125 عاماً على رحيل الصحافي المناضل أديب اسحق
“تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلاً”
كرم الحلو
في زمن الانقسامات العربية وتراجع الخطاب الوطني والقومي وانبعاث العصبيات الطائفية المذهبية والاثنية التي تهدد العالم العربي بالتفتت والتشرذم، يجدر التوقف أمام الذكرى الخامسة والعشرين بعد المئة لوفاة أديب اسحق، أحد رواد النهضة القومية والصحافة الملتزمة بوحدة الأمة العربية واستقلالها في أحلك أيام الاستبداد العثماني.
توفي أديب اسحق عام 1885 ولمّا يكمل تسعة وعشرين عاماً، لكن اسهاماته في النهضة العربية الحديثة، على رغم عمره القصير، تميزت بالعمق والأصالة والجدية، وقد بلغت جرأته في الدفاع عن قضايا العرب والشرقيين عموماً ما جعل مارون عبود يدعوه بحق “كاتب نضال”.
ولد عام 1856 في دمشق من أسرة أرمنية. تعلم في مدرسة الآباء اللعازاريين، ونبغ باكراً فنظم الشعر في العاشرة. غادر المدرسة في الحادية عشرة ليعمل في الجمارك، ودأب على دراسة التركية حتى أتقنها. ثم انتقل الى بيروت فانغمس في جوها الأدبي، وتولى رئاسة جمعية “زهرة الآداب” حيث ألقى الخطب والقصائد والمحاضرات. عرّب في هذه الفترة مسرحية “أندروماك” لراسين وشارك سليم النقاش في تعريب بعض الروايات.
جاء القاهرة عام 1876 حيث التقى الرائد النهضوي جمال الدين الأفغاني وانخرط في حلقته، فساعده عام 1877 على إصدار صحيفة “مصر” التي ما لبث أن نقلها الى الاسكندرية ليصدر معها، وبالتعاون مع سليم النقاش صحيفة “التجارة” اليومية سنة 1878. وإذ حملت الصحيفتان على الأجانب، أقفلتا عام 1879 فهاجر أديب الى باريس حيث أعاد إصدار صحيفته “مصر” كاتباً في افتتاحيتها: “هذه صحيفة مصر، طواها الاستبداد فماتت شهيدة ثم أحيتها الحرية فعاشت سعيدة. ومقصدي أن أثير بقية الحمية الشرقية وأُهيّج فضالة الدم العربي، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، وأحيي الغيرة في قلوب العارفين، ليعلم قومي أن لهم حقاً مسلوباً فيلتمسوه، ومالاً منهوباً فيطلبوه، ويستميتوا في مجاهدة الذين يبيعون أبدانهم وأموالهم وأوطانهم الى الأجانب. فمن مات دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن عاش بعد أولئك الشهداء فهو سعيد”.
كتب أديب في الصحف الفرنسية، وحضر جلسات مجلس الأمة، وأقام علاقات مع بعض رجال الدولة والفكر، وقد عبّر الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هيغو عن اعجابه به بقوله: “هذا نابغة الشرق”. لكنه ما لبث أن أُصيب بالسل فقفل عائداً الى بيروت، ليغادرها الى مصر حيث اختير سكرتيراً ثانياً لمجلس شورى النواب. وأعاد هناك إصدار صحيفته “مصر” التي عطّلت مجدداً، فرجع الى بيروت وتوفي بعد عودته بثلاثين يوماً، فحزن عليه الأفغاني ورثاه في “العروة الوثقى” قائلاً: “غالت نائبة الدهر، طراز العرب وزهرة الأدب صفيّنا أديب اسحق”.
شدد أديب اسحق في صحافته على الدقة في اختيار الأخبار، والحرص على قوة التعبير الأدبي وتجنب مبتذل الكلام وعاميّه واحترام الأفكار بلا استثناء حتى في حال تناقضها مع فكره. ولم تقتصر صحافته على الخبر، بل اعتمدت التحليل والتعليم وتصدت لموضوعات علمية واجتماعية، على الرغم من ميله الى الشعر والخطابة.
حفظ صديق أديب جرجس نحاس مجموعة من أشعاره ورسائله ومقالاته وخطبه وترجمته لرواية أندروماك، ومجموعة مقالات بعنوان “الدرر” نشرها في الاسكندرية عام 1886.
