مدونون مغتربون!
السيد يسين
تعجل عدد من المدونين المصريين الخروج من الظلال الكثيفة للفضاء المعلوماتي، وقرروا أن يقفوا بكتاباتهم تحت ضوء شمس الواقع الحي المعاش.
وهكذا نشرت دار نشر قاهرية لإحدى المدوِّنات مدونتها بعنوان “عايزه أتجوز”، ثم فاجأتنا دار نشر أخرى، بالاشتراك مع دار نشر ثالثة، بنشر مجموعة مختارة من المدونات، جمعها وعلق عليها كل من محمد كمال حسن ومصطفى الحسيني.
عنوان الكتاب له دلالة وهو “عندما أسمع كلمة مدونة أتحسس مسدسي”، وهذه العبارة الشهيرة هي “لجوبلز” وزير دعاية النظام النازي، والذي سبق أن قال “حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي”، وذلك لشكه العميق في الثقافة والمثقفين.
غير أن استخدام كمال حسن ومصطفى الحسيني لهذه العبارة لم يكن موفقاً. لأنه يوحي بأن المدونات شيء بالغ الخطورة، وكأن السلطة السياسية سترتعد هلعاً حين تقرأها!
وقد قرأت الكتاب بعناية، وإن كان في جلسة واحدة. وتأكد لي انطباعي الذي سبق أن سجلته في مقالاتي الماضية عن التدوين والمدونين، وهو أن أغلب المدونات، خصوصاً هذه التي تتضمن نقداً سياسياً للأوضاع الراهنة، تتسم بالركاكة الأسلوبية وبالفقر المضموني!
غير أن الكتاب الذي نتحدث عنه والذي يضم 25 مدونة تم اختيارها من 100 مدونة، لا تضم إلا مدونات نشر فيها أصحابها تأملاتهم في الحياة ومشاعرهم الذاتية. وليس فيها ما يستحق التحليل سوى المدونة الأخيرة “حكاوى آخر الليل” لأحمد شقير لأنه استخدم فكرة الجيل ببراعة شديدة، واستعرض لنا ذكرياته عن الوطن في مجالات السياسة والثقافة والآداب والفنون. وقد استطاع أن يرسم لوحة جميلة حقاً، مليئة بتفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية.
أما باقي المدونات فمن الصعب أن تستوقفك أي منها، سواء كتبها شاب أو شابة، باسم حقيقي أو باسم مستعار. وكنت أتمنى لمن جمعوا هذه المدونات أن يحققوا نوعاً من التوازن بين المدونات الذاتية والمدونات السياسية، حتى تكتمل لدى القارئ صورة المدونات والمدونين على اختلاف اتجاهاتهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف نحلل هذه المدونات بطريقة علمية؟
لقد علمتنا نظريات علم اجتماع المعرفة أن المنهج الأمثل في دراسة النصوص هو ربط النص بالسياق الذي أنتج فيه. بعبارة أخرى لو كنا ندرس نظرية ليبرالية محددة ظهرت في المجتمع المصري، أو نظرية اشتراكية أو نظرية قومية، فلا يمكن فهمها بغير الدراسة الدقيقة للسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نشأت في رحابه. كذلك الحال بالنسبة للمدونات، فلا يمكن تحليلها إلا في ضوء السياق السياسي والاقتصادي والثقافي الذي نشأت في ظله. وأهم ما يميز هذا السياق أن مصر تمر بمرحلة تحول ديمقراطي، أي الانتقال من السلطوية كنظام سياسي إلى الليبرالية، وهي المرحلة التي اصطلحنا على تسميتها بالإصلاح السياسي. وأبرز ملامحها التعديلات الدستورية التي سمحت لأول مرة في التاريخ المصري المعاصر بأن تكون الانتخابات على منصب رئيس الجمهورية تنافسية. وتمت فعلاً هذه الانتخابات التي أعيد على أساسها انتخاب مبارك رئيساً للجمهورية.
غير أن بعض التعديلات الدستورية، وأبرزها نص المادة 76، أحدثت جدلاً شديداً بوضعها لشروط تعجيزية أمام المستقلين، لو أراد أحدهم ترشيح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية.
والملمح الثاني البارز هو حرية الصحافة غير المسبوقة، والتي سمحت بإصدار جرائد مستقلة وحزبية تمارس حرية التفكير والتعبير دون قيود، مما جعلها تتعرض بالنقد ليس فقط للسياسات الحكومية، ولكن لطبيعة النظام السياسي ذاته وتوجهاته الأساسية.
والملمح الثالث البارز هو تطبيق أحكام قانون الطوارئ، مما خلق أوضاعاً سلبية في مجال حقوق الإنسان، أصبحت محل انتقاد من الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
والملمح الرابع هو التطبيق المنهجي للخصخصة، وما ترتب على ذلك من اتهامات فساد بسبب غياب الشفافية في كثير من الصفقات، بالإضافة إلى تسريح آلاف العاملين تطبيقاً لأحكام المعاش المبكر. وأدى ذلك إلى رفض شرائح واسعة من الرأي العام لهذا البرنامج.
