سيمون فايل: كيف يمكننا تبرير ما وصلنا إليه؟
علي جازو
قراءة “مختارات” من كتابات سيمون فايل المتنوعة، الصادرة حديثاً عن دار معابر في دمشق، تدفعنا إلى الثقة بقدرة الإنسان الحر واللطيف، على ترك أعمق وأجمل ما لديه وإن كان ذلك في أسوأ الظروف وأقسى الأحوال.
ولدت سيمون فايل، الفيلسوفة والروحانية الكبيرة على ما يصفها الأستاذ أكرم انطاكي مقدم الكتاب بالعربية مقدمة مكثفة وشاملة، في باريس 3 شباط 1909 وتوفيت مبكراً في 24 آب 1943. “توتاليتاريات العصر”، الفصل الأول من الكتاب يتناول انطباعات فايل عن ألمانيا بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، كيف صعدت النازية واكتسحت السلطة هناك. رأت فايل عبر تحليل عميق إطباق الأزمة الاقتصادية 1929 على خناق الشبان خاصة مرغمة إياهم على التخبط المضني والمهين، الركض من دائرة إلى أخرى للحصول على إعانات ومساعدات الحد الادنى من المعيشة. حينها فقدت القيمة المهنية والكفاءة الفردية مكانتهما لصالح العمل الوحيد الممكن، وهو السياسة، التي آلت في نهاية المطاف إلى شمولية الحكم الهتلري. أما الذين تحملوا البؤس دون تذمر وفقدان وعي، فقد نجوا بأنفسهم من الانحطاط الذي يشكله ظرف العاطل عن العمل. فقد بقي معظم العمال الألمان خارج الحركة الهتلرية ولم تتمكن الدعاية القومية من التأثير عليهم. وفي ذلك الوضع الميؤوس منه، قاوموا جميع أشكال اليأس.
“الإلياذة الشهيرة”، أو كما تنعتها فايل بقصيدة القوة، هي محور الفصل الثاني من الكتاب. إنه الفصل الأجمل والأكثر تأثيراً في الوعي والضمير. الوعي والضمير اللذان ما كان لشخصية مثل فايل أن تفرق بينهما:
” القوة التي تقتل هي شكل مختصر وبدائي من القوة. وفي جميع الأحوال تحول القوة الإنسان إلى حجر. ومن سلطة تحويل الإنسان إلى شيء بجعله يموت تنبثق سلطة أخرى مدهشة أكثر مما ينبغي وهي سلطة صنع شيء من إنسان ما زال على قيد الحياة. إنه حي. فيه روح ومع ذلك فهو شيء. غريب أن يكون لشيء روح. حالة غريبة للروح. من يقول كم يلزمها في كل لحظة لكي تتكيف معه وتلتوي وتنطوي على نفسها؟ فهي لم تُخلَق لتسكن شيئاً، وعندما ترغم على ذلك لا يعود هناك شيء فيها إلا يعاني من العنف”.
“رهانات العلم – حول النظرية الكوانتية، عنوان الفصل الثالث، وهو تأمل حاذق وغريب في مفاهيم ونظريات رياضية حول الطاقة والعمل والوزن والحركة، مع مقارنتها بأحوال وأفكار البشر الذين يدهشهم العلم والتطور التقني، وتغلب اللغة العلمية ومصطلحاتها الخاصة عليه. رأت فايل أن العلم صامت والعلماء هم الذين يتكلمون. تقول في ذلك: ” .. إن العلم التقليدي عندما بلغ ذروته مدعياً قدرته على تفسير كل شيء، بدون استثناء، أصبح خانقاً فكرياً… إلا أن الأخطر هو ادعاء العلم بأنه قد حلّ التناقضات، أو بالأحرى ارتباطات التناقضات، التي تشكل جزءاً من الوضع البشري، والتي لا يتاح للإنسان التحرر منها.. ما يشكل مصيبة ليس التخلي عن العلم التقليدي إنما الطريقة التي تخلينا بها عنه.. لم يتوقف العلماء عند حدود معرفتهم، إذ لا يكتسب بالتوقف ترقية ولا شهرة ولا جائزة نوبل. ربما على العالم المتفوق موهبة أن يمتلك نوعاً من القداسة والبطولة لكي يتوقف بإرادته ويتأمل حدود ما يدعوه تطور العلم وتقدمه المستمر..”.
