الشركات حين تؤسس جامعات
ماك مارغوليس
إرسال طالب طموح إلى الجامعة هو طقس عبور محبَّب في الأسر الغربية. لكن في الاقتصاد العالمي، حيث تقود القوّة الدماغية إلى صعود الشركات أو سقوطها، اكتسب التعليم العالي معنى أوسع وطابعاً ملحّاً جديداً. تُعلِّم جامعة Corporate Hydropower University في موسكو مديري المصانع كيف يستخدمون تكنولوجيا التربينات وديناميات الدوران لتأمين الطاقة بفاعلية لملايين الزبائن المتعطّشين لها. وينبغي على المهندسين في جامعة بتروبراس في ريو دي جانيرو أن يُتقنوا أسرار ضخ النفط المدفون على عمق 7000 متر في المحيط الأطلسي. لا وجود للمماشي التي يعترش فيها نبات اللبلاب ولاحتفالات الجمعيات الطالبية؛ بل ما نراه في هذه الجامعات هو الحاضِنات ومعدّات افتراضية للتنقيب عن النفط وصفوف متنقِّلة لعمّال المواصلات في حافلات السكّة الحديد. لم تعد الكلّية الأم كما كانت من قبل.
اليوم، تُعتبَر جامعات الشركات القطاع الأسرع نمواً في التعليم العالي. فقد تضاعفت أعدادها أكثر من مرّتين في العقد الأخير، وتصل الآن إلى 4000، وفقاً لأنيك رونو-كولون، رئيس “المجلس العالمي لجامعات الشركات”. يدرس أكثر من أربعة ملايين شخص في جامعة تابعة لشركة، وتشير بعض التقديرات إلى أنّ عدد الملتحقين بهذه الجامعات قد يفوق قريباً عدد الطلاب في الجامعات التقليدية. فأكاديمية الشركة التي كانت تُعتبَر من قبل ترفاً يقتصر على الشركات الخمسمئة الأولى التي تصنّفها مجلة “فورتشن”، أصبحت الآن ممارسة معيارية إذ يتباهى كل عمل يحترم نفسه بامتلاكه حرماً جامعياً أو مشاطرته حرماً جامعياً مع شركات أخرى. خلافاً للجامعات التقليدية، لا تمنح جامعات الشركات شهادات في شكل عام (على الرغم من أن عدداً كبيراً منها يقيم شراكات مع جامعات تقليدية تمنح شهادات)، فتركّز بدلاً من ذلك على مقرّرات دراسية مكثَّفة وقصيرة المدى وُضِعت خصّيصاً لتعزيز مهن محدّدة واختصاصات معيّنة في مجال الأعمال. يصفها رونو-كولون بأنّها “مساحات من التعليم التطبيقي لتحريك استراتيجيات الأعمال”.
ليس المفهوم جديداً. فمنذ عام 1961 ترسل سلسلة “مكدونالدز” مساعدي طهاة جدداً لإعداد البرغر في جامعة الهمبرغر في أوك بروك في إيلينوي. لكن مع توسّع فرص السوق، ازداد أيضاً الطلب في مكان العمل. يجب أن يتمكّن الموظّفون من التواصل والعمل في فرق. أصبح التحرّك بسهولة في ثقافات متنوِّعة مهماً الآن بقدر إتقان ميكانيكيا الكمّ. وفي بعض البلدان حيث فشل التعليم التقليدي في قاعة التدريس، تجد الشركات نفسها تدرِّس القراءة والكتابة. وتثبّت شركات أخرى لدى موظّفيها تفاصيل دقيقة عن الاستراتيجيا واللوجستيات والتكنولوجيا يستغرق اكتسابها عادةً سنوات من التجربة المباشرة. في كل مكان، يجعل الاقتصاد الذي يزداد تقدّماً منحنى التعلّم الخاص بالشركات أكثر فاعلية. يقول مايك ستانفورد من “الكلية الدولية لتطوير الإدارة” في لوزان في سويسرا “لم يعد هذا مشروعاً للتباهي. تتعامل الشركات بجدّية أكبر بكثير مع فكرة أنّ التعلّم والتطوير هما أداتان تنافسيتان. الأعمال التي لا تقوم بذلك لن تحصد القدر نفسه من موظّفيها”.
