الشبه بين النظام الستاليني و السوري : دروس الماضي و المستقبل
مازن كم الماز
لا شك أن الشبه بين النظامين الستاليني و السوري ( و إلى حد ما العراقي : نظام صدام – البكر أيضا ) يعود إلى أن كلا من النظامين ( أو الأنظمة الثلاثة ) قامت على أساس سلطة حزب تمكن من الاستيلاء على السلطة منفردا بشكل منحه سلطة مطلقة تماما في التحكم سواء بوسائل الإنتاج أو بالسلطة السياسية . طبعا من الظلم الشديد مقارنة ثورة أكتوبر بانقلابات فبراير شباط و مارس آذار 63 العسكرية , لكن تكاد تكون النتيجة متطابقة في الحالات الثلاثة , فبعد أن استولى الحزب البلشفي على السلطة تحت شعار كل السلطة للسوفييت سرعان ما انقلب على السوفييتات و انحصرت سلطة اتخاذ القرارات المصيرية بيد مجموعة محدودة جدا من قادة الحزب بينما تحولت السوفييتات من مؤسسات لممارسة ديمقراطية البروليتاريا إلى مؤسسات تابعة لمركز السلطة الحقيقي . كانت هناك مواجهة حتمية بين نوعين من المؤسسات في روسيا السوفيتية : مؤسسة ذات انضباط و تراتبيةهرمية صارمتين تتبع فيها القاعدة بانضباط حديدي مركزا أعلى من “الثوريين” المحترفين هي مؤسسة الحزب و مؤسسة تقوم على أوسع ديمقراطية ممكنة للقواعد , للأفراد العاديين , للعمال , حيث يجري مناقشة كل شيء و تقريره علنا و من الهيئات العامة لهذه المؤسسات بينما أن مركزها غير الدائم مسؤول أمام القواعد أساسا الممثلة في الهيئات العامة لهذه المؤسسات , هذه هي السوفييتات و لجان المعامل و الأحياء , الخ . كان الصراع حتميا بين المؤسستين و قد انتهى بانتصار البيروقراطية الحزبية و هزيمة الطبقة العاملة الروسية . حاولت عناصر عدة في الحزب نفسه إبداء مقاومة جدية , كان هناك الشيوعيون اليساريون و من ثم مجموعة المركزية الديمقراطية و أخيرا مجموعة المعارضة العمالية ( 1 ) , هذا كله في السنوات الثلاثة الأولى من الثورة , أي قبل تشكيل تروتسكي للمعارضة اليسارية بسنوات . يعتبر الكثيرون سحق تمرد بحارة كرونشتادت نهاية فعلية لأي دور جدي للسوفيتيات في الحياة السياسية للبلاد . كانت الحرب الأهلية قد أوشكت على نهايتها و بدا للبروليتاريا الروسية أنه قد حان الوقت لقطف ثمار تضحياتها , طالب بحارة كرونشتادت ( 2 ) المشهورون بكفاحيتهم العالية و دورهم الحيوي في كل معارك الثورة منذ يومها الأول بإعادة السلطة الفعلية إلى السوفييتات , الأمر الذي كان يعني بالنسبة لهم أن تجري انتخابات نزيهة يتنافس فيها البلاشفة مع بقية العمال دون أن تتدخل المؤسسات المركزية لصالح أي من المرشحين و أن تكون هناك دعاية انتخابية حقيقية و حرة . كانت قيادة الحزب قد استخدمت الحرب الأهلية لتخلق تهما جاهزة بالعمالة للبرجوازية المحلية و العالمية و الحرس الأبيض لسحق أي نقد أو فعل مستقل للجماهير , سيطور ستالين هذا في وقت لاحق بإضافة التروتسكيين و الزينوفييفيين لهذه القائمة وفيما بعد سيضيف الستالينيون العرب ( و معهم سادة الأنظمة القومية محل الدراسة ) إلى هذه القائمة تهمة العمالة لإسرائيل , هذه المرة أيضا صورت بروباغاندا البيروقراطية الحزبية المحاولة الأخيرة للبروليتاريا الروسية لاستعادة زمام الأمور من تلك البيروقراطية على أنها مؤامرة خارجية و أمرت قواتها بسحق كرونشتادت .
