باتريك سيل أو التاريخ كما يشتهيه أهل الفــقيد
بعد مرحلة طويلة من الاتصالات والمقايضات، صدر كتاب باتريك
سيل: «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي»، في حملة دعائية ضخمة لم يسبق لها مثيل، وذلك لمجرد صدور كتاب. نقول المقايضات لأن مموّلي الكتاب من أقرباء الصلح اتصلوا أولاً بكمال الصليبي لإنجاز المهمة وحصل خلاف بين الجانبين حول النص الذي كتبه الصليبي. وانتقلت الاتصالات إلى أحمد بيضون وكانت النتيجة الفشل. أيضاً توجه أصحاب فكرة الكتاب غرباً بحثاً عن مستشرق يكتب للأجيال العربية الصاعدة عن «النضال من أجل الاستقلال العربي»، فوقع الاختيار على الفرنسي جان لاكوتور الذي أنشأ دراسة عرضها على المموّلين فرفضوها رفضاً قاطعاً
بدر الحاج *
حدد باتريك سيل هدف كتابه الجديد «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي»، في كلمته ليلة الاحتفال بصدوره في بيروت. قال الكاتب آنذاك إن علياء الصلح ـــــ ابنة رياض ـــــ طلبت منه كتاباً «يصفّق لوالدها»، وهكذا كان. بالطبع لأقرباء الصلح حق الدفاع عنه، لكن المسألة تتجاوز موضوع الشعور العائلي بالخسارة، وهو أمر مبرر، إلى التزوير المبرمج للأحداث على يد كاتب غربي مدفوع الأجر. فهل نجح سيل في تحقيق هدفه وأقنعنا بأن نصفق؟
موقف سيل من سعاده
قبل البدء بقراءة الكتاب كنت أتوقع أن يتحامل سيل ومساعدوه على أنطون سعاده لتبرير جريمة «القتل الديموقراطي» لسعاده التي خطط لها وأصرّ على تنفيذها رياض الصلح وثلاثة آخرون من السياسيين اللبنانيين، يتقدمهم حبيب أبو شهلا محامي التابلاين، طبعاً بموافقة بشارة الخوري كما سنبين لاحقاً. إن بوصلة تقويم أي كتاب عن رياض الصلح تعتمد بصورة أساسية على كيفية مقاربة الجريمة التي ارتكبها الصلح والنظام اللبناني بحق سعاده ورفاقه. وهذه مسألة لا يستطيع تجنبها المؤرخون.
لا حرج في أن ينتقد سيل سعاده وحزبه، ولكن أن يعمد إلى التزوير وتقويل الرجل ما لم يقله فهذه أمور رأيت أن أفندّها أولاً وأن أضعها أمام القارئ لكي يكون هو الحَكَم.
هذه هي العبارات التي ارتعب منها الصلح في خطاب أنطون سعاده بالغبيري
لم أستطع أن أفهم، مثلاً، لماذا لم يوضح لنا الكاتب إصرار رياض الصلح «الديموقراطي بالفطرة» (ص 745) و«المعلم الملهم» (744) أسباب عدم سماحه بعودة سعاده إلى بلده بعد هجرة قسرية امتدت من 1938 حتى 1947؟ كيف اعتبر سيل أنه يحق لهذا «الديموقراطي الملهم» أن يمنع مواطناً من العودة إلى أرضه؟ لم يذكر سيل أن السلطات اللبنانية الممثلة بالسفير اللبناني في الأرجنتين يوسف السودا رفضت بأمر من رياض الصلح إعطاء سعاده جواز سفر. إذا كان سيل يعرف ذلك ولم يشر إليه فهذا ما يضفي على كتابه صفة التزوير وعدم الأمانة التاريخية، أما إذا لم يكن يدري فالمصيبة أعظم. هنا أود أن أشير إلى ما ذكره كمال جنبلاط في استجوابه الثالث الذي قدمه لحكومة الصلح بشأن مقتل سعاده. كان جنبلاط في أوائل 1947 وزيراً للاقتصاد. يقول متحدثاً عن تلك الفترة: «وحاول سعاده الرجوع إلى لبنان لكن وزارة الخارجية حجزت عليه مأذونية السفر مدة طويلة بأمر من رئيس الوزراء آنذاك رياض الصلح، وهو عمل محض اعتباطي لا يقرّه العرف الدولي والقانون اللبناني… وكان السيد رياض الصلح يشترط دوماً إقصاء سعاده عن دفة الإدارة في الحزب…» (أنطوان بطرس: «8 تموز قصة محاكمة أنطون سعاده وإعدامه»، بيروت 2002، ص 234). لقد عاد سعاده إلى بيروت بعد حصوله على جواز سفر باسم أنطون مجاعص، وهكذا أحبطت مساعي الصلح، إذ من المعروف أن عائلة سعاده هي أحد فروع عائلة مجاعص الشويرية، ولجأ سعاده إلى استعمال الاسم الجديد في جواز سفره للعودة إلى وطنه.