أكاديميات الشركات منوَّعة تماماً مثل العلامات التجارية التي تمثّلها. تملك شركات عريقة مثل “جنرال إلكتريك” و”سيمنز” كليات في مختلف أنحاء العالم تحجب بَصْمتها الإمبريالية. جامعات “موتورولا” الدولية متطابقة وصولاً إلى الألواح السوداء ولون الأثاث، في حين أنّ “جي دي إف-السويس” لامركزية إلى حد كبير إلى درجة أن جامعتها في باريس لا تستطيع فرض البرامج المحلية في فروعها المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، بل تكتفي فقط بممارسة تأثير عليها. وجامعة “أوبورونبروم” الروسية (يونايتد إندستريال كوربوريشن) جامعة متنقّلة جداً تُرسل فرقاً من المدرِّسين لتنظيم حلقات دراسية لمدّة يومين وثلاثة أيام في 20 مصنعاً مختلفاً لتجميع المروحيات والطائرات. استخدم عملاق قطع الكمبيوتر الصيني “هيواوي” المهندس المعماري النجم نورمان فوستر لتصميم مجمّعه الجامعي المؤلّف من أربعة مبانٍ في بيجينغ. وجامعة “ديل” افتراضية بالكامل، بما يتلاءم مع طابعها.
ليس مفاجئاً أنّ بعض الأمثلة الأبرز عن جامعات الشركات موجودة في آسيا الناشئة وأوروبا الوسطى وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وقلّة منها تقدّم ما تؤمّنه جامعة “إنفوسيز”. فبوجود مهبطَين للمروحيات، وملعب كريكت محترف، ومسبح مرصَّع بأشجار النخيل، ومجمّع سينما يضمّ ثلاث شاشات داخل قبّة جيوديسية مزوّدة بمرايا، يبدو “مركز إنفوسيز التعليمي العالمي” في دلهي وكأنّه يجمع بين “مركز إبكوت” من “ديزني” ولاس فيغاس. والمجمّع الذي بلغت كلفته 120 مليون دولار يطغى على منشآت ألعاب الكومنولث الجديدة في دلهي – ويجري العمل حالياً على توسيعه بكلفة تصل إلى 150 مليون دولار. يملك كل واحد من المجنّدين في المجمّع والذين يبلغ عددهم نحو 14000، غرفته الخاصة ومكتباً للعمل على الكمبيوتر، وهو ترف لا وجود له في الجامعات التقليدية التي تفتقر بشدّة إلى التكنولوجيا في باقي آسيا. يُنجَز الجزء الأكبر من العمل على المقرّرات الدراسية والامتحانات عبر الإنترنت.
لكن ما يبرز بالفعل هو المنهاج الدراسي. يخضع المهندسون الشبّان لبرنامج موازٍ لذاك الذي يُعطى في إطار شهادة الدراسات العليا في علوم المعلوماتية. ومن أجل تعزيز قابلية المجنّدين المستقبليين للتوظيف، تدرّب “إنفوسيز” أيضاً مئات المدرِّسين الجامعيين لتعليم مهارات التواصل وحل المشكلات الأساسية للعمل في أسواق متنوِّعة. يقول رئيس مجلس إدارة “إنفوسيز” كريس غوبالاكريشان الذي يصف حرم الجامعة بأنّه يشبه جامعة أميركية مموَّلة جيداً أكثر منه جامعة هندية بتجهيزات متواضعة “ما نفعله هو ردم الهوّة بين ما تفعله المؤسسات الأكاديمية وما تطلبه الصناعة”.
