باب الحارة- خواطر
غسان المفلح
مهرجان الدراما العربية السنوي واستعراضاتها، وما يمكن أن يحيط بأي مهرجان في زمننا المعاصر، حيث تستل كسيوف من أغمادها، وحناجر تصدح بما لذ وطاب من نقد أو تشهير أو تجريح أو دعاية لهذا العمل أو ذاك، وهذا في شهر رمضان وأثناءه وبعد انتهاء الصوم.
الدراما العربية وما تطرحه سوقا من جهة، وثقافة راهنة من جهة محايثة لهذا السوق، ثقافة كل منا يتعامل مع رسالتها بطريقته، والتعامل هذا مرتبط بمعايير ذاتية نضفيها على أي عمل درامي، وهذا من طبيعة الأمور، ولكن الخطير بالموضوع أن كثر منا تجد أن معاييرها الذاتية بالحكم على أي عمل درامي، هي المعايير الصحيحة والجدية، وانطلاقا من ذلك نجد أن التصعيد والتسفيل هما ميزة الكتابة عن الدراما الرمضانية العربية.
بداية أنا منحاز للأعمال التي تفتح ملفات التفاصيل الحياتية لمجتمعاتنا، هذه التفاصيل سواء قدمت بشكل فنتازي أو بشكل واقعي ومأساوي كمسلسل” ليس سرابا” للمبدعين المثنى صبح وفادي قوشجي و عباس النوري وكاريس بشار.
****
لكل فريق عمل رؤيته، التي نحاول أن نرى العمل من زاويتها أيضا إضافة لرؤيتنا للعمل من زاويتنا.
نعم باب الحارة صور دمشق كما كانت تلك الفترة أقله بالمستوى الاجتماعي، وهنا لن نتطرق لقضية مواجهة الاستعمار فهذه قضية أعتقد انها ثانوية تسويقية للعمل، وتلهب إحساس الجمهور الراهن الذي يراد توجيهه نحو شعارات سياسية، نختلف أو نتفق عليها ليس مهما.
لكن قبل ذلك لابد لنا من إثارة مسألة شاهدتها تتكرر رمضانيا في سورية بشكل أو بآخر، ولكنها هذا العام كانت واضحة تماما، الدراما السورية متوزعة الآن على بيئتين بيئة محافظة اللاذقية المنفتحة اجتماعيا، والبيئة الدمشقية الراهنة، والحارة الدمشقية المنغلقة اجتماعيا. لم يعد في سورية سوى هذه الواقعة التصنيفية ذات الحضور السياسي الكثيف.
****
الريف السوري عموما كان أكثر انفتاحا من المدينة السورية، وهذا له أسبابه التي لن نخوض فيها هنا، فالمرأة في الريف السوري كانت في المنزل وخارجه، بينما في المدينة بشكل عام بقيت المراة داخل المنزل، والأسباب الاقتصادية والثقافية معروفة، وعندما خرجت من المنزل انتشر الحجاب بديلا عن بقاءها في المنزل، وهذه الأسباب لا يتم الإشارة إليها فيما معرض تتناوله بعض المسلسلات ذات الطابع البيئي المناطقي.
****
قصص العشق في الريف السوري مع كل ما تحمله من مآس وخصوصيات إلا أنها متشابهة نسبيا في تلك الفترات النصف الأول من القرن العشرين في سورية، ولكن هنالك ميزات تجعل الراهن يعيد إنتاج الماضي وفقا لصورته ولرغائبه، مثال يعكس هذه الحالة” غطاء الرأس لدى الفتيات في ريف الساحل السوري لم يكن له بعد ديني بقدر ما كان له بعد تقليدي هش، وهنا نسجل سمة لا حكم فيها، ان المرأة في ريف الساحل كائن تاريخي لايحمل بعدا دينيا، بينما في الريف المتبقي كائن له بعد ديني نسبي ولكن الطاغي حتى في شكل هذا الغطاء هو التقليدي، والعلاقات كانت تنبع من التقليد أكثر مماتنبع من التدين، وهذا يعني أن المرأة التقليدية لحضورها جانب ديني.
الآن هذا يجرنا إلى قضية الحجاب الحالي- كانخراط في العصر- الذي انتشر بطريقة واحدة في المدينة والريف، فالتقليد امتزج بالدين العالم، الوافد من انتشار التعليم، والملاحظ أن شكل اللباس الحالي للمحجبات لم تعد تستطيع التمييز فيه بين فتاة المدينة وفتاة الريف، لكن من يحدد تناول المواضيع الدرامية، ومن يجعل هنالك معادلات الممنوع والممسموح؟ المرأة باختصار في الوسط السني السوري لديها تحد في أن تتحجب أم لا، ماعلاقة ذلك بالدراما؟ الدراما الذي فتحت لها سوقا في هذا الحقل، آخرها مسلسل” ماملكت ايمانكم” لنجدت أنزور.
الدراما هي في النهاية سوق، عرض وطلب، والمبدع فيها عينه على ما يجد إقبالا لدى الشارع، وأحيانا نفورا، لأن نفور الشارع في لجظات يمكن أن يكون سوقا رابحة.
****
باب الحارة صورمسألة المرأة تصويرا واقعيا، وهنا كشخص تربيت في اجواء ومدارس حيي الميدان والشاغور الدمشقيين، لابد أن أسجل أن ماجاء في باب الحارة أكثر أمانة للواقع مما جاء من بعض منتقديه، دمشق هي ساروجة والميدان والشاغور والسويقة وباب الجابية والصالحية وحارة الجورة…الخ أكثر مما هي احياء عين الكرش وشارع العابد وأبو رمانة في مسلسل حمام القيشاني! للراحل هاني الروماني، وأكثر مما هي” حارة القصر” للمخرج المؤسس علاء الدين كوكش.