عاد سعاده إلى بيروت يوم 2 آذار 1947 الذي اعتبره «أسعد يوم رأيته في حياتي»، وألقى خطابه المشهور من على شرفة منزل مأمون أياس في الغبيري بحضور آلاف من أعضاء حزبه. ويوم 13 آذار، أصدر رياض الصلح مذكرة توقيف بحقه مدعياً أن السبب هو: «الدعوة إلى اقتطاع جزء من لبنان، والإخلال بالأمن، والتفرقة بين الطوائف». («النهار» 15 ـــــ 16/3/1947).
السؤال هنا: إذا افترضنا أن ما ادعاه الصلح صحيح، رغم أن الخطاب كان عكس ما ادعاه الصلح، فما الضرر في أن يؤمن أي مواطن بأي شيء؟ وهل مجرد إلقاء خطاب يستوجب إصدار مذكرة توقيف استمرت ما يقارب الستة أشهر؟ لكن بالعودة إلى ذلك الخطاب يتبيّن لنا أن شعور رياض الصلح وحكومته بخطر سعاده وحزبه لا يعود إلى الاتهام الذي ألصق بسعاده بل إلى مواضيع أخرى طرحها سعاده في خطابه لا علاقة لها بلبنان ـــــ الكيان الذي يخاف عليه الصلح.
إن ادعاء الصلح كان مجرد قميص عثمان، فإصدار مذكرة توقيف لسعاده له، في منظار الصلح، مردود إيجابي مع القوى المذهبية اللبنانية بحيث يبرز بطل «الاستقلال العربي» أنه يتجاوز التشكيلات المذهبية في عدائها لسعاده وحزبه، وهذا ما يعود عليه بالتمجيد.
الواقع أن رعب الصلح جاء من العبارات الآتية: «أنتم لستم كالفئات الأخرى التي عملت اعتباطاً متنافراً بعضه مع بعض… إن عملكم لم يكن انتهازياً، لم يكن تحت حماية الحراب البريطانية كما أنه في الماضي لم يكن تحت حماية الحراب الألمانية أو الروسية أو غيرها». وقوله أيضاً: «نحن أصحاب العروبة الحقيقيون، وكان غيرنا أصحاب العروبة الباطلة». وأخيراً، وهنا بيت القصيد، حين حدد بوضوح صارم لا لبس فيه «إن جهادنا يستمر، ويجب أن تذكروا دائماً أن فلسطين السورية، هذا الجناح الجنوبي، مهدد تهديداً خطيراً». وهنا لبّ الموضوع بالنسبة للصلح، حين يتابع سعاده القول: «ولعلكم ستسمعون من سيقول لكم إن في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين، وإنه أمر لا دخل للبنانيين فيه. إن إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم…» (جريدة «صدى النهضة»، بيروت، العدد 245 في 5 آذار 1947).
لقد عاد سعاده في آذار 1947 رغم معارضة قيادة حزبه آنذاك، تلك القيادة التي حاولت المستحيل لمنع عودته وتجاهلت الإجابة عن رسائله المتكررة، وعندما أُسقط في يدها أرسلوا إلى لقائه في القاهرة وفداً لإقناعه بتبديل مواقفه حين يصل بيروت. كانت القيادة الحزبية آنذاك قد حل عليها «الوحي» فآمنت بلبنان «الأبدي السرمدي». بعضها، مثل نعمه تابت، وثّق علاقاته بكميل شمعون والسفير البريطاني، والبعض الآخر كان من المعجبين بأفكار شارل مالك، أمثال يوسف الخال وغسان تويني. هذا للتاريخ. كتابات سعاده حول هذا الموضوع، فضلاً عن معاناته بضعة أشهر للحصول على جواز سفر، واضحة ومتوافرة وموجودة في الأسواق لا مكان للعودة إليها في هذا السرد السريع.