في الحقيقة هناك تشابه كبير للغاية , و مثير للدهشة , بين قصة صعود ستالين و حافظ الأسد و صدام حسين , لقد جاء ثلاثتهم من الصفوف الخلفية , كانت بدايتهم الفعلية في السلطة كمنفذين لإرادة السادة الفعليين أو اللاعبين الحقيقيين : ستالين كمنفذ لإرادة لينين , الأسد كمنفذ لرغبات صلاح جديد . و قد منحهم هذا الفرصة ليبنوا قوتهم داخل البيروقراطية الحاكمة تدريجيا و استغلوها هم جيدا . يمكن لأي سوري يسمع بتاريخ الصراع على السلطة في الاتحاد السوفييتي بعد مرض لينين الجدي و أخيرا وفاته , عن التحالف القصير بين ستالين و زينوفييف و كامينيف ضد تروتسكي ثم عن تحالفه مع بوخارين و ريكوف ضد الثلاثة و أخيرا عن إقصائه بوخارين نفسه , قبل أن يقوم بإعدام الجميع تقريبا في سنوات الثلاثينيات الدموية , أن تذكره بقصة مشابهة تماما يعرفها عن ظهر قلب كان أبطالها صلاح الدين البيطار , ميشيل عفلق , أمين الحافظ , صلاح جديد , نور الدين الأتاسي , و أخيرا حافظ الأسد . كانت هذه هي المسيرة التي اتخذتها عملية تركيز السلطة داخل البيروقراطية الحاكمة نفسها , يجب مثلا أن نذكر أن المؤتمرات الأولى للحزب البلشفي ( كما كانت المؤتمرات الأولى لحزب البعث السوري بعد استيلائه على السلطة ) ساحة لصراع و تنافس بين مراكز القوة داخله و تمتعت هذه المؤتمرات بالتالي بسلطة فعلية سمحت حتى بظهور تيارات معارضة نسبيا :كاليسار البعثي ( ياسين الحافظ ) و الذي انشق فيما بعد و كتل المعارضة المتتالية التي كانت قبل انضمام تروتسكي لها تعبر عن معارضة كوادر الصف الثاني و في حالة المعارضة العمالية مثلا عن معارضة بيروقراطية النقابات و المنظمات العمالية التابعة للحزب لخط القيادة . تدريجيا تركزت السلطة بأيدي مجموعة خارج تأثير هذه المؤتمرات و خارج تأثير البيروقراطية الحزبية في أجهزة الأمن ( التشيكا – أجهزة الأمن المتنوعة سوريا و عراقيا ) و مركز محدود جدا من البيروقراطيين الذين لعبوا دور الإمعة في حضور الديكتاتور أي المنفذين المطيعين لأوامره فقط : مولوتوف – كيروف – بيريا و من ثم مالينكوف و بالطبع خروتشوف . و الزعيم نفسه كان هو من يحدد خليفته أو من سيلعب دور الرجل الثاني , فقد تراجع دور مولوتوف مثلا وفقا لرغبة ستالين لصالح مالينكوف , و هذا نراه أيضا سوريا في تراجع دور الحرس القديم الشهابي – خدام – ناجي جميل , بأوامر من حافظ الأسد لصالح خليفته القادم : ابنه باسل و من ثم بشار . إنني أزعم أن قضية توريث الابن ليست ذات أهمية مركزية هنا , فالمهم أنه في الحالتين كان الديكتاتور نفسه هو من حدد خليفته و لا يوجد فرق بين أن يكون هذا هو ابنه الشخصي ماديا أو إيديولوجيا . بعد أن تمكن ستالين من ضرب خصومه بعضهم ببعض انتقل إلى المرحلة الأهم في تثبيت ديكتاتوريته : استئصال خصومه نهائيا , لقد أعدم ستالين معظم أفراد اللجنة المركزية للحزب البلشفي لعام 1917 , هذا سيتحقق سوريا بعد أن يستأصل النظام آخر خطر جدي على سلطته المطلقة بعد معركة دموية مع الإخوان , بعد سنوات الثلاثينيات في روسيا الستالينية و بعد سنوات الثمانينيات في سوريا لن يسمع إلا الصمت الذي لا يقطعه إلا مديح الديكتاتور . لكن مصير قيادة البعث التي تولت السلطة عام 1963 بالكاد يختلف عن مصير قادة البلاشفة في عام 1917 , سيموت صلاح جديد في السجن و سيخرج نور الدين الأتاسي منه و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة و سيجري اغتيال البيطار و إبعاد أمين الحافظ و آخرين و إعدام حاطوم , أما البقية التي نجت فستشكل ما يعادل المعارضة التروتسكية للستالينية في المنفى : ما يسمى بحزب البعث الديمقراطي ( ماخوس و قياديون سابقون آخرون ) ( 3 ) . لكن الشبه أكثر قربا بين ستالين و صدام حسين منه مع الأسد الذي كان أكثر اعتدالا في دمويته ربما بسبب انتمائه الطائفي لطائفة محدودة العدد في سوريا و متهمة بانحرافها عن التعاليم الإسلامية الأرثوذوكسية , و بالفعل لا يوجد أقرب إلى صورة زينوفييف و كامينييف و غيرهما من كبار القادة البلاشفة و هم “يعترفون بذنبهم” أمام محاكم موسكو الشهيرة في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي قبل أن ينصتوا بصمت لأحكام إعدامهم بتهمة الخيانة الملفقة من صورة أولئك القادة البعثيين الذين كان صدام يتلو أسماءهم طالبا منهم مغادرة قاعة المؤتمر لكي يعدموا على الفور بل و كانوا يرددون “شعار” البعث الشهير قبل أن يغادروا القاعة عملا بتقليد بعثي قديم , في الحقيقة لا يوجد من هو أحط من هؤلاء البيروقراطيين الذين دربوا على الخنوع و ماتوا خانعين دون أن يجرؤوا حتى على الاحتجاج على الديكتاتور و هم موقنون بالموت على يد جلاديه !
