صفحات أخرى

كتاب “البغاء في كوبا” لأمير فاييه: تحت غواية الشيطان

القسم الغالب من السياح الذين يترددون على كوبا، التي تصفها الدلائل السياحية بجنة عدن، لا يزورونها حبا بالشمس، والخضرة، والسيغار الهافاني، بل لتعاطي البغاء، الذي يعتبر البلد مرتعه الخصيب بامتياز. في الموضوع كتبت العديد من الدراسات لكن يبقى منحاها إيديولوجيا يركز في الأساس على السياحة الجنسية أكثر مما يرصد من الداخل نشأة الظاهرة وتشكلها في مجتمع يتكئ اقتصاده على تصدير السكّر، لكن أيضا على الاتجار الجنسي. تأتي دراسة أمير فاييه ناقد وصحافي حائز جائزة ماريو فارغاس يوسا عام 2006، ويعيش اليوم في المنفى ببرلين، في عنوان “البغاء في كوبا” (منشورات ميتاييه)، لإلقاء الضوء على هذه الظاهرة ولتقديم تحقيق من الداخل عن عالم سري ومغلق يتحكم فيه من الخلف، على الرغم من التظاهر بمحاربته، النظام الكاستروي. في هذا التحقيق التقط الكاتب شهادات لأشخاص تورطوا مباشرة في مسلسل البغاء، هم إما باغيات من خمس نجوم، وإما سائقو تاكسي، وإما موظفون بوزارة السياحة، وإما من البوليس وإما قوادون محترفون.
“الباغيات بنات الشيطان. يوفرن لنا متعا كثيرة في الفراش”. قائل هذه العبارة قسيس كاثوليكي، صديق للكاتب، قص عليه أنه كان دائما تحت غواية الشيطان. كان يتردد على ماخور سري في هافانا القديمة. بعد مغادرته الماخور كان يتلو الوردية باسم مريم العذراء وتسابيح أخرى للتطهر من الذنوب والإحساس بالراحة تجاه خالقه! يسترجع القسيس الكاثوليكي هنا الصورة الدينية القديمة للمرأة بصفتها رديفة للشيطان. وقد استدعى الكاتب تجاربه الشخصية عندما كان “ينسحب”، رفقة مومسات، إلى الغرف المظلمة للفنادق، للإمتاع والمؤانسة. وغالبا ما كانت هذه “الخرجات” تنتهي بـ”التقاط” أمراض جنسية معدية. ويشير أمير فاييه الى أنه لم يعد يتذكر وجوه الباغيات اللواتي ضاجعهن، اللهم سوى أردافهن المكتنزة، والحلمات الغامقة لنهودهن، أو نمش من هنا وندبة من هناك. غير أنه وصل إلى مسمعه وجود مومس ذات جمال أسطوري، يأتي على ذكرها الزبائن في كل الفنادق. اكتشف أمير فاييه بمحض المصادفة أن هذه المومس كانت إحدى صديقاته، او بشكل أدق كانت خطيبة أحد أصدقائه المقربين. قبل متابعته قصة هذه المومس الملاك، يستعرض أمير فاييه، ثلاث قضايا.
أولا: في كوبا تعني Jinetera “الفارسة” أو المرأة التي سنها بين 13 و 30 عاما والتي تبيع جسدها من السائح مقابل أجر. للكلمة دلالة حربية. إذ خلال حرب التحرير التي قادها الكوبيون في وجه الإسبان، كانوا يركبون الخيول ويرتمون على الأعداء. أما اليوم فإن المومسات يلقين بأجسادهن على السياح الأجانب من أجل لقمة العيش. إنهن “فارسات” يطمحن إلى الحرية التي يوفرها الدولار. تجاوز تطبيق هذه العبارة مجال البغاء ليشمل ميادين تخص الاتجار بالمخدرات والسوق السوداء.
ثانيا: إن كان الكوبيون يعرفون جيدا وجود داء اسمه Jinetera، فإن قلة قليلة منهم مستعدة لتقديم شهادات عن كيفيات ممارسته، وبخاصة في جزيرة ألغيت فيها نظريا تجارة الجسد منذ ثورة 1959. فعلاوة على الفتيات والقوادين الذين يرتبطون بتجارة البغاء في المواخير السفلية لكوبا، فإن الذين يعملون في الشركات والمركبات السياحية يواجهون يوميا وبشكل مباشر تجارب جديدة على علاقة بهذه الظاهرة. وقد وقف أمير فاييه بدءا من عام 1991 بأم عينه على واقع البغاء عندما عمل لصالح الشركة الإعلامية Grupo Cubanacan SA وهي الهيئة السياحية الوطنية الكبرى. ومن الداخل اطلع على الطرق والكيفيات التي تعمل بها آلة البغاء.
