“أين الخطأ ؟” لبرنارد لويس: الأجوبـــة العصابيـــة
احمد زين الدين
يقف العديد من العرب والمسلمين موقفاً متوجساً من أفكار برنارد لويس وطروحاته. وتشوب سمعة هذا المستشرق الذائع الصيت التباسات وشُبهات مردها كما يقولون: تحامله على العرب وعلى الإسلام، لا سيما في ظل حكم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية. ومع ذلك فإن لهذا المستشرق اليهودي الديانة، الإنكليزي الأصل، الأميركي الجنسية، جاذبية يعترف بها خصومه قبل اصدقائه. ومصدر هذه الجاذبية أهليته الأكاديمية، وغزارة معلوماته وموسوعيته، وطول أناته، وقدرته على المساجلة، وعلى التأثير في صناعة الرأي العام. خصوصاً أنه من المتابعين الجديّين لكل ما يدور في أنحاء الشرق الأوسط. وعُرف عن لويس أنه سدّد خطى الدراسات الاستشراقية باتجاه الركون الى المصادر التاريخية الموثوقة، من دون سواها. وفي هذا المقام يحتفظ بأرشيف يضم عشرات آلاف الوثائق والمخطوطات والمذكرات والمحفوظات الحكومية التركية المعاصرة. ووفرت له هذه الأرشفة الضخمة إمكانية إعداد الكثير من الأبحاث والكتب المرجعية، عن الحقبة التاريخية والحضارية التي عاش في كنفها الأتراك العثمانيون. وفي ضوء منهجه النقدي العلمي، تطورت المفاهيم والمنهجيات الدراسية التاريخية في الجامعات الأميركية والبريطانية.
«أين الخطأ»: التأثير الغربي واستجابة المسلمين (الهيئة المصرية العامة للكتاب) ترجمة د. محمد عناني، وتقديم د.رؤوف عباس، هو ثمرة من ثمار عكوف برنارد لويس على هذه الثروة الوثائقية العثمانية التي سنحت له، ان يكتب هذا الكتاب وسواه بالتماس من المؤسسة الملكية البريطانية التابعة لوزارة الخارجية. ونقطة انطلاقه في «أين الخطأ» معاهدة «كارولوفيتس» التي ابرمتها الدولتان العثمانية والنمساوية، مرتكزاً على ما توفر لديه من دار المحفوظات العثمانية.
وبرنارد لويس في كل ما يكتب، ينأى عن الكتابة التاريخية الحولية (الكرونولوجية) ليتنكّب مسار الثقافة والفكر غير المنفصل عن الأحداث والوقائع والظروف الزمانية والمكانية المحيطة به. بل إن كتابه الأول «العرب في التاريخ» 1950. لم يكن كتاباً في تاريخ العرب، بقدر ما كان ترجمةً لموقف العرب الفكري في تاريخ الإنسانية، وسعياً لمعرفة هويتهم الحضارية، وإنجازاتهم في مختلف الحقول والعصور. وعلى هذا الصعيد تُجمع بعض المصادر على ان برنارد لويس هو اول من استخدم مصطلح «صراع الحضارات» في محاضرة نظمتها عام 1957، جامعة جونزهوبكنز في واشنطن حول ازمة الشرق الأوسط. وقد اقتبسه صموئيل هونتنغتون في مقالته الشهيرة عام 1993، في «»foreign affairs. فما يسعى إليه لويس هو بناء مقاربة لفهم أسلوب تفكير الإنسان في العالم الإسلامي، والإحاطة بالمصادر التاريخية التي تغذي اليوم الحركات الأصولية والسلفية.
