المقاومة والدولة بين القسر والإكراه
زياد ماجد
في خطابه الأخير، وبعد تقسيمه الناس في تعاطيها مع الاحتلالات الى طبقات، بين عملاء ومقاومين وحائرين ومستفيدين ومشافهين ولا مبالين، وبعد ذكره تجارب مقاومات مختلفة تناقضت مساراتها ومآلاتها، تحدّث أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله عن ضرورة استعادة مرحلة “التعايش بين المقاومة والاعمار”، التي سادت بحسبه في ظل حكومات رفيق الحريري.
وبذلك، أوحى السيد نصر الله بأن ما جرى في عهود الرئيس الحريري كان تعايشاً مقبولاً “بين هانوي وهونغ كونغ” في ما يشي بنموذج لبناني خاص. كما أوحى بأن العودة إليه ما زالت ممكنة اليوم لاستكمال بنائه.
النص التالي هو معاينة لادّعاء التعايش المُقام، ومقارنة بين مرحلته المفترضة، والمرحلة الراهنة.
تعايش أم قسر أم حرب باردة؟
لا يخفى على كثر عند العودة الى المرحلة ما بين العام 1992 والعام 1998 التي تولى فيها رفيق الحريري رئاسة الحكومات المتتالية أن التوافق السوري السعودي العربي العام الذي رافق اتفاق الطائف وتلاه في ظل إدارات أميركية كانت مسلّمة بتولّي النظام السوري كامل الشأن اللبناني )بعد مشاركته الى جانبها في “عاصفة الصحراء”(، أن هذا التوافق أفضى الى توزيع مهام على الساحة اللبنانية بين قوى مختلفة، كان أكثرها دينامية وحركية الحريري في الأعمار وحزب الله في المقاومة. كما لا يخفى على كثر أن هذا التوافق الذي أطلق حرية حزب الله وحركته العسكرية والأمنية كان مظلّلاً بالقرار الأممي 425. فكان مسوّغ مقاومة الحزب القانوني بالتالي قائماً، تماماً كما كانت قائمة مبرّراته الموضوعية، بمعزل عن كل الملابسات السياسية.
رغم ذلك، لم يحل هذا الغطاء الاقليمي السياسي والدولي القانوني دون صدامات داخلية واتّهامات خطيرة ومتكررة، خصوصاً عامي 1993 و1994. كما لم يحل دون رفض حاد من قبل حزب الله لإرسال الجيش اللبناني بقرار حكومي الى الجنوب لبسط سيادة “الدولة” فيه. وهو طبعاً لم يمنع إسرائيل من شن عدوانين واسعين على لبنان، عامي 1993 و1996، إنتهى ثانيهما باتفاق عرف “بتفاهم نيسان” ونتج عنه تكريس ثنائية “المقاومة والدولة”، بحيث أُعطيت الأولى قرار الحرب والسلم ومفاعيله الداخلية والخارجية (بما فيها استخدام الثانية غطاء عند الحاجة)، ومُنحت الثانية حق التعاطي بسائر الشؤون (شرط عدم ملامستها حدود صلاحيات الأولى).
وليس أكثر دلالة على مدى قسرية التعايش الذي ساد في تلك الفترة وصعوبته، رغم كل ما رعاه، المديح الذي كيل لإميل لحود، قبل ترؤسّه وبعده. إذ ركّز ذاك المديح طيلة عامين (من آب 1998 الى تشرين الأول 2000، وهما بالمناسبة عاما إخراج رفيق الحريري من السلطة وتكاثر الحملات السياسية والإعلامية و”القضائية” ضده) على رفضه خلال قيادته الجيش اللبناني تنفيذ قرارات حكومة الحريري والانتشار جنوباً، وفي ذلك دليل دامغ – بحسب مادحيه – على وطنيته، أي تعريفاً، على انتمائه لخيار المقاومة! وفي ذلك أيضاً بوح بالمضمر تجاه الثانية، أي الدولة، بما هي مناقضة “للوطنية” و”للمقاومة“….