ثالثا: في وقت بدأ أمير فاييه ينمي اهتمامه بموضوع البغاء كمادة روائية، خرجت إلى الوجود المومس الملاك التي كانت حديثا للجميع والتي كانت خطيبة خورخي أليخاندرو، الذي توفي على إثر سرطان. وكان خورخي صديقا حميما لأمير فاييه. كانت المومس الملاك جالسة في مقهى مطار خوسي مارتي الدولي في هافانا، في انتظار الطائرة المتوجهة الى مكسيكو. بحركة من يدها، تقدم إليها رجل قصير القامة ليقف من ورائها. وعندما أحس أن أمير فاييه يسير في اتجاهها أوقفه بحركة عنيفة إلى أن تدخلت السيدة، المومس الملاك، لتأمره بالتراجع. توجه فاييه إلى الفتاة مخاطبا: “سوسميلي، مرّت على لقائنا الأخير 15 سنة”. لكنها أجابته: “اسمي لوريتا”، ثم رشفت من كأس الشامبانيا التي كانت بين يديها، و”إن أردت أن تعرف المزيد فأنا لوريتا الفرعونية… وليس أي ماضٍ. فلا تنس ذلك”.
حين أنهى أمير فاييه تحقيقه عام 1999 جاء الكتاب بنتائج تسع سنوات من التحقيق والجهد. بدءا من اسم سوسميلي الذي قاده إلى تشكيل سلسلة طويلة من “الفارسات” عقدها بسلسلة أخرى تضم رجالات بوليس، فاسدين، وعاملين في مجال السياحة، ورجال أمن في السياحة يغضون الطرف عن أبشع الممارسات، وسائقي تاكسيات ينقلون الباغيات إلى مواخير سرية، هذا مع دراسة الفن الإشهاري عندما يكرَّس لخدمة سوق الجنس، والمتاجرة في المخدرات، إلى ممارسة الجنس مع الحيوانات، إلى بغاء الأطفال. بكلمة: إلى ذاك العالم السفلي الذي كان يعيش فيه الكاتب من دون أن يفكر في ظلال الليل الساقطة على هافانا. تسع سنوات للوقوف على حقيقة وجود عالم غامض، قذر، متسخ، يمتثل لقوانين خاصة مع تقديس لشعائر الماركيز دو ساد وطقوسه. تسع سنوات لإدراك أن كوبا ليست جنة عدن كما يصفها البعض، لأن الجنة لا يمكنها أن توجد على هذه الأرض المشبعة بالبؤس والوسخ البشري. من قبل، كتب عن هذه العاهة الاجتماعية الصحافي الكوبي لويس مانوييل غارثيا مينديس الذي يعيش اليوم في إسبانيا، مقالا في موضوع “حالة ساندرا”. وقد تسبب المقال في تصفيات لبعض الأشخاص الذين أدلوا بشهادتهم، فيما طرد البعض الآخر من مجلة الأطفال، “كلنا شباب”، التي صدر فيها المقال.
بعد هذا العرض، يعود أمير فاييه إلى حالة المومس الملاك المدعوة لوريتا، واسمها الحقيقي “سيسلي”، ليعطيها الكلمة لتحدثنا عن مسارها: فهي حاصلة على ليسانس في الفيلولوجيا (علم اللغات)، ولم يفلت من غواية جسدها العديد من السياح الذين زاروا الجزيرة. تجيد الفرنسية، الإيطالية، الإنكليزية واللاتينية. لكن يبقى نسطور عشيقها المفضل بين الجميع. فهو أبشع رجل على وجه الخليقة. قصير القامة، ذو خلقة مشوهة، ومع ذلك يبقى عشيقها المفضل. فالرجل يتربع على ثروة هائلة بحكم تبوئه أحد المناصب الكبرى في شركة “جنرال موتورز”. اشترى لها فيلا فاخرة في هافانا، وكل شهرين تستقل الطائرة إلى المكسيك. في معرض حديثها عن مسارها، تشير لوريتا الى أن البلد الوحيد يمكن أن تعيش فيه من دون القيام بأي عمل هو كوبا: “عوّدنا النظام لأكثر من 30 سنة على التظاهر بالعمل. نذهب إلى أماكن الشغل لسرد النكات، وممارسة الجنس، وقتل الوقت والتظاهر بالعمل. ولم يشكل هذا الوضع أي إشكال بالنسبة الى النظام. الكل يستهزئ بالعمل الذي يقوم به وفي نهاية الشهر يتلقى كل واحد راتبه. كما أن الإنسان المتعلم في كوبا هو الإنسان الذي لا يعرف أي شيء”.