قبل وقت غير بعيد، ربما كانت هذه الجهود المتطوّرة ستبدو غير ضرورية. فقد كانت للأعمال الكبرى نخبتها من ألمع الأدمغة المتخرّجين من جامعات عالمية الطراز، فهي تجذب المديرين والمهندسين الشبّان وعباقرة تكنولوجيا المعلومات إليها فور تخرّجهم من الجامعة. أما اليوم، فيما تتعرّض التكنولوجيات والوسائل الإدارية الجديدة باستمرار للاختبار والسقوط في بوتقة مكان العمل، أصبحت للأعمال حاجاتها التعلّمية الخاصّة. وبعض المهارات لا يمكن بكل بساطة شراؤها أو الاستعانة بمصادر خارجية للحصول عليها. كل عام، تلفظ الجامعات المهندسين وخبراء الاقتصاد والمديرين، لكن قلّة منهم يتعلّمون التفاصيل الدقيقة في إنتاج الوقود الحيوي أو تجميع الطائرات أو نقل ملايين الأطنان من المعادن الخام عبر المحيطات. فضلاً عن ذلك، يتّجه جزء كبير من القوة العاملة – 50 في المئة من خبراء الطاقة المائية في السويد و45 في المئة من مهندسي النفط في “بتروبراس” – نحو التقاعد، آخذاً معه عقوداً من الخبرة والذاكرة المؤسّسية. يقول ستانفورد “يمكنك أن تذهب إلى كلية لإدارة الأعمال وتتعلّم عن إدارة سلسلة العرض العالمية والقيادة. لكن ما ليس سهلاً هو تعلّم طرق يمكن تطبيقها على مجال عملك”.
والتحدّي أكثر صعوبة في البلدان النامية، حيث تُضطرّ الشركات إلى تعليم موظّفيها القواعد الأساسية نظراً إلى إخفاق التعليم التقليدي. أحد الأسباب التي دفعت شركة “إنفوسيز” الرائدة في مجال برامج المعلوماتية في الهند، إلى إنشاء جامعتها الخاصة هو الواقع الذي تعكسه الدراسات على غرار دراسة حديثة أجرتها شركة “ماكينزي أند كو” وتبيّن فيها أن 25 في المئة فقط من المهندسين الجدد، و15 في المئة من الخرّيجين الجدد في مجالَي المالية والمحاسبة، و10 في المئة من مجموع الخرّيجين الجامعيين جاهزون كما يجب للعمل لحساب شركات متعدّدة الجنسية. يقول فيخاي غوفينداراجان، وهو أستاذ في كلية “تاك” لإدارة الأعمال في دارتموث “يفتقر الناس في الأسواق الناشئة، على الرغم من أنّهم موهوبون في معظم الأحيان، إلى ما يمكن تسميته الميل الأخير المطلوب من أجل القابلية للتوظيف. فهم يفتقرون إلى مهارات التواصل، ولا يجيدون العمل في فرق، ويعتمدون على النظريات إلى أقصى الحدود، ويُلقَّنون بأن يكونوا شديدي الطاعة. هذه مشكلات يتعيّن على الشركات تصحيحها”.
في البرازيل، الفراغ في المهارات أكثر دراماتيكية بعد. فغالباً ما يفتقر العمّال الكادحون، حتى في أكبر الشركات، إلى التعليم البدائي. يقول ديسيي ريبيرو، مدير التعليم في “فايل” التي تعطي دروساً داخل حافلات السكك الحديد في شبكة السكة الحديد الشاسعة في البلاد “ليس تعليم الرياضيات واللغة البرتغالية جزءاً من عملنا الأساسي، لكن نظراً إلى الشوائب في النظام التعليمي، غالباً ما نُضطرّ إلى تأدية ذلك الدور”. والوضع أسوأ في فروع “فايل” في الخارج، كما في الموزامبيق وكاليدونيا الجديدة، حيث كان على الشركة تعليم عمّال المناجم مهارات التنقيب الأساسية وتدريب المموّنين المحليين على إدارة الأعمال.
