علي فرزات في حوار سياسي ساخن مع نيوزويك العربية: المستبدون العرب جعلوني مبدعا!
حسن عبدالله 21/ 07/ 2010
ريشته رصاص. ترسم دكتاتورا ـ أي دكتاتور ــ فيتحسس المستبدون العرب مسدساتهم. ترسم جنرالا منتفخا منفوشا كالطاووس فيهدده صدام حسين، ويصادر العقيد الليبي معمر القذافي المجلة التي تحمل الكاريكاتير، ويمنعه رئيس الوزراء السوري (الأسبق) من الرسم في الصحف السورية، وتقيم عليه وزارة الدفاع في سورية دعوى قضائية.
ترسم إنسانا تعيسا ممزق الملابس، نحيلا، أشعث الشعر، مقهورا، فيتنهد المواطن العربي ويشير إلنفسه: هوذا أنا.
استخفه «ربيع دمشق» (مجموعة من المعارضين السوريين طالبوا بإصلاحات سياسية وديموقراطية)، فأصدر عام 2001 أول جريدة أسبوعية سياسية مستقلة ساخرة، سمّاها «الدومري» (نسبة إلى شخصية سورية فولكلورية كانت تقوم بإشعال مصابيح الشوارع الغازية قبل ظهور الكهرباء) أقضّت مضاجع النظام السوري، وفضحت الفساد في حزب البعث ومؤسسات سورية أخرى، وطالبت بإصلاحات سياسية واقتصادية عاجلة. حاولوا ترويضه بالجزرة فلم تفلح، فأخرجوا له العصا وسحبوا ترخيص الجريدة التي صدرت بدعم ومباركة من الرئيس السوري، وأوقفوها عن الصدور، ومنذ عام 2003 وهو يدور في ساحات القضاء كي يعيد الحياة إلى «الدومري».
شخصياته التي يرسمها صامتة ومن دون تعليق في كاريكاتيره اليومي في جريدة «الوطن»، ستتحرك في أفلام كرتونية ضمن مشروع تنفذه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في خمس دول عربية. وفي أمسية فنية التقت نيوزويك العربية و«الوطن» رسام الكاريكاتير علي فرزات في حوار بالعاصمة السورية دمشق.
سألته: هل هناك أمل في عودة «الدومري» بحكم قضائي؟
– علي فرزات: أسعى إلى إعادتها للصدور مجددا، لكن القضاء الأعلى رد الدعوى ورفضها، وسأعيد رفعها مرة أخرى. كان حزب البعث السوري يمنع إصدار الصحف الخاصة منذ عام 1963، وعندما أصبح بشار الأسد رئيسا لسورية، أصدرت «الدومري» طبقا لقانون تراخيص الصحف الخاصة الذي صدر عام 2001.
كانت الصحيفة تتناول كل الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية بنبرة ساخرة. تحملوها عامين ونصف العام على مضض، وراحوا يحاربونني على شتى الأصعدة، إعلاميا وشعبيا واقتصاديا. خصصوا برامج في التلفزيون الرسمي لمهاجمتي، ثم انتهت بشكل مأساوي، فقد جمعوا العدد الأخير من «الدومري» من الأسواق بعد أن صادروه، وأغلقوا الصحيفة، وسحبوا الترخيص.
صداقة ولكن
الرئيس السوري بشار الأسد كان يزورك في بيتك قبل أن يصبح رئيسا، وهو الذي سمح لرسوماتك الممنوعة بالنشر عام 1999، فلماذا هذا الانقلاب؟
– تعرفت إلى الرئيس بشار الأسد قبل أن يتولى الرئاسة. كان يحضر معارضي ونشأت بيننا صداقة من خلال المعارض الفنية. لكن يبدو أن هناك من اعتبر أن «الدومري» تجاوزت الخطوط الحمراء فيما يخص كشف الفساد، وسمعة بعض المؤسسات والأشخاص. كنا نتطرق إلى قضايا رئيسية فيما يخص الإصلاح ومعوقاته، وأرسلنا رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية نطالبه بالسير في طريق الإصلاحات، فاعتبروا أن ذلك خروج عن السيطرة. لقد اعتادوا في العمل الصحافي في الصحف السورية الرسمية الثلاث «البعث» و«تشرين» و«الثورة»، أن يحمل مسؤول الجريدة خيزرانة ويضرب من يتجاوز حدوده من الصحافيين على يده، أو يعلقه في «الفلقة»، فأرادوا بهذا أن يعيدوني إلى الحظيرة الرسمية، إما بالإغراء بشتى الوسائل، وإما بالترهيب، وأخيرا أغلقوا الصحيفة.
