صفحات أخرى

“ويكيليكس” عالم من دون أسرار

في شهر نيسان من هذه السنة 2010، نشر موقع “ويكيليكس” على الشبكة الالكترونية، شريط فيديو مدته 37 دقيقة يحمل إسم “Collateral Murder” التقطته كاميرا مثبتة على مروحية أباتشي أميركية، يصور عملية تصفية نفذتها القوات الأميركية في العراق في صيف عام 2007، وأدت إلى مقتل 12 مدنياً عراقياً، بينهم صحافيان من رويترز. بعدها قام الموقع في شهر تموز من هذه السنة، بنشر 92 ألف تقرير تحت عنوان “يوميات الحرب في أفغانستان”، أردفها في تشرين الثاني بنشر 400 ألف وثيقة عن الحرب في العراق، أحدثت ضجة هائلة لما احتوته من معلومات سرية مسربة من داخل الجيش الأميركي وتشير الى الممارسات والتجاوزات الكثيرة، التي يقوم بها هذا الجيش وقوات التحالف في افغانستان والعراق.
وهكذا تحول موقع و”يكيليكس” الى أهم مصدر للمعلومات والوثائق السرية في العالم. وبات يعتبر العدو الاول للأنظمة والدول والمؤسسات العسكرية التي تسعى جاهدة لاخفاء الحقائق عن الناس. لكن الأهم أيضاً هو التحدي الكبير الذي طرحه الموقع على الصحافة المكتوبة ودورها، لا سيما الصحافة الحربية التي تحولت مع مرور الزمن الى ناطق رسمي باسم الجيوش والأنظمة، والى ناشر للرواية الرسمية التي تريد الحكومات والجيوش ترويجها، بعدما تخلت عن مهمتها الأساسية في تقصي الحقائق على الأرض والبحث عنها في أفواه الضحايا وليس في أفواه الجلادين.
تمثل تجربة موقع و”يكيليكس” ثورة حقيقية في مجال تبادل المعلومات ونقلها، فهي نتاج التطور الهائل الذي طرأ على وسائل الاتصالات وفي مجال الثورة المعلوماتية والتوظيف الذكي والخلاق لهذه التكنولوجيا في خدمة الكشف عن الحقائق السرية ووضعها في متناول أكبر عدد من متصفحي المواقع الإلكترونية. وقد تحول الموقع في غضون أربعة أعوام إلى أهم منبر تنشط من خلاله المجموعات المناهضة للحروب، والمعادية للفساد، واستغلال السلطة والمال والنفوذ، على حساب حياة الأفراد والمجتمعات، مما جعله يواجه حربا شرسة مع ذوي السلطة والنفوذ، حيث قامت دول كثيرة بمنعه وحظره على أراضيها، وحاولت دول أخرى مثل الولايات المتحدة ملاحقة المسؤول عنه. ولكن الأمر كان مثل مطارد الأشباح، إذ كيف يمكن وقف تدفق المعلومات من الموقع وتعطيل أجهزة كومبيوتر تعمل من أماكن عدة في العالم، ويقوم بتشغليها مجموعة من المتطوعين المجهولي الهوية، الذين لا يتقاضون مالاً عن عملهم؟ وما السبيل الى منع الآلاف من البشر الذين تتيح لهم مهنتهم معرفة العديد من الأسرار القذرة التي لا يرضى عنها ضميرهم، من اظهار حقيقة ما يحدث؟

