مكتبة لندن: عالم معارف سرّي
إدوين هيثكوت
تضم مكتبة لندن ذو المزيج الآسر من ديكور النوادي الخاصة الفخمة والهندسة الفيكتورية المستوحاة من الخيال العلمي والفنتازيا، أحد العوالم الداخلية الأغرب والأكثر إلحاحاً. فخلف واجهة إدواردية مغفلة في ساحة ساينت جيمس، مكتبة الإعارة المستقلّة الأكبر في العالم هي مؤسّسة لا تشبه أي مؤسسة أخرى، متاهة صامتة تتألّف جدرانها من رفوف فولاذية وكتب.
تأسّست المكتبة، وهي من تصميم توماس كارليل، عام 1841، وكان أعضاؤها الأوائل يشملون تشارلز ديكنز وجورج إليوت. والآن تزخر بنحو مليون مجلّد مخزَّنة في 15 ميلاً من الرفوف المفتوحة أمام الجميع. كل ثلاث سنوات، يقتضي نهمها للمطبوعات إضافة نصف ميل من الرفوف، وقد أُنجِزت للتو المرحلة الأخيرة من الجراحة المعقَّدة المطلوبة كي تستمرّ في العمل في موقعها الذي يبدو مستعصياً.
تولّى العمل مكتب الهندسة المعمارية “هاوورث تومبكينز” الذي سبق أن أجرى تحوّلاً في مبانٍ مميّزة – إنما أيضاً عزّز طابعها – مثل مسرح “رويال كورت” ومسرح “يونغ فيك” في لندن. ينجح التصميم الدقيق والمتأنّي في الحفاظ على أجواء المكتبة المتميِّزة التي تقوم على الوظيفية الطبيعية مع استعمال البنى المجاورة في الوقت نفسه واستحضار مساحات جديدة داخل المبنى الأصلي.
وقد فُتِح “اللوبي” وجرى ترشيده، وأعيد فتح صالات العرض التي كانت تعمل حتى ثلاثينات القرن العشرين، ووُضِعت خزائن – لكن يبدو وكأنّه لم يتغيّر الكثير. لا تزال النُضد القديمة، مع أرضيتها المصبَّعة المصنوعة من الحديد المسبوك ورفوفها الصناعية، كما هي، ولا تزال الرائحة المقدّسة للورق القديم والغبار تخترق ظلمتها. تشعر أحياناً وكأنّك مغمَّس في الكلمات المطبوعة، وكأنّك غوّاص تغطس في النصوص – وهناك طابع بحري فعلاً في ضيق المساحة والأنابيب والقنوات وعلب الصمّامات الكهربائية والتجهيزات والأضواء المهندَسة والدرابزون الفولاذي والأدراج الحديدية والروافد الخشبية المكشوفة الشبيهة بالحواجز التي تقسم السفينة إلى حُجيرات.
المساحات الجديدة أكثر سلاسة لكن لا يزال يُعبَّر عنها بتلك اللغة نصف الصناعية. أضيفت إلى الدور السفلي غرفة قراءة في منور قديم يعلوها آجرّ مصقول أبيض أصلي تكسوه حفر صغيرة، وخليط من النوافذ، بينما تغطّي ألواح مطليّة بالباتين ومصنوعة من النحاس المخرَّم، نضد المكتبة في الأسفل.
تحافظ غرفة فنون على مفردات النضد الحميمة في صالات العرض في مساحة بسيطة وأنيقة تحيط بها الكتب من كل جانب. عندما أنشئت المكتبة، كان هناك نقاش حول ما إذا كانت هناك حاجة أصلاً إلى غرفة قراءة، كونها في شكل أساسي مكتبة لإعارة الكتب. وفي نهاية المطاف، أضيف مزيد ومزيد من غرف القراءة والمساحات المخصّصة للقراءة – وعزّز انتشار الكمبيوترات المحمولة الرغبة في الحصول على مساحة خاصة للدراسة. يتّسع المبنى الجديد لـ150 مستخدِماً، أي حوالي ضعف الستة وسبعين مستخدماً الذين كان المبنى يتّسع لهم من قبل.
نظراً إلى توسّع مجموعة الكتب، اضطُرّت المكتبة إلى التطوّر فبلغت مرحلة حيث لم تعد للواجهة المتواضعة في الساحة أي علاقة حقيقية بالعمق والتعقيد اللذين يكمنان خلفها. وهي تشبه في هذا السياق متحف السير جون سون في ساحة لينكولنز إن فيلدز، هذا المبنى الآخر الذي تعطي واجهته الأنيقة فكرة خاطئة عن عالم الكتب والمعارف ذي الطابع الخاص خلفها.
إذا كانت تجربة دخول عالم سرّي تبعث على البهجة، فثمة متعة إضافية بانتظاركم. لقد اختار الفنّان مارتن كريد، الذي أصبح من المفضّلين بالنسبة إلى الصحافة الشعبية بسبب أعمال مثل “العدّائين” الذين يعبرون متحف تايت في بريطانيا، أن يطبع بصمته ليس في أي من المساحات الأساسية إنما في المراحيض. تحوِّل هذه الأعمال التي تستخدم تجهيزات كثيرة غير متطابقة والمكسوَّة بقطع رخام وبلاط مرقَّعة، الحلول الارتجالية الموقّتة إلى فضيلة – وهذه الحلول هي اللغة الحالية المستعمَلة في عدد كبير من المؤسّسات ذات الاستخدام المكثَّف لغياب لغة أفضل. إنها تضفي عنصر مفاجأة مبهِجاً، ويُفترَض بأنّها تعالج مشكلة استبدال الأجزاء في المستقبل.
يروي المهندس المعماري ستيف تومبكنز قصّة مسلّية عن التحكيم في المسابقة التي أجريت لتجديد المكتبة. راوده شعور بالغرق عندما سمع رئيس المكتبة، طوم ستوبارد – وهو ناقد شديد للهندسة المعمارية الحديثة – يتمتم عن مشروعهم “تافه”. أما غراهام هاوورث فسمع كلمات ستوبارد بطريقة مختلفة، وميَّز كلمة “انتصار”. لقد كان محقاً. إنه فعلاً انتصار.
www.londonlibrary.co.uk
“فايننشال تايمز”
ترجمة ن. ن.
(مهندس معماري وناقد في مجال التصاميم المعمارية في “فايننشال تايمز”)
النهار