الناس في سورية يتذكرون أن «الدومري» فضلت الصدق حتى ولو تم إغلاقها، على أن تظل تعمل وتكذب على الناس. أقمت دعوى قضائية على رئيس الحكومة ووزير الإعلام في مجلس القضاء الأعلى، لتسجيل موقف. العدد الأخير من «الدومري»، نتيجة للضغوط التي مورست عليّ، ولأنني هرّبته من الرقابة التي فرضت عليّ من خلال إجباري على توزيع الجريدة عبر مؤسسة حكومية، كان حاشدا بالدعوات الإصلاحية والسخرية وتقارير كشف الفساد في حزب البعث، والتأكيد للرئيس على أن الإصلاح لا يمكن أن يتم على أيدي مجموعة من الفاسدين، وحرية الإعلام والاعتقالات الإلكترونية وإغلاق المواقع، والقوانين العرفية، ومشكلة انهيار سد زيزون. كان عددا انتحاريا. كنت أعلم أنهم لابد أن يغلقوا الجريدة، لأنهم لم يعتادوا على مثل هذا الكم من النقد، وبشكل محدد بالأسماء والهيئات. هناك بعثيون يعتبرون أن سورية «دكان» لهم، ويتصرفون على أساس أنهم مواطنون من الدرجة الأولى. سورية أصبحت «دكانا» لمجموعة من المحتكرين.
شيخوخة سياسية
ما مدى قوة حزب البعث في سورية الآن؟
– حزب البعث مثل رجل كبير جدا في السن، شاخ وتجاوزه الزمان. تصور أن كل الشعارات والمنطلقات التي رفعها حزب البعث لم يتحقق منها شيء على الإطلاق. يجب أن تكون هناك وقفة مع الذات، ويعلموا أن هناك أحزابا وطنية أخرى يحق لها أن تتداول السلطة. لست حزبيا ولا أنتمي إلى الأحزاب، ولكن يجب أن تشارك كل الأحزاب في صناعة واتخاذ القرار.
مظاهرات معلبة
هناك مظاهرات شعبية خرجت تهتف ضدك في سورية بسبب موقفك الذي بدا مؤيدا للغزو الامريكي للعراق؟
– المظاهرة أعدها حزب البعث ضدي، ولم تكن شعبية. قلت قبل الغزو الامريكي للعراق عام 2003، إن الاحتلال الحقيقي يأتي من زعمائنا الدكتاتوريين ومن الظلم الواقع بالوطن العربي في الداخل، وليس من الخارج. أفقدنا هؤلاء المستبدون المناعة ضد الاحتلال الخارجي، وبالتالي قلت لهم: أصلحوا أنظمتكم واسمحوا بتداول سلمي للسلطة سيدافع الناس عنكم وعن بلادهم.
صدام حسين أرسل من يخرّب معرضي في معهد العالم العربي في باريس عام 1989، لأنني رسمت عدة كاريكاتيرات تنتقد دكتاتوريته، وكانوا هنا في سورية مسرورين من هذه الانتقادات لأنهم كانوا على خلاف مع العراق. عام 2003 عندما نشرت رسومات كاريكاتيرية في الصحف السورية وفي جريدة «الوطن» تنتقد صدام حسين، أخرجوا مظاهرات ضدي، ونشروا في صحفهم الرسمية أن علي فرزات باع نفسه بالدولار والدينار، ويرسم ضد الشعب العراقي ــ ولم يقولوا ضد صدام ــ كي يثيروا المشاعر الوطنية ضدي. كانوا يهتفون: «يسقط علي فرزات ويسقط بوش»، إمعانا في السخرية. قلت لهم: «أنا متمكن من موقفي ولا أخاف على نفسي، لكنني أخاف على بوش!!».
هناك تهم جاهزة معلبة كطبيعة كل الأنظمة الاستبدادية، ولولا ثقة الناس بي لخرجت الأمور عن السيطرة.