فكر أديب الوطني والقومي
دعا أديب اسحق الى يقظة العرب ووحدتهم القومية في مرحلة مبكرة من تاريخ النهضة العربية الحديثة. آلمه تخلّف العالم العربي وانقسام أقطاره وعجزها عن مواجهة المطامع الأجنبية، فقارن عظمة ماضي العرب ببؤس حاضرهم مستثيراً غيرتهم وحميتهم لينهضوا من جديد. يقول في مقال بعنوان “الشرق” عام 1880 “ألستم في الارض التي أقلتهم، وتحت السماء التي أظلتهم، أوليس ماؤكم هو الذي وردوه، وهواؤكم هو الذي انتشقوه، فما بالكم تعجزون عما استطاعوه؟”. ويمضي متسائلاً: “ما للحجاز محجوز الأنوار، وما للشام مشؤوم الأحوال، وما لمصر مقرونة الطالع بالعسر، وما للعراق مؤذن العز بالفراق، وما لحلب متوالية النوب، وما لليمن فاقد اليمن، وما لتونس عديمة الأنس… ألم يكن في كل هذه الأقطار نفر من أولي تبعثهم الغيرة والحمية، على جمع الكلمة العربية فيتلافون أحوالهم قبل التلاف متوازرين كالبناء المرصوص لا تؤثر فيه العواصف؟”.
ويذهب اسحق الى حد الدعوة الى مؤتمر لزعماء الأمة “يتذاكرون فيه ويتحاورون ثم ينادون بأصوات متفقة المقاصد كأنها من فم واحد: هلم ننشد الضالة، ونطلب المنهوب، لا نقوم في ذلك بأمر فئة دون فئة، ولا نتعصّب لمذهب دون مذهب. فنحن في الوطن إخوان تجمعنا جامعة اللسان”. ويخاطب اسحق أهل الشرق عموماً بقوله: “فيا بني الشرق انشطوا من عقال الخمول، وأثبتوا للغرب أنكم بضعة القوم الذين وطئوه بمناسم خيلهم، وأناروه بجذوة فضلهم”. ويسخر من الذين يدّعون أن “الدول الشرقية لا تألف المدنية ولا تستطيع دخول أبواب النجاح” فيؤكد فضل الشرق على الغرب في العلوم والآداب بقوله: “إن إنسان الغرب على جلالة قدره ورفعة شأنه، لم يهتد الى الخروج من ظلمات الضلالة إلا بما اقتبس من أنوار العلم الشرقي”.
فكره السياسي والاجتماعي
دعا اسحق بني قومه الى التحرر من الظلم والظالمين، فكتب من باريس: “أنا بين أهل الحرية، أسمع ألحاناً في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، فأكتب اليهم: يا قوم. ظلمتم غير معذورين، وصبرتم غير مأجورين، فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلاً، وتبسمون للقيد حتى يظنه الناقد حلياً، وتخفضون للظالمين جناح الذل حتى يقول من يراكم ما هؤلاء بشر إن هم إلا آلة سخّرت للناس يفلحون بها الأرض ويزرعون”.
لكن اسحق مع ذلك غلّب الاعتدال على التطرف، ورفض العنف والثورة مؤثراً التطور التدريجي الإصلاحي، لأن للحرية، في رأيه، حداً لو تعدته لكانت شراً من القيد وأشنع من العبودية. وقد دعا الى المساواة السياسية والقانونية لا الاجتماعية، موضحاً مقصده بالقول: “حقيقة المساواة أن تكون الأحكام سواء على من هم بالنظر اليها سواء في حكم الطبيعة”.
وأيد اسحق الشورى والنظام الدستوري مبرراً ذلك بأن الناس عرفوا شرور الاستبداد، وصار الأمر شورى عند جميع الدول الأوروبية المتمدنة. ولكن على عكس ما قد يتبادر الى الذهن، فإنه لم يذهب في دعوته التحررية والقومية والوطنية الى حد رفض الرابطة العثمانية التي بقي حريصاً عليها، إذ رأى فيها تعبيراً عن وحدة الشعوب العربية والشرقية في وجه المطامع الغربية.
وقد حثّ على نهضة هذه الشعوب علمياً وثقافياً، مبدياً اندهاشه إزاء تخلّف العرب والشرقيين، بقوله: “يندهش من يلقاهم مقتصرين من العلم على ما لا يجلب خيراً، راضين عن الكسلة والجهلة، كأن لم يبق فيهم من عالم عامل يبدد الأوهام”. ووصل اسحق في دعوته الى النهضة العلمية الى حد المناداة بالتعليم الإلزامي المجاني كونه أساساً من أسس الديموقراطية.
المستقبل