فكر أمريكي آخر
على هامش كتاب ريتشارد بولييت : الحضارة الاسلامية- المسيحية، ماضيها ومستقبلها
بقلم: هاشم صالح
(تفكيك أطروحات برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون)
من خلال تجربتي الشخصية لاحظت أنّ الفكر المتطرّف هو الذي يشتهر وينجح، فيغطّي على الفكر الآخر المنفتح على العالم. وكلّ ذلك بسبب ما يحدثه من فرقعة وضجيج يؤدّيان إلى إخراس الأصوات الأخرى. وهذا الأمر ينطبق علينا كما على الأمريكان أو الغربيين بشكل عامّ. فمن جهتنا أصبح الإسلام رهينة للقاعدة والمتطرّفين الخمينيين وسواهم من المسلمين. وعندما تذكر “كلمة إسلام” أو “عرب”، يتبادر إلى ذهن العالم الخارجي فورا اسم بن لادن أو الخميني أو الظواهري الخ. وكذلك عندما يذكر اسم أمريكا حاليا لا يتبادر إلى الذهن إلا اسم المحافظين الجدد وبوش الابن وبرنارد لويس وصموئيل هانتنغتون الخ.. يحصل ذلك كأنّه لا يوجد في أمريكا إلا هذا التيّار المتعصّب، أو لا يوجد في العالم العربي والإسلامي إلا ذلك التيّار القروسطيّ المنغلق. فهل يمكن اختزال العرب والمسلمين كلّهم إلى تيّار التطرّف والعنف الأعمى؟ وهل يمكن اختزال العالم الأمريكيّ الشاسع إلى تيّار الأصوليّة البروتستانتية أو المحافظين الجدد؟ هذا هو السؤال. ونحن محصورون بين فكّي كمّاشة : إمّا تطرُّفنا وإمّا تطرُّفهم ولا خيار ثالث بينهما! أعتقد أنّه ينبغي الخروج من هذه الحلقة الجهنمية للحقد والحقد المضادّ كي نستطيع أن نتنفّس ولو قليلا في الهواء الطلق. فهناك تيّارات أخرى في العالم العربي، وهناك تيّارات أخرى في العالم الأمريكي. نذكر من بينها التيّار الليبراليّ المنفتح لبنيامين باربر صاحب كتاب “الجهاد ضدّ العولمة الأمريكية”، أو التيّار الذي يمثّله ريتشارد بولييت صاحب كتاب “الحضارة الإسلامية –المسيحية”. وهو الذي سأركّز عليه الحديث الآن مرجئا الحديث عن بنيامين باربر إلى فرصة أخرى. سوف أقول فقط إنّ المسافة التي تفصل فكر باربر وبولييت عن فكر برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون هي ذاتها المسافة التي تفصل بين السياسة الإنسانية لباراك أوباما عن السياسة العنجهية والعولمة اللاإنسانية لبوش والمحافظين الجدد. بمعنى آخر فإنّ السياسة هنا ليست إلا ترجمة عملية للفكر.
مشكلة الفكر الثبوتي الجوهراني هي أنّه يسجنك داخل مشروطيتك العرقية والدينية (التي لا حيلة لك بها) إلى أبد الآبدين. إنّه عنصريّ وطائفيّ في آن معا. وهنا يكمن النقص الكبير لكتاب صموئيل هانتنغتون رغم أهمّيته. فلا ينبغي أن ننسى أنّه استبق الحدث، أي ضربة 11 سبتمبر، ببضع سنوات. ويمكن القول بأنّه تنبّأ بها بشكل من الأشكال، لأنه ركّز على خطورة الصراع الذي سيجري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية في القرن الواحد والعشرين. فلا ينبغي أن ننسى أنّ كتابه