نشأة الموقع وتطوره
تأسس موقع “ويكيليكس في عام 2006 من مجموعة غير ربحية تحمل إسم “sunshine press”، وضم الموقع عدداً من المدافعين عن حقوق الإنسان، ومن الصحافيين المتخصصين في صحافة الاستقصاء، ومن التقنيين في مجال المعلوماتية. ويقال إنه كان للمنشقين الصينيين دور كبير في تأسيس الموقع. وقد خصص الموقع صفحة خاصة يمكن ارسال الوثائق عبرها بصورة سرية للغاية، وبعدما يجري التأكد من صدقيتها، مما يستغرقه أسابيع عدة من الدراسة والتقصي من جانب مجموعة متخصصة، يقوم رئيس تحرير الموقع بنشرها.
يقع المركز الأساسي لـ”ويكيليكس” في السويد، لأن القانون السويدي يمنح الحصانة للصحافة ويجيز لها عدم الكشف عن مصادرها، لكن هناك وجود للموقع في عدد لا يحصى من دول العالم. وتقوم سياسة الموقع على عدم نشر وثائق غير موثوقة، ولا تُقبل سوى الوثائق ذات الأهمية السياسية، والدبلوماسية، والتاريخية أو الأثنية. ولا تجري عملية النشر إلا بعد التأكد من صحة المعلومات، اذ تقوم مجموعة من المدققين من ذوي التخصصات المتنوعة، وتتقن لغات مختلفة، بالتحقق من خلفية مسرِّب المعلومات في ما اذا كانت هويته معروفة، والتأكد من صحة المعلومات التي احتوتها بالاستقصاء عنها على الأرض ومن خلال مصادرها الأصلية. ويقع القرار الأخير بالنشر على عاتق المسؤول عن الموقع جوليان أسانج، الشخصية المثيرة للجدال.
نجح الموقع بعد عام من إطلاقه في تجميع قاعدة معلومات وبيانات تحتوي على مليون وثيقة. ويبلغ عدد المتطوعين العاملين فيه نحو 1200 متطوع. وللموقع هيئة استشارية يترأسها أسانج وتتألف من شخصيات عامة معروفة.
يحتاج الموقع اليوم لتغطية نفقات 2010 المالية الى نحو 200 ألف دولار، تُصرف في شكل خاص على (servers) وعلى العمل المكتبي البيروقراطي، ولكن من المتوقع أن يرتفع حجم النفقات الى نحو 600 ألف دولار.
يستخدم الموقع عدداً من البرامج مثل ميديا – ويكي، وفري – نت، وطور، وبي جي دي.

جوليان أسانج… من القرصنة الى “مطارة الحقيقة”
سلطت الضجة الكبيرة التي أثارها موقع “ويكيليكس” الأضواء على مؤسس الموقع والمسؤول عنه جوليان أسانج. وتعددت الأوصاف والاسماء التي اطلقت عليه، من ” الرجل الذي يخيف سي آي إي” الى “روبن هود في غابة البنتاغون” الى “مطارد الحقيقة” و”صانع التاريخ” و”النبي الملعون” إلخ.
وبالتأكيد ليس أسانج رجلاً عادياً. فهذا الأوسترالي البالغ من العمر 39 عاماً، له ماض استثنائي حافل. هو إبن لعائلة من الممثلين المسرحيين، لم يعرف في طفولته الاستقرار نظراً إلى تنقل أسرته الدائم، ولم يتردد على مدرسة عادية، فتعلم عبر المراسلة وكان لديه ميل خاص الى العلوم. واشترى أول كومبيوتر محمول عندما كان في السادسة عشرة من عمره.
بدأ القرصنة على الشبكة العنكبوتية في سن مبكرة، واتخذ لنفسه إسم”ماديكس”، واكتسب شهرة كبيرة لكونه اكثر الاشخاص القادرين على التسلل الى البرامج الأكثر تعقيداً. تزوج في سن الثامنة عشرة، واستطاع في سن العشرين أن يتسلل الى شبكة شركة تلكلوم الكندية. ُوجهت اليه أكثر من 31 تهمة قرصنة كومبيوتر، وأُحيل الى المحاكمة حيث اعترف بغالبيتها.
في عام 2006 ، عزل نفسه عن العالم وبدأ بوضع نوع من المانيفاست تحت عنوان” السلطة التآمرية”، رأى فيه أن الأنظمة التآمرية ترتكز على نظام من السرية على حساب الجماعات البشرية، وان في الإمكان مواجهة هذه الأنظمة بالتسلل الى أسرارها والسماح للمعلومات بالخروج الى العلن. وهكذا تصبح التسريبات أهم سلاح لمواجهة الأنظمة الفاسدة، واكثر سبيل لمعرفة الحقيقة.
يعيش أسانج “حياة البدو الرحل” متنقلاً ما بين مطارات العالم، وهو يتعرض حالياً الى حملة تشويه للسمعة، بعدما وجهت اليه تهم عدة بالتحرش الجنسي. لكن ذلك لا يثنيه من المضي قدماً في مشروعه.