جدلية التقدم والتخلف
يقوم كتاب «أين الخطأ» على الجدلية بين التقدّم والتأخر، بين الثقافة الأصيلة والثقافة المستعارة. أما الثقافة المتقدمة فهي الثقافة الغربية العلمانية الحديثة. بينما المنكفئة، هي الثقافة الإسلامية المنقبضة على ذاتها، والمحتفظة بمخزونها الموروث. والنقطة التي يثيرها لويس في الكتاب هي نقطة التماس والاحتكاك. المكان المشترك بين الداخل والخارج. بين الحقل الإسلامي والحقل العالمي، على ما يذهب إليه، طيب تيزيني في بعض أقواله. ونتيجة هذا التجاذب الحتمي والمفترض بين الحقلين الحضاريين بحكم التطورالتاريخي الذي قضى أن يتجدد الغرب ويتمدد، ويتقلص الشرق، كان لا بدّ لهذا الأخير أن يتحصّن داخل خطوطه الدفاعية، متشبثاً بتصوراته ومقولاته وأفكاره وذاكرته، في حين ان سنن التاريخ والاجتماع تفرض عليه تحديث المعايير، وتطوير الوسائل والأساليب المادية، والأبنية المنطقية والذهنية. ولا تدفع المكابرة ولا الإنكار ولا الحذر غائلة القدر. وإذا كان برنارد لويس اختار لحظة انحسار النفوذ الإسلامي الذي مثلته الإمبراطورية العثمانية لعدة قرون، بإبرام معاهدة «كارولوفيتس» التي أقرّ فيها العثمانيون بهزيمتهم امام جيش النمسا، فإن المسلمين داخل الإمبراطورية وخارجها لم يذعنوا للهزيمة هذه، ولا للهزائم والإخفاقات المتكررة التي مُنيوا بها فيما بعد. ومردّ هذا الإصرار وعدم الإنكسار أمام رياح الغرب، وما حملته من بذور الحداثة، يعود إلى صعوبة إنسلاخهم عن جذورهم، وثقافتهم الدينية التي يمثّل نواتها الصلبة الإسلام، بوصفه الوجه الأكثر دلالة على هوية هذه الشعوب. فالمسلمون يرفضون أن يتخذوا الغرب المسيحي أو اوروبا العلمانية مثالاً ونموذجاً في العيش والفكر. ويؤثرون، لا سيّما الأصوليين منهم، العيش في كنف التقاليد والأعراف والسنن الإسلامية التي لم تتبدّل تبديلاً. وبقدر ما يشعر هؤلاء بجروحهم الحضارية، ويتحسسون الهوان والضعف، فإن ردود أفعالهم ضد الغرب تتفاقم عنفاً وشراسة، وتمثل العمليات الإرهابية بعضاً من هذه التجليات السافرة.
العناية التي يوليها برنارد لويس لهذه النواة الدينية عند المسلمين، يعدّها حجرعثرة، لا في وجه التمثل اوالتطور الحداثي الذي لا يمكن دفعه، لأنه أمر حتمي في رأيه، بل في إعاقة سرعته واندفاعه وتدفقه. هذه العناية هي التي تميّز نظرة برنارد لويس عن سواه من الباحثين والمستشرقين، خاصة أولئك المتأثرين بالفكر الماركسي، والذين ألحقوا الظاهرة الدينية بركاب العوامل والأوضاع السياسية والاقتصادية العميقة. في حين ان لويس أدرك ان للولاء الديني بوصفه نظام حياة ووجود، مكانة لا تُضاهى في حضارة يلعب فيها الدين دوراً مركزياً. بل إن العديد من البرامج السياسية والاقتصادية الحالية مصوغة بلغة دينية. وغالباً ما يلتمس الزعماء المسلمون والعرب في خطبهم الجماهيرية الرموز الدينية لتحريك وجدان الناس. وفي كتابه «عودة الإسلام» يذكر لويس أنه كلما تحولت الحركات القومية في العالم العربي الى حركات شعبية، كلما غدت أقل قومية وأكثر دينية. أي أقل عروبة وأكثر إسلامية. لذلك فإن احتلال الحركات الإسلامية المعاصرة مسرح الأحداث ليست أمراً مفاجئاً، ما دامت النزعة الإسلامية متأصلة في التربية والسلوك، وما دامت عملية التحديث مرتبكة. ولويس منسجم مع نفسه، كما يقول زكاري لوكمان في كتابه «تاريخ الاستشراق وسياسته» ومنسجم مع أفكاره التأسيسية الأولى منذ عام 1953. عندما حسب في مقال عن الشيوعية والإسلام، أن المسار التاريخي لحضارة المسلمين تقوم على خواص جوهرانية ثقافية، لا تتبدّل إلا في الشكل، وتعاود الظهور أثناء الأزمات. ولويس في هذا، يضع امام قارئه نقيضين إزاء بعضهما البعض: الذهنية الإسلامية الدينية الشرقية اللاعقلانية، والذهنية الغربية العلمانية العقلانية. وهكذا يغدو العالم الإسلامي مقارنةً بأوروبا الحديثة فقيراً وضعيفاً وجاهلاً. وهذا التفاوت الموجع بين الشرق والغرب يزيد المسلم ألماً وتبريحاً، عندما يقارن ما كان عليه من تقدم ورقيّ وإزدهار، في غابر الأيام، وما آلت حالته اليوم من تراجع واستتباع وتقهقر.