صدر كمقالة عام 1993، وككتاب كامل عام 1998، أي قبل الضربة بسبع سنوات أو أكثر. وهذا شيء ليس بالقليل. من هنا الأهمّية التي اتّخذها في عالم الفكر والمفكّرين. ولكنه استسلم، رغم ذلك، للنظرية اليمينية العنصرية التي تحكم على العرب والمسلمين بالثبات وعدم التطوّر أو التغيّر إلى أبد الدهر. وهنا يكمن الفرق بين علم الاجتماع اليميني وعلم الاجتماع اليساري إذا جاز التعبير. الأوّل محافظ بطبيعته ومتشائم، بل عنصريّ. والثاني ديناميكيّ متفائل يفسح للأمل بالمستقبل ولا يميّز بين الشعوب. الأوّل يقول لك إنّ العرب شعب لم يخلق للحضارة على عكس الشعوب الأوروبية أو الغربية عموما، لأنّ التخلف موجود في طبيعته أو حتى جيناته أو صبغياته ومكوّناته الوراثية! والثاني يقول لك إنّ العرب هم بشرٌ كبقيّة شعوب الأرض، يمكن أن يتطوّروا ويتغيّروا ويتقدّموا إذا ما واتتهم الظروف. الأوّل يقول إنّ الإسلام دين التعصّب بجوهره وأصله وبدايته ونهايته، وأنّه يرفض العلمانية والحداثة على عكس المسيحية التي تؤمن بالتسامح والسلام والفصل بين الدين والسياسة. والثاني يقول لك إنّ هذا كلام خاطئ وغير تاريخيّ، لأنّ المسيحية كانت متعصّبة جدّا هي الأخرى قبل أن يحصل الإصلاح الديني والتنوير الفلسفي منذ أربعة قرون. وبالتالي يمكن للإسلام أن يتطوّر، أو قل يمكن أن يظهر تفسير جديد له وقراءة مستنيرة لنصوصه التأسيسية، قراءة تسمح له بأن يتصالح مع العلمانية والحداثة وحقوق الإنسان.
لا أعرف لماذا ركّز المثقّفون العرب كثيرا على كتاب هانتنغتون ولم يتعرّضوا بالذكر لكتاب آخر مضادّ له هو : “الحضارة الإسلامية – المسيحية. ماضيها ومستقبلها”(1). ومؤلفه هو أحد كبار أساتذة الجامعات الأمريكية : البروفيسور ريتشارد بولييت، أستاذ علم التاريخ ودراسات الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا بنيويورك. فهو يتّخذ موقفا مضادّا لموقف هانتنغتون وبرنارد لويس المسؤول الأوّل عن نظرية صدام الحضارات مع الإسلام. وعنه أخذها هانتنغتون لأنّه غير مختص بالإسلام على عكس لويس، ولكنّ الآخذ اشتهر بالنظرية أكثر من المأخوذ عنه. بل أصبحت محسوبة عليه وحده في حين أنّ برنارد لويس كان قد تحدّث عنها منذ عام 1964! أيّا يكن من أمر فإنّ ريتشارد بولييت يقول لنا منذ الصفحة الأولى من كتابه ما معناه :
“لقد ولدت فكرة هذا الكتاب لحظة حصول ضربة 11 سبتمبر. فمن شقّتي شمال حيّ مانهاتن كنت أراقب المنظر وأشمّ رائحة البارود والمتفجرات. وكنت أرى بأمّ عيني ذلك الحريق الهائل الذي يدمّر البرجين التوأمين.
ثم يردف البروفيسور بوليت قائلا :
“كمعظم الأمريكان انتابني عندئذ شعور قويّ هو التالي : كيف يمكن الردّ على هذه الضربة الغادرة؟ كيف يمكن أن أكون مفيدا لبلادي في مثل هذه الظروف الحرجة والنكبة الأليمة. وكان أن شرعت بتأليف هذا الكتاب”(2).