كانت لوريتا بالنسبة الى الكاتب واسطة مهمة مكّنته من ولوج عالم البغاء الغامض، بل المظلم. عرّفته الى الأشخاص والى أسرار المهنة وطرق مقاربات المومسات. كما حللت له سيكولوجيا الكوبيين القائمة على الأخلاق المزدوجة: من جهة الأخلاق الرسمية ومن جهة ثانية الاخلاق الفردية أو الخاصة. تنطبق التصرفات على جميع الميادين. وأولئك الذين في مقاليد الحكم هم من يعطي المثال. عالم البغاء شبيه بعالم المافيا. لا أحد يقدر على الغوص في أحضانه إن لم يكن مسلحا. بعد نسطور، تزوجت لوريتا من فرنسي لم تلبث أن طلّقته.

جزيرة الملذات
لمعرفة أسباب داء البغاء في البلد، يجب العودة إلى احتلال الجزيرة على أيدي الإسبان. كان دييغو فيلاسكيز، حاكم الجزيرة، مولعا بالتسلية. كل مساء كان يقيم حفلات باذخة في حضرة فتيات تم انتقاؤهن من كل اطراف البلاد. في داخل خيمة نصبها لهذا الغرض خارج الأسوار، كان يستسلم لشرهه الجنسي مع الفتيات. ولم يكن الوحيد يمارس هذا النوع من الانتهاك في حق فتيات اقتلعن من أراضيهن وبيوت عائلاتهن. إذ سرى هذا السلوك في وسط الجنود. هكذا يتزاوج الاستعمار والاحتلال بأشكال الاستعباد الجنسي. وفي التقارير التي بعث بها الغزاة الإسبان إلى القصر الملكي الحاكم آنذاك، تمت الإشارة إلى “الفورة الجنسية التي تتحلى بها الهندية الكوبية”.
كان غرض إسبانيا تأسيس نظام عائلي متين يقوم على قوانين الله وقوانين العرش. لكن البغاء المؤسساتي في جزيرة كوبا بدأ مع النساء اللائي وفدن من إسبانيا على متن بواخر. كان من بينهن قوادات ومومسات استطعن الإفلات من مقصلة محاكم التفتيش. يشير أمير فاييه بالاستناد الى وثائق مكسيكية، الى أن ست مومسات وصلن إلى الجزيرة على متن الباخرة “برينتا” وهي إحدى بواخر كريستوف كولومبوس. يقف وراء تمويل هذه الحملات الاستكشافية والتبشيرية الملوك الكاثوليك. وعليه كانت الباغيات عنصراً أساسياً في اكتشاف العالم الجديد.
منذ السنوات الأولى لغزو كوبا الى عام 1553 وجدت آثار عدة لممارسة البغاء. وفيما انقرض البغاء في أوساط الوافدات من إسبانيا حلت محله تجارة جديدة: بغاء النساء المتحدرات من أصل إفريقي.
يقدم الكاتب بعد ذلك شهادات لأشخاص، رجال ونساء، انغمسوا في تجارة الجنس. التقط شهادة فتاة تدعى فيفي في الرابعة والعشرين من عمرها. مهندسة في الكيمياء. بعدما أمضت 3 سنوات عاملة في إحدى الصيدليات، تخلط المواد مقابل أجر سخيف، انتقلت إلى “مهنة” البغاء. هاجر والدها من كوبا في اتجاه أميركا. أما والدتها فأصيبت بالجنون قبل أن تموت. بعدما قدمت ترشيحها للعمل في الشركة السياحية الوطنية، فهمت أنه للحصول على وظيفة يجب عليها أن تضاجع حفنة من الرؤساء. أما رجل الأمن أنطونيو فاعترف بأنه يجمع المال من دون أن يوسخ يديه. يتقاسم بعض الارباح مع حارس الفندق والباغيات مقابل غض الطرف عن ممارساتهن. يحصل على راتب سري يبلغ 100 دولار، وهو مبلغ محترم في بلد مثل كوبا. أما إيفان لوغران، ويعمل قوادا، فاعترف بأن المومسات اللواتي يعملن لصالحه يشتغلن مع زبائن خمس نجوم. إنها قاعدة لا يفرط فيها. شابلي كان أستاذا للماركسية في الجامعة ويعمل اليوم سائق تاكس خاصاً، لإعالة أطفاله الأربعة وزوجته المريضة.