والملمح الخامس هو تصاعد وتيرة الاضرابات والاحتجاجات التي نظمتها فئات متعددة، من العمال والموظفين والصحفيين وأعضاء الحركات الاحتجاجية الجديدة، ونشطاء المجتمع المدني.
والملمح السادس هو ارتفاع الأسعار بغير حدود، وارتفاع معدلات التضخم مع تدني الأجور عامة، مما خلق مناخاً من عدم الرضا لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بل الحكم على السياسات الحكومية بالفشل.
إذا حاولنا أن نجمع مفردات السياق الراهن الذي تكتب في ضوئه المدونات المختلفة في بنية متكاملة، لخلصنا إلى أننا أمام سياق يتسم بالاستقطاب الحاد بين أنصار السياسات الحكومية، وهم في الواقع قلة تتمثل في أعضاء مجلس الشعب الذين عادة ما يصوتون بالموافقة على مشروعات الحكومة، حتى لو كانت ضد مصالح الطبقات الشعبية، وبين قوى المعارضة السياسية وفئات المواطنين البسطاء الذين يحسون بأن السياسات الحكومية تهدد وجودهم الإنساني ذاته، لأن بُعد العدالة الاجتماعية ليس داخلاً في صميم خطة الإصلاح الاقتصادي، كما أن إحساس صناع القرار بمعاناة ذوي الدخل المحدود، ضئيل للغاية. ولا يترجم في شكل سياسات متوازنة، لا تحابي الأغنياء على حساب الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
هكذا نخلص إلى أنه لكي نفسر ونُوئل المدونات بشكل عام، فنحن بحاجة ماسة لرسم خريطة اجتماعية وثقافية للمجتمع المصري، حتى تظهر التضاريس الأساسية والملامح البارزة، والتي هي أساس فهم اتجاهات الرأي العام المصري حالياً.
غير أننا لو ركزنا على تحليل المدونات الذاتية، فلابد من توصيف سوسيولوجي دقيق لحالة الانتقال التي يمر بها المجتمع المصري، وربما كان المعلم البارز لهذه الحالة هو شيوع ظاهرة اختلال القيم، أي غياب معايير أخلاقية للحكم على ضروب السلوك المختلفة.
بعبارة أخرى ضياع اليقين في مجال القيم، حيث أصبح الشك في قيمة أي ممارسة اتجاهاً سائداً لدى الشباب، مما أدى إلى ظاهرة الاغتراب التي عمت المجتمع وأفقدت الشباب انتماءه.
ولذلك ليس غريباً أن نجد أغلب المدونات زاخرة بالكتابات العبثية، ولا تتضمن سوى النقمة على كل شيء في المجتمع. وهي في الواقع إعلان جهير عن اليأس من الحياة، بعدما زادت معدلات البطالة، وأصبح الشباب المصري لأول مرة في التاريخ الاجتماعي المصري مهدداً في وجوده ذاته! فليس هناك عمل، وليس هناك سكن، بعد أن ارتفعت أسعار المساكن إلى أرقام خيالية، وليس هناك زواج، وبالتالي ليست هناك رؤية إيجابية إزاء المستقبل.
ومعنى ذلك أن اختلال القيم، والفوارق الطبقية الهائلة، وتقسيم المجتمع المصري إلى منتجعات هنا وعشوائيات هناك… هي الأسباب الكامنة وراء نظر الشباب بغضب إلى المستقبل لأنه لا مكان لهم فيه.
ومن هنا الأهمية الكبرى لدراسة رؤى المستقبل لدى الشباب. والواقع أننا بحاجة إلى أن نعرف كيف يدرك الشباب الماضي بأحداثه، وكيف يشخصون الحاضر وكيف ينظرون إلى المستقبل.
إدراك الشباب للماضي يثير في الواقع موضوعاً على أكبر قدر من الأهمية وهو الذاكرة التاريخية.
وقد نكتشف أنه لقصور شديد في التنشئة الاجتماعية وفي نظام التعليم، فالذاكرة التاريخية للشباب المصري مشوشة.
ومن ناحية أخرى ينبغي في دراسة تشخيص المدونين للحاضر أن نعرف هل يمتلكون حقاً أدوات التحليل العلمي المناسبة، أم أن دراستهم للحاضر ليست سوى مجموعة من الانطباعات المتعجلة، والتعميمات الجارفة.
وتبقى نظرتهم للمستقبل. والسؤال: هل حقاً يفهم الشباب التغيرات الكبرى في بنية المجتمع العالمي، والآثار السياسية والاقتصادية والثقافية المترتبة عليها؟
لا يمكن الإجابة على هذه التساؤلات إلا من خلال البحث العلمي، وهو ما بدأناه في إطار “المرصد الاجتماعي” بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حيث ندرس التدوين والمدونين، وكذلك الاحتجاجات الجماهيرية.
وبنظرة بسيطة سنكتشف وجود علاقة وثيقة بين التدوين السياسي والاحتجاج الاجتماعي الجماهيري.
جريدة الاتحاد