و في سوريا كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي جاء خروتشوف بعد ستالين لكن المرحلة الخروتشوفية مرت سريعا جدا في الحالة السورية , لأن من مثل دور خروتشوف هنا كان بشار الأسد ابن الزعيم الراحل , كان من المستحيل أن يصل بشار بنقد سياسات والده إلى الحد الذي وصله خروتشوف في نقد سياسات ستالين , لكن في كلتا الحالتين كان نقدا سطحيا عقيما , نقد بيروقراطيا لزعيم البيروقراطية الراحل , يقصد منه تبرير سيطرة الحرس الجديد . لكن فترة حكم بشار تحمل خصائص أكثر من مرحلة في تاريخ البيروقراطية الروسية الحاكمة : فقد بدأ خروتشوفيا و سرعان ما تحول إلى إعادة الستالينية بصورة جديدة “معاصرة” مع البريجنيفية و أخيرا نشاهد فيها أيضا النهب المنفلت للبلد الذي ميز مرحلة يلتسين . السؤال الذي يطرح نفسه : هل من الممكن أن يصحو بشار ( أو ابنه أو حفيده لا سمح الله ) على الأبرش ( رئيس البرلمان السوري – مكافئ يلتسين سوريا ) أو العطري ( رئيس وزرائه الحالي ) أو أحفادهما و هما يلعبان دور يلتسين و شيفاردنادزه في تدمير النظام و إعادة إنتاجه من جديد ؟ يجب أن نلاحظ هنا , و لو على سبيل الاستدراك , كيف تطور النظام الروسي من جديد بشكل معاكس باتجاه بريجنيف نصف ستاليني نيوليبرالي : يلتسين ثم باتجاه ستالين “وطني” : بوتين .
دروس المستقبل
لا شك أن الجماهير الروسية و في مرحلة لاحقة الأوروبية الشرقية قد قاومت سلطة البيروقراطية , لكن مقاومتها سحقت بقسوة . جاء انهيار تلك الأنظمة من الداخل أكثر منه نتيجة نضال الشعوب نفسها و هذا ما انعكس على شكل الأنظمة التي حلت محل الأنظمة الستالينية : أنظمة نيوليبرالية تابعة . عربيا أو محليا تعلمنا خبرة العقود القليلة الماضية أن الجماهير تشارك في التاريخ عبر انتفاضات تسمى حديثا بانتفاضات الخبز ( و مؤخرا الكهرباء و ربما الماء حتى في وقت لاحق ! ) , هي أشكال حديثة من عامية 1860 , هذه الانتفاضات دفعت القوى الحاكمة إلى تغييرات شكلية في شكل النظام باتجاه ديمقراطية شكلية كما في الجزائر و الأردن بعد انتفاضات أواخر الثمانينيات , تماما كما اكتشفت البرجوازية الإسبانية في أواخر الستينيات من القرن العشرين أنه عندما تصبح الديكتاتورية مكلفة فإن الحل هو في “الديمقراطية” . في سوريا لم تكن هناك انتفاضات خبز , ليس لأن الخبز أرخص في سوريا أو لأن الفقراء يعيشون على نحو أفضل , بل بسبب مناورات النظام و قمعه في نفس الوقت وبسبب تعقيدات الوضع السوري أيضا . و خلافا لكل الأوهام التي يضعها الجزء المتلبرل من النخبة في أمريكا فإن الديمقراطية لن تأتي من خلال تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية , إنها لعبة يعرفها النظام و أمريكا جيدا ( و معهما كل الأنظمة العربية ) , ففي كل مرة تضغط فيها واشنطن على هذه الأنظمة بذريعة الديمقراطية تزداد هذه الأنظمة قربا من إسرائيل و خنوعا لمتطلبات سياسة الهيمنة الأمريكية في المنطقة و العالم . إن الضغط الجماهيري , مهما كان ضئيلا , كفيل بأن يجبر الأنظمة على التراجع و البحث عن حلول , و لو شكلية لأزمات هذه الجماهير , من أي ضغط خارجي . لا يمكن إلا المراهنة على فعل جماهيري حقيقي حر و مستقل عن النخب الاجتماعية و السياسية المهيمنة , فعل ليس له من هدف إلا الحرية السياسية و الاجتماعية لهذه الجماهير بالتحديد . هذا يضع أيضا مهمة بناء و تطوير يسار تحرري , يسار حفاز للنضال الجماهيري و ليس يسار طليعي يمارس الوصاية على مثل هذا النضال و يحاول تجييره لصالح مساومات فوقية ما مع القوى المهيمنة في سوريا و في النظام الرأسمالي العالمي , ليست مهمة هذا اليسار صنع الثورة بقدر ما هي مهمته العمل كحفاز لها , إن صنع الثورة ليس شيئا يمارس من خارج الواقع و الجماهير , و ليس عملية ذاتية , الثورة هي من بين أشياء قليلة أخرى لا يمكن أن تصنعها إلا الجماهير فقط , لكن هذه الثورة في نفس الوقت ليست إلا نتاجا لنضال يومي يخوضه على مدى سنوات طويلة آلاف آلاف الشغيلة و الفقراء , تتويجا لمقاومة على كافة الصعد ضد القمع و الاستلاب و التهميش و الاستغلال . المطلوب كما أزعم هو أن يحاول هذا اليسار أن يخوض نقاشا حرا مع الجماهير حول هذه المقاومة , حول سبل التحول إلى مجتمع تحرري و شكل هذا المجتمع و نوع المؤسسات الجماهيرية الديمقراطية فيه , نقاشا لا يمارس فيه دور المرجعية بقدر ما يمارس فيه دور الباحث عن الحقيقة في نضال الجماهير و إبداعها , و أن يكون قوة احتياطية لهذا النضال عند الضرورة……..
مازن كم الماز
( 1 ) المعلومات مأخوذة من وثائق المؤتمرات 8 و 9 و 10 للحزب الشيوعي الروسي ( البلشفي ) , باللغة الانكليزية على موقع أرشيف الماركسيين على الانترنيت
( 2 ) كتاب انتفاضة كرونشتادت للأناركية الروسية إيدا ميت من موقع prole.info
( 3 ) يكافئ هذا في الحزب الشيوعي السوري : خالد بكداش , رياض الترك , يوسف فيصل , ظهير عبد الصمد , ابراهيم بكري , دانيال نعمة و غيرهم , يشبه التبدل الدائم في المواقف و التحالفات نظيره الروسي , لكن الشرعية هنا لا تستمد من قوة و بطش أجهزة الأمن , بل من غباء الشيوعيين السوريين العاديين , من استمرارهم في التصفيق لهذا الزعيم أو ذاك , هذا فقط يعطي هذه القيادات الشرعية في التحدث باسم حزب ما شيوعي و الاستمرار في قبض ثمن “تحالفاتها”
اجد نفسي تجزم بغباء الشيوعيين السوريين الشديد – عندما قامت الوحدة السورية المصرية عام 1958 – والتي وللأسف الشديد غنينا لها ورقصنا ودبكنا ظنا منا انها فعلاً وحدة حقيقية ستكون نواة الوحدة العربية الشاملة – ولكن الواقع أنها كانت مؤامرة بكل ما للكلمة من معنى – لها هدفين اولاً ضرب الحزب الشيوعي في سوريا حيث اصبح له وزن سياسي في سوريا في ذلك الزمن وثانياً ضرب الديمقراطية الوليدة في سوريا – وكانت المؤامرة بين جمال عبدالناصر وحزب البعث في سوريا والسيدة أمريكا ومباركة الشقيقة إسرائيل -قضي على الديمقراطية في سوريا قضاءً مبرماً كذلك ضرب الحزب الشيوعي السوري ضربة كادت تكون القاضية — ثم فصلت الوحدة بأسهل من شربة الماء — كوفئ حزب البعث بتسليمه الحكم في سوريا والعراق مع أخذ شرط بعدم توحيد البلدين وهذا ماحصل فعلاً — إذن ماهو المانع من نوحيدهما وأهداف البعث وحدة حرية اشتراكية – نعود للشيوعيين لو كان عندهم تفكير لما مدوا أيديهم بالمصافحة لأي بعثي على وجه الأرض – ما وزنهم في الجبهة التقدمية ليس لهم لون ولاطعم ولا رائحة – هم وجميع الأحزاب المشاركة – عبارة عن ديكور لتجميل وجه النظام وكما يقول المثل الشعبي لاقيمة ولا حشيمة )