معركة شكلية ضد البغاء
وضعت الثورة الكوبية من بين أهدافها المستعجلة محاربة كل أشكال البغاء. لكن ذلك لم يتم البتة بحكم تعاطي هذه الممارسة بشكل سري في مختلف شرائح المجتمع الكوبي. وقت اندلاع الثورة كان عدد السكان يناهز 6 ملايين نسمة، بمن فيهم، بحسب الإحصاءات الرسمية، مئة ألف باغية في مجموع البلد. أول الإجراءات الأولية التحريرية للحكومة الكوبية كان لصالح تحرير المرأة. وشملت الإجراءات مساعدة القطاع النسائي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وذلك بفضل إنشاء مدارس تعليم، وإقرار التربية المجانية وحماية النساء الأرامل وإجراءات أخرى مكّنت النساء من الترقي إلى مستوى رفيع. جاءت مقاومة هذه السياسة من طرف القوادين وأرباب المواخير وبعض بيوت الدعارة، وفي وسط بعض النساء اللائي وصلن إلى مستوى رفيع، بفضل ارتباطهن بشخصيات سياسية نافذة في الحكومة. ويؤول علماء الاجتماع وعلماء السيكولوجيا هذه المقاومة كعلامة على عودة “الفورة الجنسية” للعنصر اللاتيني الذي ينحدر منه الكوبي. لكن في الستينات تم سجن أرباب المواخير والقوادين والباغيات الذين رفضوا تطبيق تعاليم الثورة. أرسلت الباغيات الى العمل في القرى. لكن الظاهرة لم تلبت أن اتخذت نفسا وشكلا جديدين أكثر تعقيدا، وخصوصا مع انبثاق حركة بيروقراطية بقيادة أرباب العمل. هكذا انبثقت حركة جديدة أطلق عليها “تيتيمانيا Titimania. يراوح سن المومسات هنا بين 18 و35 سنة. أراد هذا الجنس الجديد الافادة من الامتيازات التي وفرها النظام للمسيرين السياسيين ورؤساء الشركات الكبرى. وما ان انتشرت في البلد الشركات الصغرى والمتوسطة حتى رافقت هذا التحول الاقتصادي- الاجتماعي باغيات من نوع جديد، أطلقت عليهن تسميات، من مثل “القريدسات”les crevettes، وهن الفتيات اللواتي يقمن علاقة جنسية مع مسنين ميسورين. أما les raccrocheuses فهن المومسات اللوتي يلتقطن أشخاصا يتكفلن رعايتهن. أما الصنف الثالث فهو صنف les caravelles، وهن عاشقات لشخصيات سياسية نافذة. غير أن لا تهديدات فيديل كاسترو ولا الاعتقالات نجحت في القضاء على ظاهرة البغاء.
ابتداء من التسعينات، شهدت كوبا موجة كاسحة للبغاء تزامنت مع انهيار المعسكر الاشتراكي وانفجار الاتحاد السوفياتي وسقوط حائط برلين. وطدت هذه التغييرات من دعائم التوجه الليبيرالي للبلد مع تقوية للهيمنة الأميركية. كانت تجارة كوبا قائمة على “التبادل الأخوي” مع المعسكر الاشتراكي. انعكست هذه الأزمة التي استفحلت جراء الحصار الأميركي، على الحياة اليومية للكوبيين. وانبثق ما سمّاه الكاتب بازدواجية السلوك. التنديد بالبغاء والتطلع إلى ممارسته، التنديد بالدولار والركض لكسبه الخ: مجتمع منفصل، وفصامي.
اليوم لا نملك إحصاءات دقيقة لعدد المومسات في كوبا. وإذا كان البعض يتحدث عن 7000 باغية في الجزيرة فالمؤكد أن ظاهرة ما يطلق عليه الكوبيون Jinetirismo هي ظاهرة عينية تمارس يوميا في الخفاء أو في الوضح. لكن أمير فاييه يقدّم رقما يختلف بكثير عما هو شائع: 12787 باغية.
يشير العديد من الكوبيين اليوم إلى أن من الضروري الاختيار بين كسب المال وفقد ماء الوجه (المال والأخلاق) في زمن أصبح فيه المال إلها باطشا له القدرة على سحق القيم الإنسانية.

المعطي قبال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى