صفحات أخرى

موسم في مكة «حكاية حج»: للانتروبولوجي المسلم عبد الله حمودي

مدينة جديدة من الإسمنت والممنوعات
احمد زين الدين
لعلّ رحلة الحج عند المسلم المتدين التقليدي المطمئن الى دينه، فرصة للتطهّر من ذنوبه. ومن المفترض خلوها من أي عنت او ضيق صدر، ومن أي مساءلة ذاتية حول ما عزم عليه من أمر، بل قيام المسلم بداهة، بما يفرضه خياره هذا عليه من أحكام وواجباتٍ، غير طاعن بجدواها ودورها. ومن التزامات صارمة، وأوامر، وأفعال يحتذي خطاها ويحفظ قواعدها، ويؤديها أداءً دقيقاً، على أكمل وجه، من دون تلكؤ، او إخلالٍ بأحد أركانها، مهما كان بسيطاً أو ضئيلاَ. بيد أنّ الحال تختلف عما شخّصناه، حين يروم القيام برحلة (بواجب) الحج باحث انتروبولوجي مسلم، يقارب إسلامه مقاربة منفتحة على العصر والحداثة، مثل الكاتب المغربي عبد الله حمودي الأستاذ في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأميركية، وصاحب العديد من المؤلفات، على رأسها: «الضحية وأقنعتها» و«الشيخ والمريد» وسواهما. فحمودي عندما شدّ الرحال إلى البيت الحرام عام 1999م ـ 1419هـ إنما عقد العزم على وضع هذه التجربة، وما عاينه واختبره وأحسه، في إطار دراساته ومشاغله الأنتروبولوجية، من دون ان يتخلى عن واجبه في أداء هذه الفريضة. والجمع، او الموازنة بين المهمتين: ممارسة الطقوس، وتفحّصها، على ما بينهما من فروقات والتباسات فكرية ووجدانية، أفضت الى إشكاليات عديدة، تؤلف خيوطها المتواشجة نسيج هذه التجربة التي عبّرعنها حمودي في كتابه او مذكراته عن رحلة الحج.
فالكاتب المختلف والمتبصّر العميق في عمله، يأتي إلى المشاعر المقدسة بخلفيةٍ كوّنتها قراءات نقدية، صدرت عن ثقافات غربيةٍ عاش في كنفها، وتداول مناهجها ومناحيها، وعمل في ظلّها وتشجيعها. وتبنّى بعضها، وصرف نظره عن بعضها الآخر او رفضها، وأضيف كل ذلك الى مخزونه التراثي والمحلي المغربي. ومنحته الخبرة الأنتربولوجية القدرة على اتخاذ مسافة من العيّنة او الحالة المدروسة، مسافة تحرّر، قدر الممكن، الذات المراقِبة من محمولاتها الدينية والإيديولوجية والحضارية. فحمودي مسلم، وإن كان قد انقطع عن ممارساته الدينية منذ زمن المراهقة. وهو كأنتروبولوجي مضطّر الى نوعٍ من المكاشفة الذاتية، وإلى تفحّص ما هو مكوّن من مكوّناته الفكرية والوجودية. وإذا كان زملاؤه من الأنتروبولوجيين الغربيين يعبرون المسافة بين العيّنة الإسلامية المدروسة ومقاربتها أنتروبولوجياً عبوراً تلقائياً وطبيعياً، حيث هم يحتكّون في هذه الحال، بحضارةٍ أخرى، ودينٍ مختلفٍ عنهم. فإن عبور حمودي محفوف بالاضطراب والريبة والشُبهة. والمتدّين فيه مضطّر إلى أنْ يتخلى عن مكانه للأنتروبولوجي، أو بكلام أدق، ان ينازعه عليه. وهو عندما يباشر طقوس الحج، انما يباشرها، كما لو انّه ينتمي إلى دينٍ آخر، على ما يبوح به. لكنّ عملية الإغضاء عن الهوّية الموروثة التي يشكل الدين بطقوسياته دعامة أساسية من دعائمها، اوالانسلاخ عنها ليست بالأمر اليسير.
فلا فكاك من ماضٍ، حاضر في وجوه الحياة وفي الألسنة والأعراف، يجب الانطلاق منه. ويترتّب عليه مسار يتجاذب الأنتروبولوجي فيراوح بين حريته واختياره وإرادته وتمثّله الذاتي، من جهة، وبين خضوعه وولائه لماضٍ يلتصق به، لكنه غريب عن هواجس الحاضر وطرائق مقاربته وتفعيله، من جهة أخرى. وإذا كان ما يسعى إليه الحاج العادي هو تثبيت خياره الصحيح المفضي إلى الشهادة بصحة إيمانه وعقيدته، والتماس الطريق الحقيقي إلى خلاصه الأخروي، فإنّ ما ينتاب حمودي هو الإحساس بضرورة التأمّل في ما وراء هذا الركوع والتضرّع والتلبية والطواف. هو التأمّل في علاقة الإلهي بالبشري، وعلاقة الدنيا بالآخرة. فرحلته بهذا المعنى تحمل غايتين اثنتين هما: الرغبة في الحقيقة والمعرفة، والرغبة في امتحان الذات، بنوع من مسارة «initiation» بما هي هجرة روحية وانتقال وسفر، واصطراع داخل النفس، قبل العودة إلى الذات بصيغتها الجديدة.