الآن نوافق على هذه الطريقة بالعيش، اقصد الذي كان سائدا نوافق أن نعتبره نموذجا إيجابيا أم لا؟ هذا أمر لا يعنيني هنا، فهذه ليست مهمة العمل الفني. نعم رغم هذا فالتكافل الأهلي في حي الميدان كان موجودا، ولمشايخ ومخاتير الحارات وعضواتها دورا رئيسيا في هذا التكافل.
****
بالمقابل رغم العمر الزمني والتاريخي للدراما المصرية لازالت تعود إلى قرى الصعيد وتنهل من حكاياها وقصصها، وتفاصيل حياتها عبر القرون الأخيرة، ولازالت تشكل مادة درامية خصبة وسوقا رابحة، في العام الماضي تابعت مسلسل الرحايا حجر القلوب للمبدع نور الشريف وفريق العمل، الذي دخل إلى مناطق وعرة كما يقال في التفاصيل الاجتماعية لقرية صعيدية، والآن يحيى الفخراني يعيد نفس الدراما ولكن بحقبة أقدم بكثير الحقبة المملوكية في مسلسله” شيخ العرب همام” ومع ذلك لا نجد هجوما مصريا على تصويرها للمرأة الصعيدية او المدينية في الأعمال المصرية. هذه قضايا قد حسمتها الدراما المصرية والراهن المصري منذ زمن بعيد.
رغم التشدد الصعيدي إلا أن المسلسلات التي تتناوله غالبا ما يكون أحد محاورها قصة عشق، مسلسلات البيئة الشامية نادرا ماكان هذا محورا، لأنه لامجال لا مكاني ولا اجتماعي لحصول هذا العشق في بيئة دمشقية قديمة، وإن حصل يكون استثناء ليس مركزيا دراميا كعشق خيرية لمعتز في باب الحارة. كيف ستعشق الفتاة وهي لا تخرج من بيتها أبدا؟ بينما كل المسلسلات التي تناولت الريف السوري بكل حقبه كانت تحتوي على قصص عشق، لماذا؟
شيخ العرب همام وباب الحارة يسوقان لثقافة مقاومة الأجنبي، سواء كان فرنسيا أو مملوكيا، أنه هم حاضر لماذا رغم تباعد الأزمنة والأمكنة؟
****
الدراما السورية تعيد كتابة تاريخنا كما فعلت من قبل الدراما المصرية، بتفاصيله سواء اخذت شكلا فنتازيا كما قلنا ام واقعيا، ومهما كانت قراءتنا لهذه الدراما، إلا انها تبقى قراءة مشروطة لراهننا، واي راهن هذا الذي ينتج هذه الدراما، وأي معايير نملكها من هذا الراهن للحكم على أعمال راهنة، وإن كانت تتناول فترات تاريخية سابقة؟ من هذا المنطلق أجد أن باب الحارة كان أكثر أمانة في تصوير واقع المراة في الحي الدمشقي أكثر بكثير من الصورة التي يحاول ناقديه تقديمها عن المرأة في تلك الأحياء، ولكن من قال” ان على الراهن أن يعود لكي يقلد هذا الذي كان؟ عندما تتناول الدراما الهوليودية تاريخ العالم كله، هل يطرح في امريكا، مسألة العودة لفترات مما تناولتها هذه الدراما؟ السيد المسيح تناولت قصته هوليوود بأكثر من جانب واكثر من رسالة، المسألة أن الحاضر الأمريكي بكل ما فيه الآن، فيه مشروعية اكثر من كل الماضي الذي يعرضه، ونحن عماذا نبحث الآن؟ وعن اية ثقافة نريدها بالراهن؟ وهل ممكن لنا ان نسأل أسئلتنا هذه دون حضور شرطنا الراهن بكل حمولته السورية سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا؟
****
هنالك في سورية محافظات أخرى وبيئات أخرى غير دمشق واللاذقية، هنالك الجزيرة السورية بتلاوينها، والسويداء وحماة وحمص….لماذا لا تخرج الدراما السورية إلى هناك؟ ربما عوامل الربح لازالت ضعيفة هناك، فالدراما بالنهاية سلعة كأي سلعة يجب أن تربح، ولكن أين مؤسسات الإنتاج في الدولة؟!
****
بقي ملاحظات لمخرج العمل والمشرف على مسلسل باب الحارة السيد بسام الملا، الذي تعامل مع العمل وكأنه عمل يكتب على مقاسه، اختلف مع النجم عباس النوري أماته، واختلف مع سامر المصري أيضا فعل ذلك، لماذا هذه العقدة؟ ولماذا لم يحضر نجما آخر بدل عباس وتبقى الرواية أو بدل سامر المصري، لماذا هذا الضيق في الصراع على الرمز؟ حيث كتبت الأجزاء الأخيرة بناء على تلك الخلافات، وكتبت بناء على موقف ضيق للمخرج، وهذا ما سبب هبوطا دراميا في العمل، ولكن كل هذا لا يمنع من شكر فريق العمل كله، الذي مات والذي بقي حيا دراميا. وكلمة أخيرة إن الكاتب على مقاس الملا السيد كمال مرة لم يستطع لملمة الشخصيات التي انتجتها كتابة صاحب فكرة العمل السيد مروان قاووق، الذي أماته المخرج في العمل الأجزاء الثلاثة الأخيرة.
يكفي أن تقول باب الحارة في أي بلد عربي، دون أية تعريفات أخرى لتجده معروفا، وهذه وحدها تكفي.
إذا كان باب الحارة شكل متخيل مأمول للناس في حاضرنا كما يخاف بعض منتقديه، فأي حاضر هذا الذي نعيشه؟
ايلاف