ممنوع من الرسم
ماذا عن علاقتك الآن بالنظام في سورية؟
– أنا ممنوع من الرسم في الصحافة المحلية، علما بأنني كنت أتبرع براتبي الذي أحصل عليه من جريدة «تشرين» إلى الموهوبين من الرسامين الشباب، كنت أعمل فقط للتواصل مع الناس في سورية، لكن وزير الإعلام السوري السابق عدنان عمران كان دكتاتورا إعلاميا، كان لا يفعل أي شيء إلا قبل تمريره عبر الاستخبارات. أغلب الوزراء كذلك. ومعظمهم معينون من قبل جهات مختلفة، بعض رجال الأعمال يشاركون في تعيين وتسمية وزراء بعينهم الآن في سورية. عدنان عمران أصدر قرارا بمنعي من العمل في الصحف المحلية، لأنني أمتلك صحيفة.
أوقفوا «الدومري» لكن قرار المنع من العمل ظل ساريا. والحقيقة أنني لم أهتم، لأن العمل في الصحف المحلية يمر عبر «فلاتر» ورقابة صارمة. رغم ذلك أرسلت إلى مدير عام إحدى الصحف مجموعة رسومات، وطلبت منه أن ينشرها دون أي مقابل مادي، فرد الرجل بأنه «مش ناقص» مشاكل، فقلت له: «لن أرسم أقل من هذا أو حسب طلباتكم أنتم».
أرسم الممارسات
هل أنت مهدّد بالاعتقال في أي لحظة؟
– تم استجوابي من قبل الأمن السياسي، وأقيمت عليّ دعوة قضائية من قبل وزير الدفاع السوري بسبب إحدى رسوماتي. والطريف أنه كان الكاريكاتير نفسه الذي تسبب في أزمة مع صدام حسين عام 1989، والمشكلة نفسها وقعت فيها مع الرئيس الليبي معمر القذافي عندما رسمت كاريكاتيرا في مجلة «الأهرام العربي» المصرية، واخبرني رئيس تحريرها آنذاك أن القذافي منع المجلة من دخول ليبيا بسبب رسوماتي. أرسم من دون تعليق ما يمس الثوابت والقضايا الإنسانية، عندما أرسم الدكتاتور فإن 100 دكتاتور يتصورون أنني أنتقدهم وأسخر منهم. كذلك فإن الفاسدين يتحسسون رؤوسهم عندما أرسم كاريكاتيرا عن الفساد. الكثير من المؤسسات الحكومية السورية كانت تشتكي من رسوماتي، مع أنني أرسم «الممارسات» ولا أذكر اسما أو صفة. يوميا كان يتصل بي عدة مسؤولين في الدولة ليعاتبوني على استهدافهم، مع أنني لم أكن أقصدهم بأشخاصهم.
رسمت مسؤولا يخطب في مؤتمر للفقراء عن الرخاء، وبيده خطاب طويل مرسوم عليه لحوم وفاكهة وبطاطا، فيما يلتهم المواطن ورقة الخطاب. فوجئت برئيس الوزراء السوري الأسبق مصطفى ميرو يتصل بي ليعنّفني ويتهمني بالعمل ضده، لأنه كان يخطب في مؤتمر في اليوم السابق، وأصدر قرارا بمنعي من العمل. كذلك فعل معي رئيس الوزراء الأسبق الزعبي. قالوا لي نحن نصرح في الصفحة الأولى من الجريدة بشيء وأنت تكذبنا في الصفحة الأخيرة.
سياسة عامة
هل هذه الحساسية ضد النقد خاصة بك أم أنها سياسة سورية عامة؟
– بالطبع سياسة عامة. فهذه الحساسية تجاه النقد وهذا الرفض ليسا خاصين بي، وإنما يطولان الكثير من المجالات: الأدب، العلوم، الطب، الفن. هناك من آثر الهجرة وترك البلد. هم يريدون كوادر على مقاساتهم مثل أعضاء مجلس الشعب السوري، الذين يتم تفصيلهم حسب ما يريد النظام. لا يهمهم إن كنت شخصية عالمية أو حاصلا على جوائز دولية، المهم ما تقدمه من تنازلات للنظام. أنا مع الناس ولا أقدم تنازلات، لذلك منعوني من الرسم.
معارضة أخلاقية
أنت كمعارض سياسي..