إذاً الأزمة مع رياض الصلح بدأت قبل وصول سعاده إلى بيروت واستمرت ما بين آذار 1947 وتموز 1949. مذكرة توقيف لمجرد إلقاء خطاب، تلاها تعطيل الصحف والمجلات الحزبية، ومنع النشاطات الحزبية العامة، ومراقبة دقيقة هاتفية ويومية لنشاطات سعاده كما تظهر وثائق مدير الأمن العام الأمير فريد شهاب، ثم اعتقالات وأخيراً تخطيط محكم من حكومة الصلح بالتنسيق مع تشكيلة الكتائب لقتل سعاده، ونجح المخطط في 8 تموز 1949 بتصفيته مع مجموعة من أعضاء حزبه انتُقيت بالقرعة وعلى أساس طائفي وفق الأسلوب الديموقراطي للراحل رياض الصلح الذي يكره جداً الطائفية كما يدّعي سيل. هذا هو مختصر سريع لمجرى الأحداث. ماذا عن الخلفيات وكيف عالج سيل في كتابه ظاهرة سعاده وحزبه؟ لنبدأ بما يلي:
1ــــ في الثلاثينيات يقول سيل: «وعندما واجه سعاده خطر الاعتقال مرة أخرى (اعتقله الفرنسيون ثلاث مرات 1935، 1936 و1937 بينما بطل الاستقلال يسرح ويمرح) بسبب تودده لألمانيا قرر مغادرة بيروت فجأة». (ص 667)
وفي مكان آخر يقول «إن سعاده كتب في 11 تشرين الثاني 1939 في صحيفة سوريا Diario Syrio في سان باولو مقالاً مؤيداً للنازيين». (ص 397).
بالنسبة للاتهام الأول، أتحدى السيد سيل أن يشير إلى المقال الذي كتبه سعاده في بيروت متودداً للنازية. ليتفضل سيل أو من ساعدوه، وربما كتبوا له، أن يشيروا إلى المقال الذي استندوا إليه. صحيفة الحزب آنذاك كانت «النهضة»، وكتابات سعاده موجودة، والأمانة العلمية تقضي أن يشار إلى المصدر.
أما في ما يتعلق بمقال سعاده في ساو باولو، فليس هناك من حيث الشكل على الأقل جريدة اسمها Diario Syrio، كان هناك صحيفة اسمها «سورية الجديدة» أصدرها سعاده بشراكة مع قوميين من آل البندقي، وبعد صدور بضعة أعداد توقف سعاده عن إمداد الجريدة بالمقالات وأعلن رسمياً عدم علاقة الحزب بها ودعا إلى مقاطعتها بسبب انحرافها إلى دول المحور، ورسائله وتوجيهاته بهذا الخصوص واضحة، والجريدة موجودة على شكل مايكرو فيلم في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، فليتفضل السيد سيل ومن عمل معه ويبرزوا لنا هذا المقال الذي استندوا إليه. أقل ما يقال في هذا الإطار إن سيل يكذب، وهذا أمر مقزز كي لا نقول أكثر. بالطبع ليس للقيم الأخلاقية والمعايير العلمية وجود في جو التصفيق.
2ــــ في عرضه لوضع سعاده وحزبه أثناء الوجود القسري للمؤسس في المهجر الأرجنتيني يقول سيل: «أمضى سعاده فترة الحرب في أميركا اللاتينية، في شيء من الأمن والراحة، وواجه أتباعه في لبنان أوقاتاً عصيبة». (ص 668). ثم يضيف في مكان آخر: «بادر بعد عودته إلى حل المجلس الأعلى وتعليق عضوية أعضائه الذين قدموا تضحيات كبيرة للحفاظ على استمرارية الحركة في أثناء غيابه. لا شك في أن سعاده أراد بصرفهم بهذه الطريقة الفظة، إعادة توكيد سيطرته التامة على الحزب»! (ص 672). ما يريد أن يقوله سيل هو أن سعاده كان مرتاحاً يعيش برغد في المهجر بينما المناضلون ـــــ الذين عملوا مع السفارة البريطانية في بيروت ـــــ تعرّضوا للأخطار. لن أستفيض في تكذيب هذا الادعاء المفرط في التزوير، أيضاً رسائل سعاده وكتاباته في تلك الفترة تبرز مرحلة صعبة جداً واجهها الرجل في المهجر حيث دفعه الفقر والعوز إلى العمل مع زوجته في متجر لبيع القرطاسية والورق من أجل لقمة العيش.