سوف نرى فيما بعد أنّ هذه التجربة الأليمة لم تدفع به إلى الحقد على العرب والمسلمين كما فعل المحافظون الجدد، وإنّما إلى محاولة فهم تراثهم والتقرب منهم أو إليهم. وأعتقد شخصيا أنّ نظرية ريتشارد بولييت عن الإسلام أهمّ من نظرية هانتنغتون لسبب بسيط : هو أنّه مختصّ بتاريخ الإسلام والحضارة العربية الإسلامية. ولذلك فهو قادر على أن يعود إلى بدايات الإسلام الأولى ويطلق أحكاما متوازنة وصحيحة عن شخصيتنا التاريخية. إنّه يعود إلى الماضي لكي يفهم الحاضر ككلّ مؤرّخ محترف وجادّ. إنّه يعود إلى الماضي لكي يستعرض التأويلات التي قدّمت عن الإسلام على مدار التاريخ منذ بداياته وحتى اليوم. وهي لم تكن دائما تأويلات متزمّتة أو جامدة على عكس ما يتوهّم هانتنغتون. وإنّما كانت متحوّلة ومتغيّرة بتغيّر الظروف والمنعطفات التاريخية. فتارة يكون تأويل الإسلام حربيا معاديا للآخرين. وتارة يكون سلميا كريما متفاعلا معهم. تارة يكون متعصّبا منغلقا، وتارة متسامحا منفتحا. تارة يكون فلسفيا عقلانيا إنسانيا معتزليا، وتارة يكون سلفيا انغلاقيا حنبليا ظلاميا.الخ.. ولكنّ الكتاب نضاليّ أيضا، بمعنى أنّه يتّخذ موقفا فكريا استراتيجيا. إنّه على عكس هانتنغتون وبرنارد لويس يبحث عمّا يجمع بين الإسلام والغرب لا عما يفصل ويفرّق. ولذلك فإنّه يكرّس صفحات مطوّلة لدراسة العلاقة بين الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلامية. ولولا الصراع العربي الإسرائيلي لكان العنوان هو التالي : الحضارة اليهودية- المسيحية-الإسلامية. فما أكثر العلاقات والتشابهات بين أديان التوحيد الثلاثة رغم العداوات واللعنات اللاهوتية! ولكنّه لم يشأ أن يثير حساسية العرب والمسلمين في هذه الظروف الحرجة والمتفاقمة فحذف كلمة اليهودية.
منذ بداية الكتاب يحمل المؤلف بشدّة على صموئيل هانتنغتون وبرنارد لويس وسواهما ويقول : إنّهم يحصرون نادي الحضارة باليهود والمسيحيين والغرب العلمانيّ ويستبعدون الإسلام والعالم العربي كليا. وهذا مناقض لحقائق التاريخ والمنطق. ففضل علماء الإسلام وفلاسفته على تشكّل الحضارة الغربية خصوصا في بدايتها الأولى كبير ومعروف للقاصي والداني. ثانيا إنّهم يقولون إنّ الإسلام يمثّل حضارة دينية مختلفة كليا عنّا وشرّيرة. وهذا كلام خاطئ أيضا لأنّ الإسلام دين توحيديّ مثله في ذلك مثل اليهودية والمسيحية وقد أخذ عنهما الكثير. يكفي أن نفتح القرآن لكي ندرك ذلك. ثالثا : إنّهم يقولون بأنّ العداء متحكّم على مدار التاريخ بين الإسلام والمسيحية. ولكنهم ينسون أو يتناسون العداء الرهيب بين اليهود والمسيحيين على مدار ألفي سنة متواصلة. فقد كان اليهود متّهمين بأنّهم قتلة المسيح حتى أمد قريب : وهي أكبر وأخطر تهمة لاهوتية في المسيحية. كما ينسون العداء الكاثوليكي- البروتستانتي في أوروبا والذي أدّى إلى مجازر مرعبة ذهبت بملايين الضحايا. ومع ذلك فقد حصلت المصالحة أخيرا بين اليهود والمسيحيين وبين الكاثوليك والبروتستان. فلماذا لا تحصل غدا أو بعد غد بين المسلمين والمسيحيين أو حتى بين المسلمين واليهود؟ لماذا نقطع الطريق على المستقبل ونحصر العرب والمسلمين في دائرة التطرّف والعنف؟ فالماضي لا يتحكم بالمستقبل أبديا على عكس ما يظن علم التاريخ اليميني المحافظ. ألم يتعايش الطرفان بكلّ وئام وسلام في ظلّ الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس؟ الإسلام ليس سيّئا في جوهره وأصله على عكس ما يزعم برنارد لويس وهانتنغتون والمحافظون القدامى والجدد. الإسلام أعطى الكثير إبان العصر الذهبيّ وكان أعظم حضارة تشعّ على العالم لعدّة قرون. صحيح أنّه يعيش اليوم أزمة حادّة مع نفسه ومع العالم الحديث، ولكن المسيحية عاشت ذلك قبله. ثمّ تطوّرت في لاهوتها وتصالحت مع قيم العالم الحديث. والإسلام سوف يتطور أيضا في لاهوته وفقهه القديم وسوف يتجاوز محنته يوما ما عن طريق مصلحيه وقادته الفكريين والسياسيين. ثم لنكن منصفين وواقعيين: هل الأصوليّ اليهودي مئير كاهانا أقلّ تعصّبا من بن لادن والملا عمر؟ فلماذا نركّز إذن على تعصّب بعض المسلمين وننسى تعصّب بعض اليهود والمسيحيين؟ ثم يطرح اليمين الغربي هذا السؤال على سبيل التعجيز: هل يمكن للمسلمين أن يصبحوا حضاريين؟ ويردّ عليهم ريتشارد بولييت قائلا: بالطبع يمكن أن يصبحوا كذلك، وسوف يشكّلون حضارة منيرة بعد أن يتجاوزوا أزمتهم الحالية(3).
ثم يبلور ريتشارد بولييت أطروحته المركزية على النحو التالي:
الإسلام والمسيحية الغربية هما فرعان شقيقان لحضارة واحدة مشتركة عاشت وتعايشت وتفاعلت حول حوض البحر الأبيض المتوسط. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ التطوّر الحضاري الذي حقّقته أوروبا المسيحية على مدار ستّة قرون متواصلة سوف يتحقق خلال قرن واحد في العالم العربي أو الإسلامي. وبالتالي فالمسألة في نهاية المطاف هي مسألة تفاوت تاريخي، أي مسألة وقت، بين العالمين وليست مسألة عنصرية أزلية كما يوحي برنارد لويس أو سواه من قادة اليمين الفكري المحافظ في الغرب. فلنعط إذن لعالم الإسلام الوقت الكافي لكي ينفض غبار الزمن عن نفسه ويتحلحل ويتغيّر.
ولكنّ ريتشارد بولييت يحذّرنا في ذات الوقت قائلا : لنكن منصفين مع صموئيل هانتنغتون. فهو لا يهاجم الحضارة الإسلامية من موقع ديني معيّن. وإنّما فقط يقول بأنّها مرشّحة لأن تواجه الغرب في القرن الحادي والعشرين. محاجّته ترتكز على ما يلي : تقديم صورة مثالية زائدة عن اللزوم عن الحضارة الغربية لأنها مبنية على الديمقراطية وحقوق الإنسان والمقاولة الحرة والعولمة. أما الحضارات الأخرى وبخاصة الحضارة الإسلامية فهي قائمة في رأيه على قيم أخرى مضادّة أو مختلفة. وهي تبدو بالنسبة له معادية وغير لطيفة وغير قادرة على التحسن والسير إلى الأمام. إنها حضارة ثبوتية أو جمودية مضادّة للتطوّر. وهنا يكمن خطأ تشخيصه للوضع.
السؤال الأساسي المطروح هنا هو التالي:
لماذا لم تنتصر الحرية الدينية والفكرية والصحافية، وكذلك الديمقراطية التمثيلية النيابية، والمقاولة الاقتصادية الحرّة إلا في الغرب حتى الآن؟ ولماذا تجد صعوبة كبيرة في فرض نفسها خارج نطاق ولادتها : أي خارج نطاق أوروبا وأمريكا الشمالية التي هي بنت أوروبا في نهاية المطاف كما قال الجنرال ديغول؟
ولكنّ هذا السؤال يطرحه أيضا كثير من المثقفين العرب والمسلمين لا منظرو أمريكا واليمين الغربي وحدهم. وهنا نجد أنّ شروحات البروفيسور ريشارد بولييت مضيئة وتستحقّ الاهتمام. فهو على عكس هانتنغتون وبرنارد لويس يقول لنا بما معناه : إنّ العديد من البلدان الإسلامية عربية كانت أم غير عربية تشاطرنا هذه القيم الحضارية وتلك التساؤلات. وليس صحيحا أنّ العرب والمسلمين يقفون كلّهم ككتلة واحدة صمّاء بكماء عمياء خلف بن لادن والظواهري وبقية المتطرفين. وليس صحيحا على الإطلاق أنهم جميعا يحقدون على الغرب ويتخذون موقفا معاديا للحداثة والتطوّر. هنا يخطئ برنارد لويس وتلميذه هانتنغتون خطأ فظيعا من حيث التعميم. فهذه القيم الحضارية ليست ملكية خاصة أو احتكارية للغرب الأوروبي- الأمريكي أو للحضارة المسيحية اللاتينية الغربية. فالمثقفون العرب والمسلمون يساهمون أيضا معنا في حضارة شاسعة واسعة يمكن أن ندعوها بالحضارة الإسلامية- المسيحية. وما يجمع بيننا أكبر ممّا يفرّق وأهمّ. ينبغي أن نعترف بالواقع : الأغلبية العظمى من العرب والمسلمين يرفضون الأصوليّة الظلامية والإرهابية على طريقة بن لادن. بل إنّهم يناضلون ضدّها وهم أوّل ضحاياها قبل 11 سبتمبر وما بعده. انظروا كم دفع الشعب العراقي ثمنا باهظا لإرهاب القاعدة ولا يزال. وكم دفع الشعب المصري والجزائري والأفغاني والباكستاني الخ ثمن التفجيرات المتلاحقة.