– (مقاطعا) هذا تقليل من أهميتي كفنان.. الفنان والمبدع أكبر من السياسي. لست زعيما سياسيا، لكنني أتولى المعارضة الأخلاقية الوطنية التي تمثل مجموع ضمائر الناس. لقد كتبوا صحيفة اتهام ضدي في صحفهم الرسمية، وهذا معناه إهدار دمي. كان من الممكن أن يقتلوني في المظاهرة التي صنعوها، ثم يرسلوا الورود لأسرتي للتعازي! هم يعرفون موقع الفنان، لذلك يردون بقسوة عندما تخالفهم الرأي، أو ترفض ممارساتهم. أكره القوالب، وعلى الفنان أن يتمرد على كل هذه المسألة. لا أمثل حزبا سياسيا لكنني أعبر عن ضمير الشعب.
تداول سلمي
كيف ترى مستقبل النظام في سورية؟
– إذا لم يتداركوا الأمر ويفتحوا النظام كي تشارك بقية الأحزاب الوطنية مشاركة حقيقية وفعالة، فإنني أرى الطوفان قادم. النظام يحتاج إلى إصلاحات وتغيير كامل. لابد من انتخابات حرة، وإنشاء أحزاب وطنية، وتداول سلمي للسلطة. مجلس الشعب الحالي لا يوجد به شخص واحد يمثل التيارات الشعبية الحقيقية. كلهم رشحهم حزب البعث، وحصلوا على عضوية المجلس بملايينهم. نحن ــ السوريين ــ بلغنا سن الرشد ومازال حزب البعث يطعمنا ويسقينا ويكسونا كيفما يريد هو، كأننا أطفال.
المجتمع المدني
هل هناك تواصل بينكم كمعارضة وطنية وبين منظمات المجتمع المدني خارج سورية؟
– لدينا في سورية ظاهرة تلفت أنظار الجميع، وهي الفساد الذي أصبح منظما، ومكافحة هذا الفساد صارت عفوية ومنظمة من دون تنظيم. الناس في سورية ترفض التعامل مع المنظمات الحقوقية الرسمية، والدولية، لأنها تخضع لصفقات ومزايدات.
حزب البعث غيّب كل منظمات المجتمع المدني في سورية، وتحول «ربيع دمشق» الذي كان أملا، إلى فخ اصطاد به النظام معارضيه وتخلص منهم.
من دون تعليق
الرسم من دون تعليق يستلزم ثقافة بصرية عالية: فلماذا تصر على هذا الأسلوب؟
– أرجو ألا نستخف بالقارئ العربي ونعامله وكأنه من دون أفق. بعض القراء البسطاء جدا في سورية يعلقون رسوماتي في منازلهم أو أماكن عملهم.. اختلفت مع رسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي فنيا فقال لي: «ارسم حوالي خمس رسومات يوميا ويستحيل عليّ أن أرسمها من دون تعليق. هذه عملية صعبة جدا وتعذيبية» أنا أرسم من دون تعليق كي أترك لقارئ الجريدة مساحة يستمتع فيها، ذهنيا، بكونه يشاركني العمل، يستنتج، ويشعر أنه قطف الفكرة التي زرعتها له في الكاريكاتير. القارئ قد ينسى الكلمات لكنه لا ينسى صورة استوقفته وانطبعت في ذاكرته البصرية.
معاملة محترمة
رغم شهرتك فإنك غير منتشر عربيا، لماذا؟
– الحقيقة أن الإخوة في الكويت تعاملوا معي باحترام ومودة شديدين. لم يمنعوا لي في جريدة «الوطن» كاريكاتيرا واحدا، مع أن أحد أعضاء مجلس الأمة الكويتي أقام دعوى قضائية ضدي بسبب رسوماتي.
عندما كنت أرسم في الصحافة السورية، كان رجال من الاستخبارات يحضرون إلى مدير عام الجريدة ويقولون له: نريد أن نستجوب الرسام المسؤول عن الكاريكاتير الذي رسمه وماذا يقصد به؟ فيقول لهم: نعم خذوه، لا مانع أبدا!
هنا يظهر الفرق بين من يحترمك وبين من يتركك للأجهزة كي تفتش في قلبك. ومع ذلك فأنا أنتقد بأصول وموضوعية ومن دون شطط، ولكن بشكل لاذع ومر.