تشك فايل في إمكانية ان تمنح التقنية سعادة للبشر، ما داموا ، وما دمنا نحن، لا نعرف كيف نمنع بعضنا من السيطرة على بعض، لا على المادة التي هي موضوع العلم. وكيف يمكننا تبرير ما وصلنا إليه: الجهلة لا يستطيعون فهم شيء في العلم، والعلماء أنفسهم جاهلون خارج مجال اختصاصهم… “.
إن النظرية الكوانتية التي كان بلانك أول من كتب عنها، والتي لا تزال تشكل الشغل الشاغل للفيزيائيين، تتمحور حول مفهوم الطاقة، المفهوم الرئيسي للعلم. قام كل جهد العلم منذ غاليليه على رد جميع الظواهر إلى تغيرات في النسب المكانية والزمانية وعلى عدم قبول أي شيء غير المسافات والسرعات والتسارعات كمقادير متغيرة.. والطاقة مفهوم يرد كل شيء إلى المكان والزمن.. تقودنا الفائدة العملية إلى ترجيح واقعة على أخرى، فالإحتمال الذي يفصل على هذا النحو لا يصبح سوى اختصار للإحصاء، ومع ذلك لم نفسر قط كما فسرنا اليوم، ولم نضع فرضيات بهذا القدر قط ..”.
الفصل الرابع من مختارات سيمون فايل، رسالة إلى صديقها الشاعر الفرنسي جو بوسكيه. فيه ترفق مع الرسالة قصيدة بعنوان المحبة للشاعر جورج هربرت. المحبة كتفتح للصداقة التي بها سيمون فايل وتشدد عليها كمعروف لا مثيل له. تقول في الرسالة : ” يمكنك أن تتصور أي معروف عملته معي من خلال منحي صداقتك..”.
الفصل الخامس يتمحور حول الأسباب التي تجعل فايل بعيدة عن الكنيسة، عنوانه “رسالة إلى رجل دين”، تذكره فيه، عكس إله العهد القديم، إله الجنود، أن زيوس كبير الآلهة في اليونان القديمة، لم يأمر بأي عمل وحشي في الإلياذة. كان اليونانيون يعتقدون بأن ” زيوس المتوسِّل” يسكن في كل شقيّ يستجدي الرحمة. أما “يهوه” فهو رب الجنود، المحاربين. كذلك فإن كتاب الموتى الفرعوني ليس سوى كتاب للرفق والمحبة، في حين أن العبريين، الذين كانوا لأربعة قرون خلت على احتكاك مباشر بالحضارة المصرية، يرفضون أن يتبنوا روح الرفق هذه. لقد كانوا يريدون القوة. ترى فايل أن النصوص السابقة للنفي البابلي موصومة بهذا الخطأ الأساسي. قد يبعث ذلك حسب سيمون فايل أن اسرائيل ربما تعلمت الحقيقة الأكثر جوهرية عن الله (أي أنه رحيم قبل أن يكون قوياً) من منقولات أجنبية، كلدانية أو فارسية أو يونانية، وبفضل السبي. ويرى أكرم أنطاكي أن سيمون فايل كانت أقرب إلى الماركسية والإلحاد، لكن بروحانية خاصة لا تقبل تذويب الفرد في المجموع. وفي المقابل فإن فايل اعتنقت المسيحية من منظورها الجامع الكاثوليكي دون أن تنتسب يوماً إلى مؤسستها الكنسية، لأن فايل ( أصبحت متيقنة من أن المسيحية هي دين العبيد الذي ليس بوسع بعض هؤلاء العبيد اعتناقه، وأنا من هؤلاء). فصلان أخيران من الكتاب المترجم على يد الباحث والمترجم السوري محمد علي، مرفقة مع هوامش وافية، يتعلقان بخبرة فايل الصوفية ومكابدتها البلاء والشقاء الجسدي والمعنوي. البلاء لا كمحنة فقط بل كمنحة أيضاً. إنه البلاء الذي رأت فيه ذروة حياتها.
المستقبل