لمعالجة هذا الأمر، تقود بعض الشركات نظامها التعليمي نزولاً عبر سلسلة التعلّم. تختار “إنفوسيز” مجنّدين لامعين إنما سيّئي التدريب في معظم الأحيان، وتحوّلهم تقنيّين عالميي الطراز في جامعتها. يدخل المجنّدون في “سيمنز”، شركة التكنولوجيا والطاقة المتعدّدة الجنسية التي تتخذ من ميونخ مقراً لها، المدارس الثانوية – وحتى في بعض الأحيان، المدارس الابتدائية – لتوليد اهتمام لديهم بالعلوم والرياضيات.
لكن التعليم الذي تؤمّنه الشركات هو أيضاً عارض من عوارض التقدّم. ففي وقت غالباً ما تؤدّي فيه الشركات الدور الريادي في التكنولوجيا والابتكار، ثمة أمور لا تستطيع أي مدرسة أو كلّية أن تعلّمها.
فعلى سبيل المثال، لا تستطيع أي كلية هندسة أن تتفوّق على معارف “فايل” في مجال استخراج المعادن الخام من الغابة المطرية القاسية في الأمازون. كما أنّ “بتروبراس” توشك على التنقيب عن النفط في أماكن لم يسبقها أحد إليها، على عمق ألفَي متر في البحر و5000 متر في الصخر والرمال والملح. يقول ريكاردو سالوماو، المدير العام للموارد البشرية في جامعة بتروبراس “لا نحتاج إلى مهندسي نفط وحسب، إنما أيضاً إلى مهنيين متمرّسين في مجال احتياطيات الكربونات الميكروبية. لا يُعرَف الكثير عن هذا الميدان في أيّ مكان”.
تعود الاستثمارات في التعليم بثمارها. يسيطر العملاق البرازيلي الآن، ولا سيما بفضل ريادته في استخراج النفط في المياه – الذي أصبح جزءاً من المنهاج الأساسي في جامعة بتروبراس – على 24 في المئة من العمليات في أعماق المياه. وفيما يبدأ بالضخ من احتياطياته الجديدة في أعماق المياه، سوف يحتاج إلى إضافة 8000 إلى 9000 موظف جديد بحلول سنة 2015، متجاوزاً إلى حد كبير العدد الذي يتخرّج من الجامعات. عبر إعادة تثقيف المجنّدين وصقل مواهب الموظّفين الشبّان، تقفز جامعة “إنفوسيز” فوق النظام التعليمي الهندي المشوب بالعيوب لتحويل خرّيجين في اختصاصات أخرى مهندسي برامج معلوماتية، مما أدّى بدوره إلى رفع النمو الشديد في عائدات الشركة من 20 إلى 40 في المئة في السنة.
ليس الجميع سعيداً بهذا الترتيب. لا يريد عدد كبير من الأكاديميين التقليديين أن يسمعوا بوضع “الجامعة” و”الشركة” في الجملة نفسها، ويزعمون أن الأعمال تستعبد الجامعات من أجل الدافع الربحي. اشتكى الأكاديميون في أوستراليا بمرارة شديدة من أنّ جامعات الشركات هناك تعيد اختراع علاماتها التجارية مستخدمةً أسماء مثل “مراكز القيادة”، كما يقول رونو-كولون. لا شك في أنّ هناك حججاً وافية للدفاع عن العلم لأجل العلم. لكن في اقتصاد تحفّزه المعرفة أكثر فأكثر، حيث الموهبة نادرة وتتقدّم جامعات الشركات بوتيرة أسرع من الجامعات التقليدية، تبدو الاحتجاجات أكاديمية أكثر فأكثر.
ترجمة نسرين ناضر
( مراسل في مجلة “نيوزويك”)