رموز خاصة
رسوماتك عامة، وفي المطلق، كلها رموز؟
– هناك أنظمة مستبدة، قمعية ودموية، وشعوب عربية مقهورة ومظلومة. هذه قضيتي التي أعمل عليها. لم أترك نظاما قمعيا إلا وأطلقت عليه كاريكاتيرا. لا أهتم بالأشخاص لأنهم زائلون. أرصد الممارسات وأرسمها فتصيب الأنظمة وتبقى «الكاريكاتيرات» حية وخالدة.
مواجهة الرقابة
أعتقد أنك بهذا الأسلوب تهرب من مواجهة الرقابة والأجهزة الأمنية؟
– كان هذا في البداية هروبا. النظام في سورية شرس جدا، وأجهزته الأمنية قمعية. لكنني «أخصص» عندما تكون هناك ضرورة لذلك. رسمت مثلا كاريكاتيرا، وكتبت فيه بشكل واضح اسم حزب البعث السوري، وكذلك فعلت مع مجلس الشعب والانتخابات.
أكتب تعليقا عندما يكون الحدث استثنائيا، ويحتاج إلى تحديد وتشخيص. الرمز هنا يصبح ضارا. لكن في بعض الأمور، الرمز قد يكون أبلغ. مثلا: رسمت كاريكاتيرا عن ظاهرة التعذيب في البلاد العربية، عبارة عن شخص يعذب سجينا في زنزانة ويمزقه بالسياط والمنشار، وفي الوقت نفسه يشاهد هذا السجان مسلسلا تلفزيونيا عاطفيا، ويبكي تأثرا وبغزارة. أعتقد أن الرمز هنا أبلغ كثيرا من تسمية أو تحديد نظام بعينه، وسيصيب الكاريكاتير هؤلاء القمعيين في الصميم.
رسم الرئيس
هل رسمت أي كاريكاتير للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أو نجله بشار؟
– في سورية ممنوع رسم الرئيس، لا بالنقد ولا بالمدح. هذا عُرف أقوى من القانون. ومع ذلك لا أحمل شرطيا في رأسي. عندي رسومات لكل الشخصيات السورية، لكن لا أحد ينشرها. في إحدى المرات عندما شاهد الرئيس بشار قبل ان يصبح رئيسا رسوماتي له ضحك، وكان يداعب مرافقيه من المسؤولين الذين أعرض رسوماتي لهم، واتصل بوزير الإعلام وسمح بنشر هذه الرسوم. الأمور تغيرت الآن، ولم يعد مسموحا برسم الرئيس بأي صورة من الصور. لا يجرؤ أي رئيس تحرير أو رسام على ارتكاب مثل هذا الأمر. ممنوع تماما ويكاد يكون مستحيلا.
من هنا لجأت إلى الشفرة والرموز؟
– في البداية كانت هناك حاجة ملحة كذلك وليست فانتازيا. فالممنوعات كثيرة جدا، بداية من الرئيس وحتى الحزب والمسؤولين، ورسومات من هذا النوع تجلب على صاحبها الكثير من المشاكل، ليس هناك قانون يحدد علاقتك بالمسؤولين وبالدولة، ويستطيع أي شخص أن يتهمك بالتشهير.
وخروجا من هذا المأزق، وكي أصل إلى الناس من خلال شفرة «مرمزة»، بدأت أختار شخصيات لها دلالات. فالشخص الذي يظهر في الكاريكاتير ملابسه ممزقة، ونحيل من الجوع، ولحيته طويلة، هو المواطن العربي التعيس. ترسخ هذا في أذهان الناس.
أما المسؤول العربي فهو من يظهر بنظارة شمسية وخواتم ذهبية وملابس فخمة وسيجار وضخم الجثة، أما رجل الاستخبارات فهو من يتدلى من ملابسه مسدس وينظر في كل مكان. هذه هي «المعادلة» التي توصلت إليها بالتحايل على الرقابة لتوصيل أفكاري. وأنا والقارئ نفهم بعضنا جيدا، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن أقع فريسة لأي جهاز أمني عربي.
الحوار بيني وبين القارئ بالشفرة، أبث إليه رموزا على هيئة شخصيات وممارسات، والقارئ يفك هذه الرموز ويفهم ما أقصده جيدا.
صارت هناك قناعة بأن الكاريكاتير لابد أن يكون هكذا: من دون تعليق.
بعض زملائنا الرسامين في العالم العربي حولوا الكاريكاتير إلى نكتة، والرسم شيء إضافي. ألجأ أحيانا إلى النكتة لكنها مرتبطة بصلب الكاريكاتير الذي أعتبره رواية سينمائية.
كاريكارتون
هناك مشروع لتحويل شخصياتك التي ترسمها في جريدة «الوطن» الكويتية، إلى أفلام كرتونية متحركة، فما الحكاية؟
– المشروع تشرف عليه «بي. بي. سي» وتشارك فيه خمس دول عربية، ومن خلاله يتم تحويل الشخصيات الكاريكاتيرية إلى أفلام متحركة، لخدمة أهداف إنسانية واجتماعية وستذاع على الفضائيات العربية. والحقيقة أن هذه «نقلة» فنية جيدة، لأنها ستجعلني أرى شخصياتي تتحرك وتصرخ بما تريد، كما أن التلفزيون الآن يستحوذ على جمهور الصحافة بشكل كبير.
أقوى من المعارضة
هل تعتقد أن الكاريكاتير السياسي العربي أقوى من أحزاب المعارضة العربية؟
– بالطبع. الكاريكاتير له صدى وحميمية عند الناس أكثر من أحزاب المعارضة، فهو يخلق جسورا من المحبة بينك وبين الشارع، وبالتالي تكتسب حصانة تشجعك على القفز إلى مساحة أوسع من الشجاعة. لا تصدق أن هناك إنسانا لا يخاف. نحن نحتاج إلى الناس كي يساندونا ونتكئ عليهم. يتحدثون هنا في سورية كيف اخترقت الصحافة الرسمية بالرموز، وبنيت علاقة ومصداقية مع الناس جعلتهم يثقون فيّ، رغم أنني أعمل في وسائل إعلامية رسمية لا مصداقية لها. ثم جاء النظام فأغلق الجريدة وشتموني في جرائدهم الرسمية، فأضاف مصداقية إضافية لكاريكاتيري. هذه كخلطة العطار التي يصنعها بناء على مقادير محددة: الصدق، الزمن، الحس الوطني.
فرزات آخر
تعترف أن الظروف السياسية الحالية هي التي ألجأتك إلى هذا الأسلوب في الكاريكاتير: ماذا لو استيقظت يوما ووجدت نفسك تعمل في مناخ شبه تام من الحرية: فهل سنرى «فرزات» آخر؟
– لجأت في البداية إلى هذا التحايل نتيجة القمع الإعلامي، لكنني اكتشفت من دون قصد أنه لو أتيحت لي الحرية الكاملة بتناول كل الظواهر والأشخاص، أو لو استيقظت يوما ووجدت نفسي في باريس عاصمة النور والحرية، فلن أغير هذا الأسلوب، لما له من قيمة إنسانية وفكرية عالية. حصدت الكثير من الجوائز والتكريمات لأنني توصلت إلى الرسم باللغة التي يفهمها البشر في كل مكان. بدأت العمل بالتحايل على الرقابة، ثم وجدت نفسي تماما في هذه «الشفرة المرمزة». والآن يقلدني الكثيرون. رسام جريدة «لوموند» الفرنسية قال لي: «كنت أتمنى أن أعيش في سورية وأتعرض لمثل هذه الضغوط كي أرسم كما ترسم أنت».
أصبح أسلوبي في الكاريكاتير «بصمة» خاصة بي.
ما هو الكاريكاتير الذي تعتبره أهم عمل في حياتك؟
– لوحة «الجنرال» التي منذ أن عرضت في باريس، وكل دكتاتور عربي يتصورها هو، علما بأنني لم أكن أقصد شخصا بعينه، وإنما ممارساتهم القمعية التي وضعتهم جميعا في مرمى قلمي. لقد قمت بتسريح «الشرطي» الذي كان يتحكم برأسي.
من هو الفنان الذي تعتبره خليفتك؟
– اخي موفق فرزات فهو فنان جميل، وطيب القلب والاهم انه شاعر كبير.
هل يمكن للسيد فرزت أن يشرح لنا ما هي مؤهلات ابنه لكي يحصل على منحة مفتوحة للدارسة في ايطاليا على حساب الدولة وأن يظل في الجامعة ست سنوات دون أي نتيجة على حساب المواطنين؟