3ــــ التحامل المبرمج على سعاده لا يفارق صفحات الكتاب. يدرج سيل مجموعة من الاتهامات والأضاليل المتناقضة. مثلاً: «عاد عليه دفاعه عن آرائه [أمام المحكمة المختلطة سنة 1935 عندما اكتشف أمر الحزب] بإصرار وعناد ببعض السخرية» (ص 393)، «ولعله [لاحظ كلمة لعله] تأثر بأفكار الكاهن اليسوعي هنري لامنس» (ص 393) أو «عندما نودي عليه باسم أنطوان سعاده [في المحكمة الفرنسية] لم يجب إلا عندما أُبدل الاسم السرياني أنطون بالاسم الفرنسي أنطوان» (ص 394) ـــــ إنه أمر مثير للضحك والسخرية ـــــ رفض سعاده الإجابة عندما نودي عليه باسم أنطوان، لكنه أصر على اسم أنطون العربي، لكن الأمور اختلطت على السيد سيل بين العربي والسرياني، فهو أصلاً لا يتقن العربية ناهيك بالسريانية، على أية حال هذا تفصيل.
من ناحية أخرى، لننظر كيف يغمز سيل ومَن وراءه من قناة حزب الله في معرض تحامله على سعاده.
يقول السيد سيل إنه: «بعد المحاكمات الفرنسية لأنطون سعاده في الثلاثينيات، أعجب الناس بموقفه أمام المحكمة (عجباً! في المقطع السابق ادعى أن موقفه كان مدار سخرية) وأعجبوا بتنظيم الحزب الذي تمكن في أوقات الأزمات الاقتصادية من تأمين الخدمات العامة وعدد كبير من الوظائف (مثلما فعل حزب الله في وقت لاحق)». (ص 395).
هذا كلام لا يحتاج إلى تعليق. إنه مهين لصاحبه وقمة في الهراء. أولاً في تبريره السخيف لانتشار أفكار سعاده بين الناس، وبصورة خاصة في معاقل آل الصلح وتحديداً بين المثقفين والمهنيين من السنّة، على الأقل لم يعتمد سعاده على «قبضايات الأحياء» الذين هم مصدر قوة رياض الصلح كما يقول باتريك سيل في (ص 403)، لا بدّ أنها زلة لسان منه غير مقصودة طبعاً.
أما جوابنا على الوظائف التي أغرى بها سعاده أعضاء حزبه كما يدعي سيل فنقول إن سعاده اتهم بالكثير: يميني، نازي، عدو لبنان، عدو العرب، ولكن بعد مراجعة كل ما كتب من سلبيات بحق سعاده، أهنئ السيد سيل على هذا الاكتشاف، الذي لم يسبقه إليه حتى أكثر الفئات عداوة لسعاده.
لم ينتشر حزب الله بسبب الوظائف والخدمات الاجتماعية، على أهميتها، بل انتشر وانتصر لأن النظام السياسي الذي أرساه السيد الصلح لم ينشر سوى الموت والفقر والجوع والمهانة في «الأقضية الأربعة» التي ناضل آل الصلح لإلحاقها بلبنان الكبير في مؤتمر الساحل. لماذا لم يذكر سيل، مثلاً، أن كاظم الصلح الذي حضر مؤتمر الساحل في حديقة منزل أبو علي سلام في الدوحة هرب من الاجتماع بعدما قذف بالليمون لموقفه «الوطني»؟ لقد واصل الصهاينة عمليات القتل بدون أي رادع ضد اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين على الأراضي اللبنانية، كي لا نقول بتواطؤ من هذا النظام. ورغم ذلك كان الانتصار على صهاينة فلسطين ومرتزقتهم في بيروت في سنوات 2000 و2006، وهذا الانتصار هو بحق من أروع الانتصارات في التاريخ العربي الحديث، وهو هو العروبة الحقيقية والاستقلال العربي الحقيقي.