أسئلة وأجوبة
«من فعل ذلك بنا»؟ «بماذا أخطأنا»؟ «كيف نصحح الخطأ»؟ هي اسئلة تلحّ على عقول المسلمين المعاصرين، وعليها يتأرجح جواب أصولي، يختصر الأمر بتشجيع العودة إلى ينابيع الموروث الديني، وجواب علماني ديموقراطي يدعو إلى هجرهذا التراث، وسلوك سبيل الغرب. ويرى لويس أن هذه الأسئلة لم تفض في كل الأحوال إلا إلى خيالات وأوهام عُصابية، ونظريات تآمرية، تُلقي التبعة حيناً، على الاستعمارالأجنبي من المغول والصليبيين والأتراك، وحيناً آخر، على الإمبرياليين والأميركيين واليهود الإسرائيليين، بينما يتخبّط العالم العربي والإسلامي في مآزقه وأزماته المتعددة الوجوه. ولا يضع برنارد لويس بالطبع الحلول الناجعة، إنما يشير الى ان المتاعب التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم، ترجع إلى ازدياد القمع الفكري والعقلي. ويرى إلى ضرورة تحرير الاقتصاد من الفساد وسوء الإدارة، وعدم اقتصار مداخيل الدول وموازناتها على أموال النفط والغاز، ويحث على تحرير المرأة من ظلم الرجل، والمواطنين من استبداد الحكام وطغيانهم.
المسألة ان حركة الحداثة حركة مهيمنة، وهي ثمرة الطلاق بين الدين والدنيا. ولا يمكن مواجهتها في الشرق الأوسط الإسلامي إلا بأدوات من سنخها. وعلة التراجع في رأي لويس، ليس العقيدة الدينية بحد ذاتها، ولا يضع وزر هذا التخلّف على الدين الإسلامي بالمطلق، وهو الدين الذي يُقر بعظمته التاريخية، بخلاف ما يُشاع عنه، إذ يصفه بأنه دين المساواة والتسامح، ومقارنة بالمسيحية، فقد خلا من محاكم التفتيش، وإدانة المهرطقين. بل يتأسف على خسوف الحضارة التي صاغها هذا الدين. الحضارة الإسلامية التي «كانت يوماً ما اعظم الحضارات التي شهدها تاريخ البشرية، وأكثرها تقدماً، وأشدها انفتاحاً (ص 249)، إنما تكمن العلة في المقاربة الدينية، والبنية الفقهية المتخلفة في فضاء إسلامي اقتحمته مفردات الحداثة وأدواتها المادية والذهنية، وأفضت إلى تشكيل ظواهر جديدة وتحولات حضارية أبدلت الأقيسة الزمانية والمكانية التقليدية، بأخرى أكثر جدة وتطوراً وقابلية، لاستيعاب هذا العالم الماثل في حياتنا وفي نفوسنا. بل ما يُستوحى من كلامه، انه ضد استخدام الدين لتبرير التعسف السياسي، وكبت الحريات الفردية، وضد استفحال نفوذ المؤسسة الدينية في المجتمع والدولة، ولا يستثني اسرائيل اليهودية. وفي هذا المقام يعقد مقارنة موجزة بين الدين في السعودية وإسرائيل، لإبراز الدور الديني في تعريف الهوية وتحديد الولاء، ليجد أن إسرائيل العلمانية ظاهراً، تتيح دوراً سياسياً لرجال الدين، يفوق بأضعاف الدور المقابل لهم في السعودية.
أما المنافحة المستفيضة لمقدّم الكتاب رؤوف عباس عن إسلام ماضوي، لم يقدح به برنارد لويس البتة، بل يغلو أحياناً في إطرائه، إنما أوقعته في مغالطات لم تلحظ الفرق بين الدين الإسلامي كموضوع بحث تاريخي، وموضوع قانوني، والدين كموضوع تطبيق وممارسة. وأكثر حلقاته ضعفاً هي مقارنته بين وضعية المرأة المسلمة والمرأة الغربية. وتحليله عامة أقرب إلى اللغو الشعبوي المتداول، منه الى التحليل العلمي الاجتماعي. ويبقى أن كتاب «أين الخطأ» يستعيد السؤال، بل الأسئلة حول التقدم والتأخر، التي دارت في عقول النهضويين ردحاً طويلاً من دون مجيب، فهل أجاب عنها برنارد لويس؟.
عن ملحق السفير الثقافي