هل ما زلنا في التسعينيات؟
ثم عاد رفيق الحريري الى الحكومة بعد الانتخابات النيابية التي حقق فيها وحليفه وليد جنبلاط فوزاً كبيراً في أيلول من العام 2000، عودة لاحقة لزوال الاحتلال الاسرائيلي للجنوب، باستثناء مزارع شبعا الواقعة بحسب الخرائط الدولية داخل الاراضي السورية، ولاحقة أيضاً لاعتبار الامم المتحدة، بعد تمنّع النظام السوري عن الإقرار بلبنانيّة تلك المزارع، أن القرار 425 قد طُبّق بالكامل. وكان أن هذا التحرير وما سبقه ورافقه من تصريحات سورية ولبنانية “رسمية” مرتبكة تجاه بوادره (التي أعلن عنها وقتذاك إيهود باراك)، نزع عن المقاومة مسوّغها القانوني دولياً، وحوّلها في منطقة شبعا الى أداة ربط للبنان بحسابات إقليمية بعيدة عن القضية الوطنية التي قامت المقاومة (نظرياً) على أساس الانتصار لها. كما نزع عنها “شبه الإجماع” الوطني، ودفع بقوى واسعة التمثيل الطائفي والسياسي (من المطارنة الموارنة الى المنبر الديمقراطي فقرنة شهوان) الى المطالبة بنشر الجيش جنوباً وبتوضيح حكومي سوري لبناني لمسألة مزارع شبعا وهويتها… وبالطبع، لم يحصل شيء من ذلك. بل جرى الرّد تخويناً وهجاء، واتهاماً من قبل “المقاومة” وحلفائها للقيّمين على المطالبة المذكورة بالتنسيق… مع رفيق الحريري لإنشائها!
وقد استمر الخطاب التخويني بين العامين 2001 و2004، وتحوّل في الأشهر المفضية الى التمديد لإميل لحود الى رمي من لحود، ممثل “المقاومة”، ومعظم مريديه للحريري، ممثل “الإعمار”، بشتى الأوصاف غير المحبّبة، وصولاً الى اتهامه بالسعي الدؤوب لاستصدار القرار الاممي 1559 الذائع السيط و”الشديد المكر في تآمره على المقاومة”، على ما كان يقال…
وفق ما تقدّم، يبدو لنا أن ادّعاء التعايش السابق بين حزب الله ورفيق الحريري الذي أورده السيد نصر الله ليس دقيقاً، وأن ما جرى قسراً طيلة التسعينات وفي ظل صراعات وتسويات ومظلات إقليمية، لم يكن ممكناً بعد التحرير عام 2000. فكيف والمقارنة بما تلى العام 2005 وما شهده من تحوّلات وأهوال؟!
في الانقسام الوطني – الاهلي وحروبه
بعد دخول البلاد مرحلة جديدة عام 2005، تبعت اغتيال الرئيس الحريري (إثر محاولة الاغتيال الفاشلة لمروان حمادة)، اقتحم حزب الله الساحة السياسية الداخلية على نحو غير مسبوق. إذ اضطره انكفاء الراعي السوري، مدير اللعبة الداخلية وتوازناتها وفارض المعادلات والتعايشات، الى محاولة ضبط الأوضاع بنفسه ليحافظ على دوره العسكري جنوباً مفصولاً عن السياق السياسي اللبناني الداخلي وملتصقاً أكثر من ذي قبل بالصراع الاقليمي (لا سيما مع الصعود الايراني بعد الحرب الأميركية في العراق)، وليدافع عن “شيعيّته السياسية” التي تبلورت خلال الحقبة السورية ويبقي موقعها ثابتاً في المعادلة السلطوية الجديدة، خصوصاً في وجه “السنية السياسية” المتحررة من الضغط السوري.
بذلك، بدا أن الحزب وضع نفسه في عز المظاهرات الوطنية (والطوائفية) الحاشدة ضد الهيمنة السورية، وفي لحظة إعادة تأسيس التوازنات الداخلية اللبنانية، في الموقع السياسي المواجه لما يزيد على نصف اللبنانيين (في أقل تقدير). فأعلن، باسم “المقاومة” أولوية الحلف الاستراتيجي مع النظام السوري، واتّهم الرافضين لذلك بالالتقاء مع مصالح من أصدر ال1559 – أي أميركا وإسرائيل، وفق ادّعائه. ولم يكتف بذلك قولاً، بل نظّم تجمعات شعبية حاشدة دعماً “لسوريا الأسد” وشكراً لها، وكرّم ضابط مخابراتها الشهير لبنانياً رستم غزالة، المتهم بالضلوع المباشر في اغتيال الرئيس الحريري. ثم واصل، رغم التحالف الرباعي وحكومة الوحدة الوطنية وبيانها الفضفاض وما كان خلفها من محاولات هجينة للمصالحة الداخلية معه، ورغم استمرار الاغتيالات لقادة الرأي والسياسيين والمثقفين وتوالي الاتهامات من قبل المستهدَفين وما يمثّلونه من قوى سياسية أو حساسيات طائفية للنظام السوري بتدبيرها، واصل الدفاع عن هذا النظام، واعتكف ثم استقال وزراؤه والملحقون بهم حين وصل مشروع المحكمة الدولية المختلطة الى الحكومة للتصويت عليه.
بهذا، استعدى الحزب قسماً كبيراً من اللبنانيين، وجعل من الطبيعي أن يثير كل رافض لخياراته الإقليمية، وكل قلق من صراعات الطوائف في الداخل وأحجام حضورها في المؤسسات قضية سلاحه “المقاوم” ومشكلة عبئه على اللعبة السياسية، ومشكلة تهديده بإشعال الجبهة الجنوبية في حرب قد لا يرَ كثر من اللبنانيين علاقة لوطنهم بها.
لكن الأمور بقيت نظرية في تبعاتها، قائمة على تشاتم وتخاطب وتحذير وتحاور واشتباه، وظل الخوف من السلاح وقرقعته فرضية، أو صورة مجازية، لم يدر البعض أنها قد لا تبقى على هذا النحو…
ذلك أن السلاح الهادئ الى حد ما منذ العام 2000، كان يتحضّر للتحرّك. فجاءت حرب تموز عام 2006 التي تعدّدت روايات حزب الله حول أسباب اندلاعها (قيل تارة أنها استباقية وتارة أنها لتبادل الاسرى، وتارة أخرى ذُكر أنها كانت برمتها مؤامرة أميركية إسرائيلية حيكت بالتنسيق مع “دوائر عربية ولبنانية لتصفية حزب الله وترحيل الشيعة بالبواخر”)، جاءت هذه الحرب لتعلن للبنانيين أن “المقاومة” لا تنتظر من أحد، “إعمارياً” كان أو غير ذلك، إذناً لتعمل، وهي ليست بحاجة “للدولة” إلا لإبرام اتفاقيات ما بعد المعارك ونتائجها. فحصل أن هذه الحرب، بعيداً عن كفاءة حزب الله في خوضها ميدانياً، أدّت الى انقسام وطني وطوائفي كبير حولها (لا يشبه في شيء أي تململ موضعي حصل خلال حروب سابقة). وأدّت أيضاً الى قرار أممي جديد، القرار 1701، قضى بانتشار اليونيفيل وقوى الجيش اللبناني حتى الحدود الدولية، ومنع الخروقات الاسرائيلية وانسحاب “حزب الله” الى شمالي الليطاني ووقف تدفق السلاح إليه عبر الحدود، مع التأكيد على القرارات السابقة (في إشارة طبعاً الى القرار 1559 “الشيطاني” القاضي في أحد بنوده بحل جميع الميليشيات على الأراضي اللبنانية).
اي أن ال1701 أرسى بنية قانونية دولية وقرارات ملزمة للسلطة اللبنانية (وافق عليها “حزب الله” وحليفه رئيس المجلس النيابي نبيه بري عند إقرارها) داعية للتعامل مع واقع جديد لا مكان فيه للثنائية التي سادت خلال التسعينات، ولا للحديث عن احتلال إسرائيلي للأرض اللبنانية يوجب “مقاومة” (خارج البحث طبعاً في الوثائق العائدة لمزارع شبعا).
لم يكترث حزب الله بعد ذلك للتداعيات (وساعدته بعض مواقف خصومه ولقاءاتهم وتصريحاتهم غير المسؤولة). فتجاهل جميع دعوات الحوار الجدي حول سلاحه، وتجاهل جميع محاولات رأب الصدع، وراح يضاعف من اتهام معارضيه السنة والمسيحيين والدروز وسواهم من غير المصنّفين بالخيانة العظمى، وهدّد من سيحاول منهم مسّ سلاحه “بقطع يده ورأسه ونزع روحه”. ثم راح في مواجهة مفتوحة يحتل الشوارع والساحات مقفلاً إياها، وصولاً الى أيار الفائت حين قرّر استخدام سلاحه “دفاعاً عن السلاح” واجتياح بيروت عسكرياً ومحاولته اجتياح بعض مناطق الجبل، الأمر الذي خلّف قتلى وجرحى وخراباً واحتفاناً مذهبياً غير مسبوق، ثم اتفاقاً ملتبساً وحلحلة وهدنة، لن تهدّئ من روع الناس من السلاح “المقاوم” ولا من شكوكهم حول وجهته ووظائفه. فالموضوع لم يعد افتراضاً أو مجازاً أو شبهة…
إهانة الدولة وسطوة السلاح وحدود القوة
فما جرى في شوارع بيروت لم يكن تجسيداً للشكوك فحسب، بل كان طلقة الرحمة على التعايش الإكراهي ثم الطلاق الاختياري والبديهي بين السلاح الحزبي المذهبي “المقاوم” (بولاءاته الإقليمية) و”الإعمار” أو قل “الدولة” بسيادتها على قراراتها وسياساتها (ولو أن الهشاشة سمتها نتيجة الاسر الخارجي والازمات الداخلية). ذلك أن إلزام الدولة بالتراجع عن خياراتها تحت ضغط السلاح (وهو تراجع نخال الأيام القادمة ستكرّسه بمعزل عن المكابرات والمزايدات)، يؤكّد استحالة كل تعايش بين الإثنين. لا بل هو يظهر احتمال قيام السلاح المقاوم بتأديب الدولة وجمهورها كل ما افترقا، إلا إذا لجأ جمهور الدولة للدفاع عنها بالسلاح، فيستحيل البلد عندها خراباً شاملاً.
على أن “المقاومة” رغم تأديبها الدولة وإعادة صوغ حضورها الموازي لها والمتفوق عليها أثراً في المعادلتين الداخلية والخارجية، اكتشفت ميدانياً حدود قوّتها، التي لم تكن ضحالة ثقافتها السياسية تسمح لها باستبيانها. حدود ترسمها ركاكة البنية الطائفية للنظام بما تستجلبه من صراعات دورية ثم ما تفرضه من تسويات لا غلبة حاسمة فيها لأحد بل تحسين شروط مؤقت نتيجة تعديلات (هي بدورها مؤقتة) في توازنات القوى. وحدود ترسمها أيضاً أحكام دستورية وقوانين ومؤسسات مهما تعاظم تهشيمها، تبقى بحدّها الأدنى، قادرة على إعادة تكوين مشهد سياسي لا قدرة فيه لطرف مذهبي أو طائفي على تنفيذ انقلاب تام يلغي عبره الأطراف الأخرى.
مؤدّى الأمر، أننا ذاهبون الى مرحلة جديدة ولو أن لا “جدّة” فعلياً فيها. مرحلة هدنة ضرورية للناس ليتنفسوا ويستجمعوا قواهم. ومرحلة إكراه في فرض “المقاومة” على “الإعمار” من داخل “الدولة” ومن خارجها، وإعادة إنتاج ما يشبه مرحلة حزيران – تشرين الثاني 2005 في انتظار أن يُقضى أمر في المنطقة نرجو أن يكون بعيداً كل البعد عن الصدام العسكري والسياسي بين الدول المؤثرة في الشأن اللبناني وأسلحته…. علّنا عندها نعلي الصوت في اتجاهات أخرى. بعيدة عن الحرب والأثلاث الضامنة وأقرب الى الاقتصاد والاجتماع والقضاء والأحوال الشخصية والكهرباء والمياه والطرقات والضرائب والضمان الصحي وسواها من أمور الناس الطبيعيين وقضايا السياسيين الأسوياء….