عن الوحدة العربية والحركة الصهيونية
في موضوع فلسطين والحركة الصهيونية يدّعي سيل أن «ثمة مجالات أخرى اقترب فيها سعاده كثيراً من سلب مُثل رياض الصلح التي يتمسك بها. فقد دعا سعاده إلى إنهاء النظام الطائفي وقيام الأمة السورية الكبرى على أساس المواطنية المشتركة لا على أساس الانتماء الديني أو العرقي. وذلك هدف وضعه رياض نصب عينيه في لبنان، لكنه لم يستطع تحقيقه في ذلك الوقت» (ص 679). يريدنا سيل أن نعتقد أن همّ رياض الصلح هو إنهاء النظام الطائفي، لكننا نسأله عمّن أقام هذا النظام ومن تربع على عرشه؟ وما المشكلة في إنهائه؟ الحقيقة أن هذه النقطة نعتبرها قمة الذكاء من سيل الذي يريدنا أيضاً أن نعتقد أن الصلح يريد الوحدة السورية! عجباً! أترك للقارئ أن يستوعب هذا الأمر. ولكن لا بد هنا من الإشارة إلى ما ذكره يوسف سالم، صديق رياض الصلح، في معرض الإشادة برياض حين قال: «إن رياض يقول بأن لبنان ذو وجه عربي وليس بلداً عربياً». وإنه كان يردد: «لا وحدة سورية ولا انتداب». (يوسف سالم «50 سنة مع الناس»، دار النهار، بيروت 1898، ص 155).
رغم الكلام الموثق أعلاه يصر سيل على القول إن الصلح هو من دعاة الوحدة السورية. وهنا لا بد من التنويه بتحليل دقيق لمواقف الصلح من موضوع الوحدة أشار إليه كمال جنبلاط في استجوابه الثالث لحكومة الصلح بعد مقتل سعاده حين علق على خطاب الصلح بمناسبة رأس السنة 1948 قائلاً: «هذا الخطاب الغريب في بابه والذي لم يرد فيه ذكر للعروبة ولا للوجه العربي، كأنما كان يقصد التنقل فيها (والوجوه تلبس في أوقاتها). إذا لم نعتمد تذكير رئيس الحكومة بالماضي الذي كان يتنكر فيه حضرته للبنان (الشاطئ السوري) ويطالب بالوحدة السورية التامة، وبالإمبراطورية العربية إلى غير ذلك من الأنغام التي تعودناها من أكثر السلبيين خارج الحكم والتي كانت تطرب لها الجماهير اللاواعية…» (أنطوان بطرس، مصدر سبق ذكره ص 232). ويضيف جنبلاط: «إن العروبة الحقيقية تتنقل في الواقع من الساسة الممتهنين الذين غيروا أو بدلوا ألف مرة ومرة أفكارهم واتجاهاتهم السياسية. وفي كل مرة يعللون هذا التغيير بشتى الأعذار والأسباب والاعتبارات التي لا تدل إلا على وهن العقيدة في نفسهم وعلى رغبتهم في الوصول». (المصدر السابق، ص 233).
من ناحية أخرى، يدعي سيل كذباً (في ص 678) أن سعاده «أبلغ الصحافة أن على العرب القبول بتقاسم فلسطين مع إسرائيل كأمر واقع، في ذلك الوقت كانت هذه العبارة مثيرة للغضب [الآن قمة الوطنية بالنسبة إلى سيل] ورأى بعض الأشخاص أنها تؤكد صلة سعادة بالبريطانيين». ماذا يمكن المرء أن يرد على مثل هذه التفاهات وهذا التزوير؟
رياض الصلح (أرشيف)رياض الصلح (أرشيف)أين هو تصريح سعاده؟ في أية صحيفة أو مطبوعة؟ نورونا. إن موقف سعاده من المسألة الفلسطينية منذ عشرينيات القرن العشرين إلى آخر يوم في حياته واضح، فهو في ما كتب وفعل ليس بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من أحد. وقد نعذر سيل لأسلوب التزوير الذي اعتمده فلذلك سبب معروف.
إن اتهام سعاده بالموافقة على تقسيم فلسطين يدحضه سيل شخصياً في الصفحة 697 من كتابه إذ يقول: «لم يكن سعاده يقبل النقاش، فهو منظّر أيديولوجي لا يؤمن ولا بتسوية…. وساد اعتقاد في بيروت أنه ديماغوجي وثوري خطير يجب التخلص منه». إذاً أوضح لنا سيل بدون أدنى شك أن النية في بيروت [بالتحديد لدى رياض الصلح والفريق الحاكم، كما سنوضح لاحقاً] تصفية سعاده. وعلى أساس قول سيل إن سعاده «منظّر أيديولوجي لا يؤمن ولا بتسوية»، كيف يفسر لنا ادّعاءه بقبول سعاده تقسيم فلسطين والتسوية؟ وهنا نود أن نشير إلى حقيقة موقف رياض الصلح من تقسيم فلسطين التي لم يشر إليها السيد سيل.
يقول الأمير عادل أرسلان وزير الخارجية السوري، وهو بالمناسبة كان على خلاف شديد مع سعاده، في مذكراته، إن الحاج أمين الحسيني كتب إليه يرجوه ألا تعترف سوريا بإسرائيل. ويذكر أرسلان بتعجب: «من قال له إننا نميل إلى ارتكاب خيانة كهذه؟» (ص 831)، ويضيف: «نزلت إلى بيروت وزرت رئيس الجمهورية [بشارة الخوري] فأخبرني أن الوفود العربية في لوزان، وهي وفود مصر والأردن ولبنان وسوريا، قد وقّعت بالتتابع بروتوكولاً على أساس التقسيم. فدهشت لهذا النبأ ثم سألت رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح] حقيقته فقال لي: «لم أطّلع على شيء» وإن وزير الخارجية حميد فرنجية سافر اليوم إلى زغرتا». (مذكرات الأمير عادل أرسلان، الجزء الثاني 1946 ـــــ 1950 تحقيق يوسف ايبش، الدار التقدمية ـــــ بيروت، ص 831).
أنطون سعادة (أرشيف)أنطون سعادة (أرشيف)ويشير أرسلان في مكان آخر إلى مواقف حكومة رجل «الاستقلال العربي» بقوله: «حكومة لبنان تسمح بهجرة اليهود إلى فلسطين، وممثلها في اللجنة الأولى في الأمم المتحدة يغيب عن الجلسة ساعة الاقتراع على قضية ليبيا، وذلك من أجل إيطاليا…» (ص 834). أيضاً وفي سياق الادعاء بقبول سعاده بفكرة التقسيم، نسأل السيد سيل هل بإمكانه أن يفسر لماذا مَنعتْ حكومة الصلح المهرجان الذي دعا إليه سعاده في 2 تشرين الثاني 1947 في فندق نورمندي لرفض وعد بلفور؟
يختار باتريك سيل ما يناسبه ويخفي الكثير عن العلاقات والمفاوضات والحوارات بين رياض الصلح والصهاينة، بينما يستفيض في سرد وقائع المحادثات بين الصهاينة وجورج أنطونيوس وبعض قادة الكتلة الوطنية في دمشق وقادة فلسطينيين، ولكن رغم ذلك نسير مع باتريك سيل في خطاه وننقل عنه التالي، على طريقة من فمك أو قلمك أدينك.
يتحدث سيل عن ذكاء رياض الصلح وبراغماتيته في موضوع الاستيطان الصهيوني في فلسطين فيقول: «في العقد التالي [الثلاثينيات] كانت حجة رياض تقوم على أنه إذا تمكن من إقناع الصهاينة بوضع ثقلهم السياسي والمالي خلف قضية استقلال عربي يجمع سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن [لم نكن نعلم أن رياض الصلح كان يحاول إقناع وايزمن بالوحدة السورية لا الوحدة العربية] فإنه سيتمكن من التوصل إلى «وعد بلفور عربي» يمنح بموجبه اليهود وطناً داخل هذا الكيان العربي الواسع والواثق. فعرض ذلك على ديفيد بن غوريون وموسى شرتوك في عام 1934 وعلى حاييم وايزمن نفسه في عام 1936، معتقداً أن في وسعه إقناع عرب فلسطين بقبوله، لكن الصهاينة كانت لهم أهداف أبعد من ذلك» (ص 288).
السؤال هو: مَن خوّل رياض الصلح إعطاء «وعد بلفور عربي» يمنح بموجبه قسماً مهمّاً للهجرة الاستيطانية إلى فلسطين؟ وهل موضوع الحقوق الوطنية في فلسطين هو للمساومة والمقايضة في سوق الخُضَر كما يجري اليوم؟
أعود إلى نقطة ثانية وأخيرة، كي لا أطيل في هذا الموضوع على أهميته، إذ يقول سيل: «كان على رياض أن يعيش في صراع بين معارضته التامة لفكرة إقامة «وطن قومي لليهود» كما تملي عليه فطرته، واعتماد نهج أكثر حذراً وتعقلاً من الناحية السياسية، يقوم على حقائق القوة»، (ص 287).
الخلاصة هي: بما أن اليهود أقوياء يجب أن نوافق على شروطهم باعتماد البراغماتية والحذر والتعقّل. أليس هذا ما يفعله الآن دحلان ومحمود عباس؟
إن الفهم السطحي للحركة الصهيونية وأهدافها لدى الصلح وأمثاله هو السبب في ضياع فلسطين وفي قيام المستوطنين اليوم بوضع الأسس النهائية لابتلاع كل فلسطين، فمن قبل بالتفريط باللد والرملة وحيفا وعكا وسمسر لبيع الأراضي في الجليل (منها أسر لبنانية وطنية جداً) أوصلنا إلى ما لا نحسد عليه اليوم.
يخفي سيل حقيقة ما جرى بين كل من وايزمن وشرتوك وبن غوريون مع السيد الصلح. هنا أود أن أعيد نشر ما جاء في دراسة قيّمة كتبها أسعد أبو خليل في مجلة «الآداب» بعنوان «أقنعة الفرنكوفونية ـــــ بطلان الثقافة اللبنانية». فالمعلومات التي نشرها أبو خليل استناداً إلى مذكرات بن غوريون أخفاها سيل ولم يشر إليها. نقتطف من دراسة أبو خليل الآتي:
«إن الاتهام الأخطر هو حول علاقة الصلح بالمنظمة الصهيونية المركزية، ويمكن تدعيمه بالنظر إلى الأوراق الخاصة لحاييم وايزمن، أول رئيس دولة لإسرائيل. فقد ورد في هذه المذكرات خبر اتصال الياس ساسون برياض الصلح (والأول هو من الروّاد السبّاقين في تجنيد عرب لمصلحة الصهيونية ونجح أيما نجاح في ذلك مع حزب الكتائب بحسب كتاب Kristen E. Schulze «دبلوماسية إسرائيل السرية في لبنان» الصادر في نيويورك عن دار نشر سانت مارتين عام 1998) انظر ص280 من كتاب وايزمن، وقد صدر في القدس المحتلة عن «منشورات جامعات إسرائيل» عامي 1974 ـــــ 1975. ويورد محرر المجلد، واسمه برنارد واسرتين، معتمداً على وثائق إسرائيلية وصهيونية غير منشورة، وذلك في حديثه عن اجتماع سري في منزل المموّل الصهيوني روتشيلد مع وايزمن، أن الصلح كان «تحت واجب مالي من الصهاينة». أي إنه كان مدفوعاً مالياً من قبلهم، والعبارة بالإنكليزية: He was under financial obligation to the Zionists ، وقد تطوع الصلح في تشرين الثاني 1921، وبعد لقاء خاص مع وايزمن، لإقناع مجموعة من «السوريين» باللقاء مع الصهاينة بمن فيهم صديقه وايزمن نفسه، فتم الاجتماع في 18 آذار 1922 في القاهرة (وذلك أيضاً بحسب مذكرات وايزمن نفسها، المجلد 11، السلسلة A أيضاً الصادرة بين يناير 1922 ويوليو 1923 ـــــ الرسالة رقم 75) وفي بيان رسمي أمام اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية في أكتوبر 1921 ذكر وايزمن أن الصلح كان مستعداً «لقبول الصهيونية ووعد بلفور كأمر واقع، (انظر المذكرات نفسها، السلسلة B، المجلد I، أغسطس 1898 ـــــ يوليو 1931، وقد صدرت في نيو برونزويك عن منشورات كتب Transaction عام 1983، ص 234) وفي الصفحة نفسها أشار محرر هذا المجلد (وهو غير محرر المجلد الأول) إلى أن الصلح كان مدفوعاً من الصهاينة، وأنه كان في مهمة اتصال سلمي مع اليهود حين اغتيل. («الآداب» 9/10/2001).
ويشير مصدر آخر إلى أنه في المفاوضات التي جرت بين رياض الصلح ووايزمن في 2 تشرين الثاني 1921، سأل رياض وايزمن إذا كان «مستعداً للتخلي عن إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان الجواب أن ما من أحد يؤكد أن ذلك لن يحصل» (Aharon Cohen, Israel and the Arab world, New York, 1970, P.85).
رغم الجواب القاطع لوايزمن تواصلت مفاوضات الصلح ومحمد رشيد رضا صاحب «المنار» والصحافي اللبناني إميل الخوري مع القادة الصهاينة في 19 آذار 1922 وفي 2 نيسان 1922، والحوار كان يدور حول الاتفاق لتحقيق أماني الصهانية بالتفاهم (المصدر السابق، ص 86) وكان وايزمن في الاجتماع الثاني مرتاحاً وكان يعتبر أن رياض الصلح مدين مالياً للصهاينة» (المصدر السابق أيضاً).
واصل الصلح اجتماعاته بفريدريك كيش رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية في 3 نيسان 1923 وقام بعد الاجتماع بزيارة الأمير عبد الله الذي كان يتفق معه في الرأي. ( Frederick Kich, Palestine diary, London 1938, P. 47).
الفهم السطحي للصهيونية لدى الصلح وأمثاله أوصلنا اليوم إلى ما لا نُحسَد عليه
يمكننا الاستنتاج من كلام سيل أن عدم اعتماد زعماء العروبة، ومن بينهم الصلح، آنذاك، السياسة البراغماتية في التعامل مع الصهاينة أوصلنا إلى هذا الوضع. والواقع أن همّ زعماء ذلك الزمان (كزعماء اليوم) كان محلياً يستهدف تدعيم زعامتهم. وهذا ما لاحظه سيل حين قال (ص 403): «على الرغم من أن رياض لم يكن لديه حزب سياسي أو ميليشيا خاصة، فقد وفر له «قبضايات» الأحياء مصدراً للقوة. وكان رياض يعرف من هم في كل حي من أحياء بيروت، وكذلك في صيدا. وقد حرص كثيراً على صداقتهم وإشباع غرورهم وتنمية ولائهم من خلال الخدمات المتبادلة المادية والرمزية. واستعان بهؤلاء القبضايات في الانتخابات النيابية ـــــ وبخاصة انتخابات 1943 الحاسمة ـــــ «كمفاتيح انتخابية» لحشد الأصوات. ولم يكن هؤلاء حلفاء مهمين فحسب، بل ساهموا أيضاً في فرض سلطته السياسية عند الضرورة. لقد كانوا أصدقاءه الذين يمكن التعويل عليهم للجوء إلى القوة عند الحاجة. وأظهرت دراسة أجرتها السلطة اللبنانية عام 1943 وجود واحد وثمانين قبضاياً في بيروت: واحد وخمسون منهم مع رياض الصلح وتسعة مع عبد الله اليافي وسبعة مع أيوب ثابت».
ولكن لم يذكر لنا سيل كيف أن قائد القبضايات البراغماتي، الديموقراطي، الذي يعرف كل شاردة وواردة عن قبضايات الأحياء، لم يدرك أن محاولته إقناع وايزمن وبن غوريون بالوحدة العربية أو السورية أمر مستحيل! للأسف زعيم القبضايات الذي بنى سلطته على قوتهم لم يستطع بلف وايزمن وبن غوريون. وقد يكون السبب أن صهاينة ذلك الزمان لم يقيموا أي اعتبار للصلح وقبضاياته الواحد والخمسين في شوارع بيروت، لذلك أهملوا اقتراحاته ووعوده لهم، ونتيجة لذلك حلّت بنا المصائب. ولكن للإنصاف تغلب الصلح بعدد القبضايات على اليافي وثابت. ترى، كيف استطاع باتريك سيل تحديد عدد قبضايات رياض الصلح، وهذا موضوع مهم جداً لتحقيق الاستقلال العربي، ولم يستطع أن يعرف أو أن يشرح ماذا جرى بين الصلح وبن غوريون وغيره من القادة الصهاينة حتى بعد قيام دولة إسرائيل سنة 1948؟ هذا ما سأوضحه لاحقاً.
* كاتب لبناني
الأخبار