تحدي الصحافة المكتوبة
اكثر الأسئلة المطروحة الآن: من أين يستقي الموقع معلوماته؟ ما هي صدقيتها؟ في المدة الأخيرة جرى الكشف عن شخصية الجندي الأميركي الذي سرّب الوثائق عن عمليات الجيش الأميركي في العراق، وجرى توقيفه. ولكن اجمالاً، تبقى هوية المسربين للمعلومات سرية، ويمتنع الموقع عن نشر أي وثيقة قبل التحقق من صدقيتها. وحتى الآن لم يتبين أن الموقع قد نشر اي وثيقة زائفة.
ولعل أكبر دليل على صدقية الوثائق التي يقوم الموقع بنشرها، الإتفاق الذي عقدته أهم ثلاث صحف في العالم وهي:” الغارديان” البريطانية، والـ”نيويورك تايمز” الأميركية، و”دير شبيغل” الألمانية، على حصرية مشاركة الموقع في نشر الوثائق حول الحرب في أفغانستان، التي تُظهرالكثير من الحقائق، مثل تصفية المدنيين، وتورط باكستان في الهجمات على قوات التحالف في أفغانستان، ودور بن لادن، والوجود السري للإيرانيين في أفغانستان، ووجود فرقة سرية أميركية متخصصة في القاء القبض على زعماء طالبان وتصفيتهم. وحصول طالبان على صواريخ متطورة أرض – جو، وغيرها من التفاصيل السرية وغير المعروفة عن هذه الحرب.
وفي رأي صحيفة “الغارديان”، ان التقارير التي نشرها موقع ويكيليكس عن الحرب في أفغانستان ” ترسم صورة للصراع تختلف تماماً عن الصورة العامة التي تنشرها وسائل الإعلام الرسمية في بياناتها”. ووفق الصحيفة، تحتوي وثائق الموقع على عدد من الحوداث التي تسمى”أزرق – أبيض”، أي مواجهة بين مسلحين ومدنيين عزل، على سبيل المثال، قيام الجنود الفرنسيين باطلاق النار في عام 2008 على حافلة كانت تقترب من قافلتهم، مما ادى الى اصابة ثمانية أولاد بجروح. وكثيرة هي الحوادث التي تقع بين أعضاء قوات التحالف أنفسهم وتسمى”أزرق-أزرق” ، أو بين قوات التحالف والجيش الأفغاني. لكن اخطر تهمة موجهة ضد باكستان هي مساعدة قوات طالبان على تنفيذ هجمات ضد قوات التحالف. وقد أدى نشر هذه المعلومات الى إحراج كبير للسلطة السياسية في باكستان التي تعتبر نفسها حليفة للأميركيين.
ويقول عدد من المسؤولين عن موقع ويكيليكس أن الـ”السي.آي.إي” قد كلفت 120 شخصاً لمحاربة الموقع وملاحقة المسؤولين عنه. وهذا في حد ذاته يعكس الانزعاج الكبير للأميركيين مما ينشره الموقع.
وطرح موقع ويكيليكس ايضا تحدياً حقيقياً على الصحافة المكتوبة التي ظهرت، على الأقل في ما يتعلق بالوثائق حول حرب أفغانستان والعراق، صحافة ملحقة بالأنظمة وبالقيادات العسكرية، ولسان حال ناطق باسمها. ويبدو أن الصحف الكبرى تخاف من قول الحقيقة كي لا تتعرض للمقاطعة والمعاقبة من اصحاب النفوذ، وربما أيضاً لأن من يملك الصحف اليوم هم أنفسهم من كبار اصحاب الشركات ورجال الأعمال المتورطين مالياً في الحربين الدائرتين في أفغانستان والعراق.
الرسالة الأكيدة التي حملها موقع ويكيليكس الى أرباب السلطة في العالم ، أن لا أسرار بعد اليوم في العالم الجديد للاتصالات. ولم نعد في حاجة بعد الان إلى الانتظار أعواما طويلة حتى تكشف وزراة الدفاع أرشيف حروبها أمام الناس لمعرفة الحقيقة. ومع ثورة التسريبات الإلكترونية، باتت معرفة الحقيقة اليوم برسم الجميع، وخصوصا برسم الشعوب والجماعات الضعيفة التي تتحول حياتها في كثير من الأحيان الى مجرد رقم في حروب الكبار.

رنده حيدر
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى