كتاب في الاجتماع السياسي والاقتصاد وفقـــه الاصلاح لمجموعــة مؤلــفـين
: أي مستقبل لـلمجتمع المدني عربياً؟
يقدم كتاب “في الاجتماع السياسي والاقتصاد وفقه الاصلاح، مدخل لتكوين طالب العلم في عصر العولمة” قاعدة موسوعية تساعد المواطن العربي في الوصول الى اصول العلوم المختلفة وتطور مساراتها والمحطات التي تقف عندها والمعوقات التي تنتصب في وجهها، عبر قراءات لعدد من الكتاب العرب في جملة مواضيع تتصل بعلم تنظيم المجتمعات البشرية، وعلم الاجتماع والنظريات التي قام عليها، ومدى المساهمة العربية والاسلامية فيه، والمجتمع المدني في اساس تكونه، وحاله في العالم العربي، ومسألة الاصلاح والتيارات التي عرفتها المجتمعات العربية منذ القرن التاسع عشر، مع التركيز على الاصلاح في جوانبه السياسية والاقتصادية والتعليمية، وصولا الى علم الاقتصاد بمفاهيمه النظرية، وبعض التجارب التنموية في آسيا خصوصا والدروس المستفادة منها. قدم للكتاب عبد العزيز القاسم، واصدرته “الشبكة العربية للابحاث والنشر” في بيروت.
يخترق مفهوم المجتمع المدني، بمفاهيمه النظرية وتطبيقاته المدنية، عددا من الابحاث الواردة في الكتاب، فالمفهوم المعروف اوروبيا منذ اكثر من قرنين، يبدو جديدا على المجتمعات العربية، وعلى علم السياسة فيها. فالتعاطي العربي مع عبارة “المجتمع المدني”، لا يتجاوز اكثر من عقدين من الزمن، ويجري استخدامها، احيانا كثيرة، من دون تدقيق في ما تعنيه، كما يجري الخلط مع مؤسسات سياسية وغير حكومية في وسائل الاعلام، والفكر السياسي المتعلق بالعلوم الاجتماعية. ثمة إجماع لدى المتعاطين بالسياسة، فكرا وممارسة، مفاده ان العالم العربي يشهد وجودا للمجتمع المدني، وإن كان بشكل متفاوت بين بلد وآخر، وان مؤسسات هذا المجتمع تتفاوت في فاعليتها بين دولة عربية وأخرى، وفق درجة التطور السياسي والاجتماعي وحدود الحريات القائمة والجاري ممارستها.
تتغير التصنيفات، عربيا وعالميا، التي تتصل بالمجتمع المدني ومؤسساته، فيحددها البعض بالمنظمات غير الحكومية التي انتشرت في العقدين الماضيين، وتحاول ممارسة مهمات لا توليها الدولة الاهتمام اللازم في مجالات التنمية الاجتماعية وحقوق الانسان والمواطن، ويصنف آخرون الاحزاب السياسية في خانة مؤسسات هذا المجتمع، وتضع نظريات اخرى النقابات المهنية والديموقراطية في خانة المؤسسات الاساسية لهذا المجتمع. يكاد المفهوم يتسع ليطاول كل ما يقع خارج مؤسسات الدولة في وصفه ينتمي الى المجتمع المدني. ليس غريبا ان يسود التشوش في تحديد المفهوم، فقد احتاج المفهوم في المجتمعات الاوروبية الى عقود طويلة ليتبلور ويتحدد بشكل واضح، بعدما عانى ارتباكا شبيها لما نشهده في مجتمعاتنا العربية. لكن ما يتوافق عليه الجميع، كون مؤسسات المجتمع المدني مستقلة عن مؤسسات الدولة، وغير خاضعة لسلطتها، وتمارس دورا متعدد الجانب، يبدأ بالسياسة لجهة الرقابة ومتابعة ما يصدر عن الدولة في ميادين متصلة بحقوق الانسان والحريات السياسية والفكرية والاعلامية…، الى مهام اجتماعية وتنموية، وقضايا تتناول هموم المواطن. لكن حدود الفاعلية والقدرة على التدخل تبقى شأنا آخر له علاقة بطبيعة السلطة القائمة ومدى سماحها بحرية ممارسة هذا التدخل.
من المعروف ان نشوء المجتمع المدني وتطوره، ارتبط بقيام الدولة الحديثة، على قاعدة تمثيلها للشعب واحتكار القوة، وتطبيق سلطة القانون على جميع المواطنين. استوجب الامر في اوروبا قرونا للوصول الى تكون الدولة الحديثة والحسم في ما يقع عليها من مهمات، وما يقع على منظمات المجتمع المدني. تثير هذه النقطة اسئلة فعلية حول تكوّن المجتمع المدني في العالم العربي، ولا سيما ان الاستخدام يذهب احيانا الى نقل النموذج الاوروبي واسقاطه على المجتمعات العربية. لا يغيب عن قارئ المجتمعات العربية ان الدولة نفسها، مفهوما ومؤسسات وسلطات منفصلة عن بعضها، حديثة التكوّن والنشأة، وان عمرها لا يتجاوز العقود. مما لا شك فيه ان بعض الدول العربية شهدت نجاحا في هذا المجال، يتفاوت بين بلد وآخر، بحيث بات مألوفا رؤية مؤسسات غير تابعة للدولة، تسعى الى التدخل في الحياة العامة، وتمارس دورا رقابيا شبيها الى حد بما تعرفه اوروبا.
تقدم وقائع العقود الاخيرة في تطور المجتمعات العربية براهين لا تصب في مصلحة المجتمع المدني وتقدمه، وهو التطور الناجم عن الارتداد الحاصل في موقع الدولة نفسه، لصالح انبعاث متجدد لبنى ما قبل الدولة، وسعيها الحثيث للحلول محل الدولة في ممارسة السلطة واقتسام الثروة واحتكار العنف. وهذا مشهد توسع مع انهيار مشروع التحديث والنهضة الذي انطلق مع قيام دول الاستقلال، وفشل في تحقيق الشعارات النهضوية في التحرر القومي والوطني والتقدم الاجتماعي والحرية السياسية وتحقيق الديموقراطية. هذا الارتداد في دور الدولة يشكل اكبر الأخطار على المجتمع المدني، لان الدولة نفسها، على رغم السلبيات التي تشوب قيامها وممارساتها، تظل اطارا يتيح لمؤسسات المجتمع المدني ان تمارس عملها ضمنه، فيما سيتعذر ذلك عندما تهيمن العصبيات على المرافق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. عامل آخر، لعب دورا في حدود قيام المجتمع المدني وممارسة دوره، وسيكون له اثر في المستقبل، يتصل بالحرية السياسية المعطاة للفعل، والقيود المفروضة على ممارسة الديموقراطية، والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني في الحركة، او من خلال وضع اليد عليها والحاقها بالدولة.
هذا التحفظ الراهن والمستقبلي حيال موقع المجتمع المدني ودوره لا يعني الغاء له، فوجود هذا المجتمع وضرورته يتصلان اليوم بمجمل التطور العربي وبمدى تجدد مشروع نهضوي تحتاجه المجتمعات العربية لتجاوز التخلف الذي تقبع فئات كثيرة في سجنه.
خالد غزال