الإعلام الجديد.. رواج كبير لسبب بسيط
بالمخالفة للاعتقاد السائد بأن التكنولوجيا لن تحافظ على ذكائنا
ترورو (ماساشوستس): ستيفن بينكر*
دائما ما تعرضت الأشكال الجديدة للإعلام، من صحافة مطبوعة، وصحف وكتب وقنوات تلفزيونية اعتبرت كل منها في بداياتها بمثابة تهديد للقدرات العقلية للمستهلكين والنسيج الأخلاقي، لانتقادات أخلاقية.
وقد تكرر الأمر ذاته مع التكنولوجيا الإلكترونية، فقيل لنا إن «الباور بوينت» حول المحادثات إلى مجرد عناوين، وخفضت محركات البحث من نسبة ذكائنا وشجعتنا على الأخذ بقشور المعرفة بدلا من الغوص في أعماقها. كما عمل «تويتر» على تقليص محيط انتباهنا.
لكن تلك المخاوف تكذبها الحقائق.. فعندما اتهمت الكتب المصورة بوقوفها وراء جنوح الشباب في الخمسينات، كانت مستويات الجريمة تشهد انخفاضا كبيرا، كما تزامن رفض ألعاب الفيديو في التسعينات مع الانخفاض الهائل في الجريمة على مستوى الولايات المتحدة. وقد كانت عقود التلفزيون والراديو وشرائط فيديو موسيقى الروك العقود التي ارتفعت فيها نسبة الذكاء بشكل عام.
وإذا ما أردنا أن ندلل على ذلك فلنأخذ حقل العلوم، الذي يتطلب من العاملين به مستوى عاليا من العمل الذهني يقاس بحجم الاكتشافات الواضحة. سنلاحظ أن العلماء في الوقت الحالي لا يفترقون عن البريد الإلكتروني، ونادرا ما يلجأون إلى الورقة والقلم، ولا يمكنهم الدرس إلا في وجود تقنية «الباور بوينت». فإذا كانت وسائل الإعلام الإلكتروني تشكل خطورة على الذكاء فمن الطبيعي أن تنخفض جودة العلم، بيد أن الاكتشافات تتكاثر كذبابة الفاكهة، والتقدم مذهل في جميع المجالات. أضف إلى ذلك أن نشاطات الحياة العقلية الأخرى مثل الفلسفة والتاريخ والنقد الثقافي التي تشهد ازدهارا هي الأخرى.
وأحيانا ما يستغل منتقدو الإعلام الجديد العلم ذاته من أجل التأكيد على أطروحاتهم، مستشهدين بالأبحاث التي تظهر أن «التجربة قادرة على تغيير العقل»، لكن علماء الأعصاب يغضون الطرف عن مثل هذا الحديث. ربما يكون صحيحا أننا عندما نتعلم أمرا جديدا يزيد ذلك من قدراتنا العقلية، وهي ليست كالمعلومات المخزنة في البنكرياس، لكن وجود المطاوعة العصبية لا يعني أن المخ قطعة من الصلصال ستشكلها التجربة. إذ لا تعمل التجربة على إعادة تشكيل قدرات معالجة المعلومات في المخ. فقد زعم لفترة طويلة أن برامج القراءة السريعة تعمل على ذلك، لكن ذلك الزعم نقضه وودي آلن بعد قراءته رواية «الحرب والسلام» في جلسة واحدة، فقال «إنها تتحدث عن روسيا».
أما تعدد المهام فقد تبين أنه أسطورة، ليس فقط من قبل الدراسات المعملية، لكن حتى قبل الملاحظة لسيارات الدفع الرباعي وهي تنتقل من دون استقرار بين الحارات عندما يحاول السائق عقد صفقات عبر هاتفه المحمول.
علاوة على ذلك، يشير الطبيبان النفسيان الدكتور كريستوفر كابريس والدكتور دانييل سيمونز في كتابهما الجديد «الوحش الخفي: والوسائل الأخرى التي تخدعنا بها حواسنا»، إلى أن تأثيرات التجربة تقتصر على نوعية التجارب ذاتها، فلو أنك قمت بتعليم عدد من الأفراد على القيام بأمر ما (إدراك أشكال وحل معادلات رياضية وألغاز وإيجاد الكلمات الخفية) فهم يتحسنون في القيام بهذا ولا شيء آخر. فالموسيقى لا تجعلك متميزا في العمليات الحسابية، وتعلم اللغة اللاتينية لن يجعلك أكثر منطقية، وألعاب التدريب الذهني لن تجعلك أكثر ذكاء. ولا يميل المتخصصون في مجالات العلوم المختلفة إلى اللجوء إلى الألعاب الذهنية، لأنهم يشغلون أنفسهم في مجالات أعمالهم. فالروائيون يقرأون الكثير من الروايات، والعلماء يقرأون في المجالات العلمية.
تأثيرات وسائل الإعلام الإلكتروني يحتمل أن تكون أكثر محدودية مما يستدعيه ذلك الخوف. فيكتب منتقدو هذا النوع من الإعلام مفترضين أن المخ يصطبغ بما يدخل إليه على غرار القول «أنت ما تأكل». وكما كان الحال مع الأفراد البدائيين الذين اعتقدوا أن أكل الحيوانات المفترسة سيجعلهم أكثر شراسة، فقد اعتقدوا أن مشاهدة المشاهد السينمائية السريعة في موسيقى الروك تحول حياتك العقلية إلى نوع من المشاهد السريعة، أو أن تحول قراءة عناوين النشرات ومقتطفات «تويتر» أفكارك إلى مجرد نقاط ومقتطفات «تويتر» يعوزها الترابط وبعيدة عن العمق والتحليل.
صحيح أن وصول الحزم المستمرة للمعلومات يمكن أن يتسبب في حالة من التشتت أو الإدمان خاصة بالنسبة للأفراد الذين يعانون من اضطراب في التركيز. لكن تشتت التركيز ليس ظاهرة جيدة، والحل لا يكمن في إلقاء اللوم على التكنولوجيا بل في تطوير استراتيجيات للتحكم في النفس كما فعلنا مع كل مغريات الحياة، من التخلي عن البريد الإلكتروني أو «تويتر» عندما تكون في العمل أو «بلاكبيري» على العشاء، واطلب من زوجتك أن تذكرك بميعاد محدد للنوم.
ولكي نشجع على العمق العقلي، لا تلق اللوم على «الباور بوينت» أو «غوغل». فالعملية ليست كما لو أن عادات التأمل، والبحث الشامل والمنطق الصارم تأتي بصورة طبيعية للأفراد، بل لا بد من امتلاكها في المؤسسات الخاصة، التي نسميها جامعات، والحفاظ عليها بالصيانة الدائمة، التي تستدعي التحليل والانتقاد والمناقشة. ولا يمكن الحصول عليها عبر وضع موسوعة ضخمة على حاسبك المحمول، كما أنها لن تضعف عبر الدخول الفعال للحصول على المعلومات من الإنترنت.
لقي الإعلام الجديد رواجا كبيرا لسبب بسيط، وهو أن المعرفة تزداد بدرجة كبيرة. ولحسن الحظ فإن الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات تساعدنا في إدارة والبحث واستعادة ومخرجاتنا العقلية الجمعية على النطاقات المختلفة في كل من «تويتر» واستعراض الكتب الإلكترونية والموسوعات المعرفية على الإنترنت. وبغض النظر عن الاعتقاد بأن هذه التكنولوجيات ستجعلنا أغبياء فإن هذه التكنولوجيات هي الشيء الوحيد الذي سيحافظ على ذكائنا.
* أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب «قوام التفكير»
الشرق الأوسط