغة. أما العامل الأخير فيتكوّن من موقف السلطات الرسمية حيال اللغة، أي السياسة التربوية والثقافية التي تنتهجها تلك السلطات، وكذلك موقف الجماعة من اللغة التي تستخدمها. وهنا يجب التنويه إلى أن بعض الجماعات تحتقر لغتها، أو أقلّه لا تعتز بها، بينما نجد جماعات أخرى لا تتمسّك فقط بلغتها وتعتزّ بها بل أيضاً تجعل من تطوير لغتها والعناية بها ونشرها رسالة تأخذها على عاتقها.
تذكر إحدى الباحثات أن اللغة “الكويشية” في أميركا اللاتينية يحكيها أكثر من ثمانية ملايين شخص. ولكن، لما كان الأطفال والشباب، في عدد من المناطق يتكلمون الإسبانية، فإن اللغة “الكويشية” ستنقرض بعد ثلاثين عاماً. وبالمقابل، فإن بعض القبائل الصغيرة الأمازونية تتمكّن من المحافظة جيداً على استمرارية لغتها. وتضيف الباحثة: “إن لغة تلك القبائل بصحة جيدة جداً، بينما الناس هناك هم، جسدياً، في خطر بسبب الأمراض والأوبئة والهجرات القسرية”…
لا شك أن الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث كان له أثر كبير، وفي آن معاً، على لإضعاف اللغات الأهلية كما على دفع الأهلين، بردّة فعل، إلى التمسّك بلغاتهم. فاستخدام اللغة الأهلية في تلك الحقبات كان عملاً نضالياً. كما يُذكر أن الإرساليات البروتستانتية ساهمت أحياناً في إنعاش اللغات الأهلية وذلك بسبب عمل تلك الإرساليات على التبشير من خلال ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات المحلية.
اليوم، تطلق منظمة اليونيسكو برامج دولية لحماية اللغات الأهلية من الانقراض. وحسناً تفعل. فانقراض لغة هو خسارة لا تعوّض لمعارف ثقافية وتاريخية وبيئية فريدة في نوعها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى