كتاب الــديــن والـمــجــتـمـع، رؤيـــة مــســتــقــبــلــيـــة لأديــب صــعـــب
لا تـبــرئــة لـلــتــعــلــيــم الــديـنـي الــطـــائــفـي مـمـــا نـحـن فـيــه
يستكمل اديب صعب في كتابه “الدين والمجتمع، رؤية مستقبلية” الصادر عن “دار النهار”، ما كان بدأه في سلسلته المتصلة بالدين والحياة من جميع وجوههما، وهو ما تطرق اليه في كتابيه “المقدمة في فلسفة الدين” و”الاديان الحية”، لكنه في كتابه هذا يتجاوز المفاهيم النظرية والتحديدات اللاهوتية والعقائدية للاديان، ليغوص في ميدان اعمق يتعلق بتأثير الدين في الحياة الاجتماعية وتكوين الانسان منذ سنواته الاولى الى تحوله فاعلا اجتماعيا، وهو عالم يؤشر فيه الكاتب الى الأخطار الناجمة عن الانحراف في تعليم الدين وتلقينه. واذا كان موضوع تعليم الدين يحتل المكان المركزي في الكتاب، فانه يتطرق ايضا الى القيم الاجتماعية والانسانية من قبيل الحرية والمساواة والعدالة التي تتصل وثيقا بالقيم الدينية في فهمها موضوعيا، حيث يرتبط تحقيق هذه القيم بدرجة التطور الفكري والاجتماعي والسياسي في كل بلد، ومدى القدرة على الفصل بين الدين والدولة، وقيام كل واحد بالدور المنوط به، بحيث لا تهيمن الدولة على الدين، ولا يفرض الدين، في المقابل، سلطته على المجتمع او يخضعه لمنطق التعصب الطائفي والمذهبي. هذا الفصل بين العالمين، يجنب البلاد النزاعات والحروب الاهلية التي تبدو الاديان وطريقة فهمها وتلقينها واستخدامها في السياسة، احد العوامل الرئيسية المسؤولة عن العنف المستشري اليوم في العالم.
لا يقع اديب صعب في المبالغة عندما يولي مسألة التعليم الديني والتربية الدينية وموقع المدرسة والمعلم والمؤسسة الدينية، الاهمية الكبيرة في تحديد معالم متعددة من الحياة الاجتماعية للانسان. وهي امور يمكن ان نلمسها في كل مكان من المجتمعات العربية، مع اختلاف الوسائل في التنفيذ. فالتعليم الديني التقليدي كما تجري ممارسته وتلقينه للتلامذة، يشكل “خطرا على الحياة العقلية والنفسية والاجتماعية”، وهو يخون الدين والعقل حين يزرع الاوهام حول المحظورات التي يُمنَع على التلميذ التطرق اليها، وطرح الاسئلة الاستفهامية او التشكيكية في امور تخص الله والاديان والطقوس والشعائر، مما يرفع “جبل التابوهات” الى مستوى عال، ويزيد من حال الرعب التي يصاب بها السائل باعتبار ان السؤال يشكك في الذات الالهية، ولأن عقل الانسان عاجز عن ادراك جوهر الامور، مما يفرض التسليم بما ورد في النصوص المقدسة بوصفه كلام الله المطلق.
اذا كان التعليم الديني في مجمل العالم العربي يعاني معضلة في تلقين التلامذة وتوجيههم في الاتجاه الصحيح لما يدعو اليه الدين من عبادة الله وزرع القيم الروحية والانسانية والاخلاقية في النفوس، لحساب علم يقوم على زرع التعصب ورفض الآخر وازدياد الشقاق بين الاديان، وبين مكونات هذه الاديان نفسها، فإن النظرة الى حال التعليم الديني في لبنان تثير مخاوف اكبر في تكوين اجيال قد جرى حشو رؤوسها بكل منوعات الكره والرفض المتبادل وصولا الى العنف. يتكون لبنان من ثماني عشرة طائفة كفل الدستور اللبناني لابنائها حريتها في اختيار المادة التعليمية، وهو امر ادى الى وجود ثمانية عشر منهجا لتعليم الدين في لبنان، حيث تخرّج كل مدرسة تلامذة يحملون مفهوما معينا عن الطائفة التي ينتمون اليها، ونظرة مغايرة عن الديانة التي ينتمي اليها سائر التلامذة. لم تكتف الطوائف بمدارسها الخاصة وبسيطرتها على التعليم الديني في المدارس الرسمية، بل باتت لها جامعاتها ايضا، اضافة الى تاريخها الخاص وتراثها وعاداتها. لذا من الصعب تبرئة التعليم الديني الطائفي في لبنان من مسؤولية محددة عن تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وتغييب منطق الوحدة الوطنية بين ابنائه. تنغلق الطوائف على نفسها بما يشبه “المحميات”، وتشحن ابناءها بإيديولوجيتها الخاصة القائمة على نبذ الاخر واتخاذ موقف مغاير منه.
يترك التعليم الديني في صيغته الراهنة آثارا سلبية على الفرد، تمتد لتطاول بنيته الفكرية والثقافية، كما تطاول مكوّنات شخصيته وممارسته لحياته العادية. يتسبب التعليم القائم على حفظ المادة بحرفيتها من دون اخضاعها للتحليل والمناقشة والتعليل، الى تلاشي قدرات الخيال والحد من الخلق والى نمط من التكرار من دون تفكير، وهي من الامور التي تحجر على العقل وتمنع فعله. ويتسبب التركيز الصارم والكثيف على التزام الطقوس والشكليات وعلى استحضار التاريخ الخاص بكل طائفة، بإدخال ثقافة التعصب واللاتسامح، ويؤسس لتكون ايديولوجيا ظلامية لدى ابناء كل طائفة. تتأسس الخصوصية في كل دين على الطقوس والفرائض، فتتحول مع الزمن شعاراً يختبئ وراءه التعصب ويشكل ارضا خصبة لنمو التطرف. ينعكس ذلك على ثقافة الديموقراطية القائمة على الاعتراف بالآخر والقبول به والعيش معا على رغم الاختلاف والتعدد، فيضع عقبات امام الخيار الديموقراطي ويمنع استيعاب موجباته. اما الاسوأ فهو ما يتصل بالسلام الاجتماعي، حيث يمهد هذا التعليم الى تحول الخلافات والتباينات في وجهات النظر مشاحنات اهلية سرعان ما تصبح اعمال عنف تطاول ابناء الشعب.
لا يخفي اديب صعب الصعوبات التي تعترض الوصول الى تعليم ديني يصب في النهاية في تطوير حضاري، بما يجعل الدين عنصرا “ضروريا لفهم جوانب عميقة من النفس البشرية ودوافع الناس”. يقول إن المدرسة الدينية الفعلية التي قد تكون مستندة الى “العلمانية”، هي القادرة على تقديم تعليم ديني يصب فعلا في تقديم الجوهر الحقيقي للدين ومفاهيمه وقيمه. يفرض هذا التعليم وجوب دراسة الانظمة اللاهوتية للاديان وكيفية تشكلها، حيث تساعد دراسة التاريخ المقارن للاديان في اظهار الروابط الوثيقة بينها والقواسم المشتركة التي تجمعها. ويشدد هذا التعليم على مادة حقوق الانسان وثقافتها الداعية الى حق الانسان في الحرية والديموقراطية والمساواة، بقطع النظر عن الانتماءات الخصوصية والجنسية والدينية والعرقية. كما يجب ان يعطي هذا الطرح في التعليم الديني، اهمية فائقة للشخص الذي يقوم بتدريس مادة الدين. لا يشترط في المدرّس ان يكون رجل دين، بل من الضروري ان لا يقوم رجل الدين بهذه المهمة. على المدرّس ان يكون ملما بتاريخ الاديان والحضارات وعلوم عصره ومتغيرات الزمن والظروف التي نشأت فيها الاديان. كما يؤكد هذا التعليم وحدة الصف بتلامذته المتعددي الانتماء والطائفة، بما يمكن هذا الدمج ان يساهم في تلقي دراسة موحدة غير طائفية، تساهم في تفاعل مشترك وتكوين ثقافة غير فئوية.
يختم صعب كتابه بالتشديد على ان “الدين ليس مجموعة معلومات تاريخية وقانونية وتنظيمية وعقائدية وطقسية، انما هو حياة عملية منطلقة من هذه الحقائق جميعا”. من هنا ضرورة ان يصب تعليمه في الوصول الى ايمان قائم على الحرية، ايمان يلتزم النزعة الانسانية والحضارية، ويستظل بالعقلانية في فهم النص الديني وقراءته ووضعه موضع التطبيق.
النهار