هكذا نجد أن خلاصة البروفيسور بوليت متفائلة على عكس خلاصة صموئيل هانتنغتون وبرنارد لويس المتشائمة التي تسد الطريق. وهي تدعونا نحن أيضا إلى عدم أخذ الغرب كله ككتلة واحدة. فمثقفوه ينتمون إلى تيارات شتى متنوعة، بل ومتضادة أحيانا، تماما كما هي حالة المثقفين العرب. يقول بما معناه: ليس عندي أي شك في أن المسلمين سيجدون حلولا لمشاكلهم العويصة في المستقبل القريب والبعيد. ولا أستبعد ظهور قادة كبار بينهم خلال العشرين أو الثلاثين سنة القادمة. لا أستبعد ظهور مصلحين دينيين كبار وقادة فكريين حقيقيين ذوي ضمير عال متسامح ومسالم تجاه العالم وكل الآخرين. لا أستبعد ظهور قادة من وزن غاندي أو مارتن لوثر كنغ أو نيلسون مانديلا.. هؤلاء هم الذين سيخرسون صوت الحقد والتعصب والظلامية الدينية المطلقة في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. وبالتالي فمستقبل العالم العربي أمامه لا خلفه.
أما برنارد لويس فيؤكد منذ عام 1990 بل وحتى قبل ذلك على ما يلي : إنّ غضب المسلمين على العالم الغربي ليس إلا صدام حضارات. ربما كان ردّ فعلهم هائجا أكثر من اللزوم أو لاعقلانيا إلى حدّ كبير. ولكنه حتما مفهوم تاريخيا. إنّه عبارة عن ردّ فعل لمنافس سابق لنا. ولكنّه منافس سقط في وهدة عصور الانحطاط والتخلّف فزادت مرارته تجاهنا وحقده علينا. إنّه منافس تاريخيّ للإرث اليهودي- المسيحي وللعلمانية الحديثة أيضا ولتوسّع كليهما في شتى أنحاء العالم. باختصار: انه يكرهنا لأنّنا نجحنا وانتصرنا وتفوقنا في حين انه هو فشل وتقهقر وتراجع.
لاحظ كيف يجمع بين اليهود والمسيحيين في مصطلح واحد من خلال صلة وصل صغيرة في حين أنّه يعلم علم اليقين بأن الأحقاد التاريخية واللاهوتية بين الطرفين أشهر من نار على علم. ولاحظ كيف يخلط بين المرحلة اللاهوتية للغرب والمرحلة العلمانية الحديثة. ولا حظ أيضا كيف يستنتج ضمنيا بان تخلف العرب والمسلمين أزلي أو سرمدي: ألا يمكن الخروج منه مهما فعلوا! هذا في حين أنّه مرتبط بظروف تاريخية سلبية وسوف يزول بزوالها. إنّه يقيم الحواجز العازلة بشكل قاطع بين عالم الغرب/ وعالم الإسلام بدلا من أن يقيم الجسور ونقاط التواصل على عكس ريتشارد بولييت. وهنا يكمن الفرق بين سوء النية وحسنها لدى الباحثين الكبار.
الهوامش:
1- أعتمد هنا الترجمة الفرنسية للكتاب وأستغرب لماذا لم يترجمه العرب حتى الآن رغم أنّه يتركز على حضارتنا وتراثنا.
انظر:
Richard W. Bulliet : La civilisation islamo- chrétienne. Son passe, son avenir. Flammarion. Paris.2006
2- المصدر السابق. المقدمة. ص.7
3- حول هذه الأفكار وسواها انظر الكتاب من الصفحة 19 إلى الصفحة 26
موقع الآوان