افتراضات وأصول
مهمة حمودي حاجاً وأنتروبولوجياً ليس الحفر في طبقات وأشكال الطقوس الملموسة والمرئية، والكشف عن رواسبها الوثنية أو الدينية غير الإسلامية، كما يفعل عادةً رحّالة أو باحثون انتربولوجيون أجانب زاروا الديار المقدسة، ووقفوا على مناسك الحجيج، ونبشوا الطبقات القديمة المتوارية في أعماق التاريخ ورواياته الأسطورية. فحمودي هاهنا، لا يتطرّق لا من قريب ولا من بعيد، إلى ما دوّنه الرحّالة أو الأنتروبولوجيون من آراءٍ وافتراضات بوجود عناصر تهتكيّة إخصابية أو تعزيمية، قديمة في الحج الإسلامي، كما تنحو إلى ذلك مذاهب استشراقية شتى. في حين انه لم يتوان في كتابه «الضحية وأقنعتها» عن الردّ على مزاعم باحثين ومستشرقين، تناولوا احتفالات عيد الأضحى في المغرب، فقدح بآراء وسترمارك الذي قرن وظيفة المساخر أو الأقنعة التي تعقب عيد الأضحى بفرضية استمرار بقايا من وثنيةٍ عتيقةٍ، تتوافق مع إعادة بناء افتراضي عن دينٍ أمازيغيٍ بدائيٍ، وفنّد روايات عن أصولٍ يهودية أو مجوسية، أو احتفالات قضيبية إغريقية، عُزيت جميعاً إلى هذه الاحتفالية الرعوية التنكّرية، مبرزاً المنحى الإيديولوجي لهؤلاء المفتشين عن دين ضائع او مطموس خلف واجهة إسلامية، ومحيطاً بنزعاتهم الكولونيالية التي ترمي الى إفراغ الديانات الشرقية من مضامينها. وإذ لاحظ في «الضحية وأقنعتها» المراقبة المتعنّتة التي تمارسها السلطات العمومية على أماكن العبادة، فإنه في كتابه «موسم في مكة» لاحظ الأمر نفسه، واحتجّ على تحول الحجّ إلى مؤسسة ترعاها وتقنّنها الدولة. وانتقد إدارة الدين عبر سلطةٍ رقابيةٍ وعظيةٍ، تحول دون العلاقة المباشرة الشخصية مع الله. وهو إذ يرفض إخضاع طقوس الحجّ لمصالح ومؤسسات سلطوية، وإلى تأويليةٍ صارمةٍ لا تدع مجالاً لنهوض اي مفهوم أو رؤيةٍ مخالفة أو منافسة. إنما يحاول عبثاً إيجاد إسلام جوهري جواني، لا تشوبه شائبة من أثر صراع أو خلاف لاهوتي. وهو في هذا المقام، ينتقد الحداثة المؤسلمة، كما تمثّلها النسخة السعودية الوهّابية، والنسخة الإيرانية الخمينية اللتان تشبهان الصيغة السوفياتية السابقة، وتعملان كعقل وحداني على حصر أشكال التديّن، وحصر المجتمعات في شِباك هذا العقل المستبد الكلياني الطاغي، الذي يستقطب منطق الثنائيات، مثل: الأنا المؤمن والآخر الكافر، والحلال والحرام، والأصالة والتقليد. و يؤمّن حراسة حدود الفصل والتمييز بين المرأة والرجل، بواسطة المواعظ والنصوص المستهلكة، المتوجّسة على الدوام من خرقه. وموضوع الفصل يثيره حمودي في العديد من الأحيان، ويذكّرنا بإلحاف الدعاة، وتشبّثهم بهذا الأمر، وتلقين الحجاج ضرورة مراعاته، بوصفه أساساً جوهرياً يتطابق مع استقامة المعتـقد الذي يحـــتكر هؤلاء الدعاة معــرفته أصولاً وفروعاً.
عندما يمّم حمودي وجهه شطر الديار المقدسة، حمل معه صورة عن مدينة متخيلة نسجتها مطالعاته. مدينة التاريخ الغارقة في شجون رسالتها الدينية، فوجد أمامه مدينة تعولمت وتعصرنت وتأمركت. «مدينة جديدة من الإسمنت والممنوعات» ص 106. وجد في المدينة المنورة قلباً يخفق بشعبتين: المسجد والسوق. ولم يعثر على «يثرب». وفي مكة لم يجد مدينة الحلم والطوبى، بل وجد «قطعة من نيويورك». ومع ذلك ظلت الصورتان المتخيّلة والواقعية تتزاحمان في فكره.
الدمع المحبوس
ورغم هذا التمازج أو الانصهار الظاهري، الذي يشتهر به موسم الحجّ، فإنّ عين الأنتروبولوجي اليقظة تكشف وراء لغة الشعائر العربية الواحدة لغات ورطانات أخرى، وخصوصيات في الأزياء والطعام والأذواق. ورغم أنّ «أناه» العقلانية تستسلم في لحظات لفتنة الحشود، وفتنة المقدّس، حتّى تكاد عيناه ان تطفرا بالدمع تأثّراً أحياناً، إلاّ انّ عقل الباحث يتغلب على انفعالاته، فيكبت دمعه، ليبحث، من دون جدوى، عن الداعي لهذا الموقف الوجداني، أو المعنى المختبئ خلف دمعه المحبوس. فالعزاء المباح لسائر الحجّاج، ممتنع عليه. وحالة التناغم هذه مع الآخرين حالة ملموسة ومحدّدة، لكنّه يقرّ بعجزه عن تأويلها، ويعيش حالة التفرّد ساعياً إلى كشف المستور من المعاني التي تحتجب خلف الكلمات والسلوك الشعائري، مقتفياً أثر الأنتروبولوجي كليفورد غيرتز في أطروحته الكبرى «تأويل الثقافات» باعتباره الرموز الدينية لا تبني أنظمة دينية واجتماعية تشكّل رؤية كونية شاملة فحسب، إنّما تصدّر كذلك أوامر، ونحن البشر نولد، ونكوِّن ذواتنا تحت سلطتها، ووفق ما تقيمه من تراتبيةٍ وأدوارٍ طقوسيةٍ، وما يناظرها من أدوارٍ اجتماعية. ومن هذا المنظور تظهر معاني الرموز والحقائق التي تترجمها، أبعد من أن تكون أوصافاً جاهزةً مرتبطةً بعالم المُثل. وأقرب إلى أن تكون حصيلة جهد وسلطة معرفيتين، كما في عبارة حمودي في «الشيخ والمريد» ص 10.
يُمعن حمودي النظر في كيفية الاستغراق في هذه الشعائرية ومعايشتها، مع ما تحمل من مفارقاتٍ حادةٍ أحياناً، في التصرفات والسلوك. أمّا السعيّ إلى معرفة الأصول البعيدة لهذه المناسك فتنكفئ لمصلحة البحث عن المعاني الثاوية في داخل شعائرية الحج. وهو يتجاوز الوصف ليستعيد سياقاً حيّاً حيث الفعل الشعائري يصنع لنفسه معناه. وبقدر ما يحلّل حمودي الأفعال الملموسة ويضعها في إطار التنظيم الاجتماعي الموجّه لها، فإنّه يقوم بعمله كملاحظ أنتروبولوجي. وبقدر ما يستبطن أفعاله على ضوء مرجعيته الموروثة، فإنه يبرز هويته، ويمارس دوره المرسوم كمسلم. على أن لا حدود ولا فواصل واضحة أو مخفية بين الملاحظ والممارس. وحمودي في الحالين معنيّ بالتحرّي عن إمكانية تميّز الذات وتحرّرها من ثِقل حضور الأب المتحكّم بها، والذي يمثّله التاريخ والموروث.
في لحظة الإحرام تنفتح أمام حمودي حقائق الجسد. وفي الدخول إلى مكــة يكتشف كيف أن الجسد الذي تستحوذ عليه القدسية الزمانــية والمكــانية، يعيش انقطاعاته وتحولاته، وهو ما ينفك ماثلاً في الفكــر، خوف الانزياح عن الحدود المرسومة له، في تلك اللحظات الحاسمات. وحيث ممارسة العالم هي ممارسة الجسد، فلا شيء يفلت من إحداثياته.
ويعجب حمودي أثناء تقديم الأضاحي، كيف أنّ الكتلة البشرية تدمّر الكتلة الحيوانية باسم الله. وعليه يرى أنّ العنف يقطن في قلب الشعائر، ويحسب أنّ كلّ ذبح يضع حدّاً لحياة، هو فعل عنف وجريمة قتل. وفي قلب الممارسة الشعائرية تفاجئه هذه الشهوات المكبوتة في نفوس الحجيج، وهذه الرغبة السافرة في تقديم المصلحة الذاتية والدنيوية على التطّهر الروحي المرتجى عادة من هذه الرحلة.
÷ «حكاية حج ـ موسم في مكة» عبد الله حمودي، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ـ دار الساقي.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى