كتاب أصول الاستبداد العربي
عرض/ عوض الرجوب
أهم ما يميز كتاب “أصول الاستبداد العربي” أنه غني في معلوماته والمعطيات التي يوردها بشأن مسألة تمثل حجر الرحى في التأخر العربي، والاتجاه نحو متاهات وسراديب من التناحر والقطيعة والضعف والهزيمة.
واستطاع، مؤلف الكتاب الباحث الفلسطيني زهير مبارك، أن يسرد، وفق قراءة تحليلية معمقة، لإشكالية الاستبداد في العالم العربي، طارحاً كل المواقف والمدارس والاتجاهات التي تناولت هذه “المفردة” بالاستعراض والتحليل والنقد. ليقدمها إلى القارئ العربي، ليدرك مخاطر الاستبداد وكيفية السبيل إلى مواجهته والقضاء عليه.
-الكتاب: أصول الاستبداد العربي
-المؤلف: زهير مبارك
-عدد الصفحات:300
-الناشر: مؤسسة الانتشار العربي, بيروت, لبنان
-الطبعة: الأولى/ 2010
وتسعى الدراسة إلى حسم إشكالية وجود استبداد عربي أم عدمه، كما تسعى إلى معرفة ماهية الأصول التي بلورته، وإلى أي مدى يوجد علاقة بين هذه الأصول. وتحاول معرفة دور بطانة الحاكم في تكريس الاستبداد، ومعرفة ماهية اتجاهات الأصول الاستبدادية، وهل هي أصيلة كجوهر للذات العربية، أم أنه تم استيرادها.
يرى مبارك أن الاستبداد أعلى مراتب النفي الذاتي للشعوب على مستوى العالم ككل وعلى المستوى العربي بشكل خاص، فحالة الشعور بالقمع المتجسد في الذات من قبل الآخر تعيق التقدم، وتسبب ضموراً في الإنتاج. وبالتالي، فإن الاستبداد -وفق الكاتب- يساوي الجمود بجميع صوره الفكرية والإبداعية والإنتاجية، ويصادر حرية الأفراد تحت ذرائع ومسميات تبريرية عديدة.
ويؤكد الكاتب في دراسته ذات الفصول الستة أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هي علاقة مضطربة تقوم على فرض الطاعة تلبية لخدمة الحاكم، وإخضاع المحكومين لإرادته ومتطلباته دون الأخذ بعين الاعتبار مصالحهم، ولا طبيعة التعاقد الإنساني ما بين الطرفين.
ولذا -يتابع المؤلف- ما زالت الأنظمة العربية تمارس القمع والاستبداد كحق لها، فتستنفر قواها، دائما، حفاظا على وجودها؛ لأنها تعلم أنها فاقدة للشرعية. فهي تمارس الاستبداد باسم الأمن العام، والمصلحة العليا للوطن. وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان هناك تراكمات، وأصول سعت هذه الدراسة للكشف عنها مبينة عناصر التراكم فيها.
الإطار النظري
تضمن الفصل الأول (الإطار النظري للاستبداد) عرضا لجوانب من أوجه ذاك النظام السياسي القائم على احتكار السلطات والانفراد بالرأي والتعسف، وجوانب من مظاهره وآثاره السلبية على المجتمعات التي تبلى به.
وجاء الفصل في ثلاثة أقسام؛ سعى الأول منها إلى محاولة تحديد المصطلح لغة ودلالة، من خلال إحداث مقاربة عامة للاستبداد، وهو ما اقتضى التعريج على بعض المعاجم والموسوعات من معان وتعريفات للاستبداد. بينما تطرق القسم الثاني إلى أبرز من تطرق للاستبداد عالميا.
وفي القسم الثالث، من هذا الفصل، تناول المؤلف مجموعة من المفكرين العرب أصحاب التوجهات المختلفة، سواء من الداعمين للاستبداد أو الرافضين له.
وخلص إلى أن الاستبداد يمارس من قبل الفرد أو الجماعة على السواء، فالحاكم المستبد يدير ظهره للمحكومين غير مكترث لمصالحهم لأنه يهتم ببقائه واستمراريته، فهو فوق القانون بل القانون نفسه، فيحاسب ولا يحاسب. ويتصرف في الحكم بشكل مطلق وهذا يؤدي إلى التعسف والتحكم والاستعباد والسيطرة التامة على المحكومين.
ووفق المؤلف فإن تفسير الاستبداد في الفكر الغربي أو العالمي ارتبط بمدى تطبيق القانون والتقيد به.
أما عربيا فقد ظهر للاستبداد السياسي معنيان؛ الأول يقابل الشورى بما تحمل هذه الكلمة من غموض، والثاني يقابل المشاركة في الحكم من العصبية الواحدة المتغلبة.
التأثر العربي
في الفصل الثاني (أركيولوجيا الاستبداد العربي) عالج المؤلف في أربعة أقسام أرضية الاستبداد تاريخيا، فتطرق الأول إلى طبيعة العلاقة بين العرب مع جارهم الإمبراطوري الفارسي الروماني، مشيرا إلى حالة التبعية العربية كأداة ضاربة للإمبراطوريات، ومدى التأثر العربي من نظام الحكم عند السيد.
وفي القسم الثاني، ركز المؤلف على طبيعة الواقع الاجتماعي القائم في مكة حيث التراتب القبلي القائم على العصبية، وحالة تجذر الظلم بين طبقات القبيلة، وهو ما أدى إلى ظهور حالة من التمرد من قبل أفرادها المسحوقين باحثين عن العدالة المفقودة.
في القسم الثالث، تعرضت الدراسة لحالة التفاعل الجدلي القائم بين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وقبيلة قريش في ظل السعي الحثيث محسوب الخطوات لنسف النظام القبلي، وهو ما أدى إلى ترتيب الخطوات لهذه الخطوة المهددة لأسياد قريش.
أما القسم الرابع، فركز على مرحلة دخول الوفود إلى الإسلام والنظرة القائمة على القوة، فالقبيلة الأقوى التي تخضع سواها لهيمنتها وقرارها.
وخلص إلى أن حالة التأثر العربي بالجوار الإمبراطوري بلغت حد التبعية في كثير من الأحيان؛ حيث مثلت الممالك العربية الذراع العسكري للفرس والروم، مما انعكس على طبيعة الحكم في هذه الممالك، التي اصطبغ حكمها بالاستبداد كما هو الحال عند الفرس والرومان.
واستنتج أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) واجه العقلية القبلية القائمة على سيطرة العصبية الأقوى. وعمل على إحلال الدين مكان العصبية القبلية، منتهيا إلى أن الدين بحد ذاته، لم يكن يشكل تحديا لقريش، بل نسف المكانة السيادية لهم، وهو ما كان يؤرقهم.
أحداث السقيفة
في الفصل الثالث (نظرية الحكم بين المثالية والسياسة) بين الكاتب جينولوجيا المنطلقات التي قامت بعد وفاة النبي محمد عليه السلام، وبروز مفاهيم جديدة كأداة من أدوات الصراع السلطوي.
فالقسم الأول تناول حالة الجدل بين الدين والقبيلة، والثاني خاض في تطور الحكم من أبو بكر حتى علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) متطرقا إلى الدور العصبوي في طبيعة اختيار من يحكم، مع مناقشة مفاهيم “الإجماع”، والشورى”، و”أهل الحل والعقد”.
وفي القسم الثالث، تحدث المؤلف عن بروز مفهوم “الفتنة” بعد مقتل عثمان بن عفان (رضي الله عنه) مستعرضا الصراع على السلطة ووقوف المسلمين إلى جانب الفرقاء كل لغرض في نفسه.
وخلص إلى أن أحداث السقيفة لم تكن تمثل حالة عابرة من الصراع السلطوي؛ بل نقطة أساسية من استمرار هذا الصراع؛ ففي الوقت الذي يجهد فيه الأنصار لإقحام الدين في معادلة المفاضلة بين الفرقاء السياسيين، كانت قريش تسعى لإبقاء الواقع القبلي على حاله.
الخلافة والإمامة
تضمن الفصل الرابع (نظرية الإمامة-تقديس بلا قداسة) الأصول التي بنيت عليها نظرية الخلافة السنية بعد وصول الأمويين للحكم، ونظرية الإمامة كمفهوم التصق بالشيعة.
وتعرض المؤلف بداية إلى اللحظة الحرجة التي انتقل فيها الحكم الإسلامي من مرحلة الخلافة إلى الملكية بما تحمل من ولاية العهد، والتبرير لها، وما رافقها من تنظير لبطانة معاوية (رضي الله عنه) لضرورة ذلك.
وفي القسم الثاني، بحث في أصول الشيعة، مع التركيز على الشيعة الإمامية التي أعطت الإمام القداسة، على أساس أن الإمامة تمثل الركن الخامس عند الشيعة، وبالتالي رشقها بالقداسة التي أصبحت بمكانة النبوة، وفي بعض الأحيان أعلى درجة وسموا.
وخلص إلى أن معاوية منذ اعتلاء سدة الحكم، سعى إلى تعزيز ركائزه واستمرارية بقائه، ولهذا منح ولاية العهد لابنه يزيد. وقد أظهر هذا الأمر حالة من الرفض لدى المعارضين لحكمه والموالين لعلي مما أدى إلى ظهور الإمامة التي قامت بالأساس نتيجة الصراع على السلطة.
الخضوع والطاعة
خاض المؤلف في الفصل الخامس (النص بين المثالية والفقه والتأويل) في الصراع الفكري الذي ظهر لحسم الصراع على السلطة.
ففي القسم الأول منه تناول مفاهيم القدرية، والجبرية، والطاعة، حيث مثلت الجبرية مبدأ الحكم الأموي المستبد على أساس أنه من الله ليس للبشر دور فيه. وفي المقابل، كانت القدرية التي رفضت مبدأ الجبر انطلاقا من أن الإنسان مسؤول عن أفعاله.
وحدد هذان الموقفان الخضوع والطاعة للحكم القائم، أو رفض الانصياع له، لأنه يمثل التفافا على الدين الذي حمل أكثر مما يحتمل.
ثم جاء القسم الثاني، لدراسة دور الفقه في التأصيل للاستبداد، وذلك بالمحافظة على الوضع القائم درءا “للفتنة” وبقاء الحامي للدين، فزوال الحكم يعني ضياع الدين، وهذا ما يمكن تسميته بفقه الاستبداد الذي استبد الفقه الباحث عن الحلول في مناطق سكوت النص.
ثم تعرض في القسم الثالث إلى ما اصطلح عليه الآداب السلطانية من خلال التطرق إلى مجموعة من هذه الكتابات كأحد أصول الاستبداد، فهي التي أعطت الحاكم المستبد تبريرات وجوده، وركزت على وجوب الطاعة بحيث يظهر في هذه الآداب أن المحكومين وجدوا لخدمة الحاكم وليس العكس. بطانة الحاكم
في الفصل السادس (بطانة الحاكم ودورها في تعزيز الاستبداد) درس المؤلف الأسس النظرية التي شكلت بطانة، أو حاشية الحاكم وطبيعة دورها، كما تم التطرق إلى أحد أطراف هذه البطانة المتمثلة في مثقف السلطة.
فقد بحث في القسم الأول طبيعة البطانة، ودورها كتابعة للحاكم، وأقسامها المباشرة وغير المباشرة، والفرق بينهما. ثم تعرض في القسم الثاني، لمثقف السلطة كأداة من أدوات الحكم كما يقول ابن خلدون، والبحث في أصل المثقف الإسلامي ككاتب للديوان، ومن ثم كمبرر للاستبداد. بعد ذلك عالج الفصل الثالث دور المثقف في التبشير لمفهوم المستبد العادل، انطلاقا من أنه يمكن أن يكون الحاكم مستبدا وعادلاً في الآن نفسه، ولهذا قام هذا القسم بتفنيد هذا المفهوم الذي يقود إلى تكريس الاستبداد من خلال إعطائه شرعية الاستمرار تحت مظلة العدل.
وخلص المؤلف في هذا الفصل إلى أن الفقهاء مارسوا الفقه السياسي بما يؤدي إلى تضييق الحرية وتعزيز الاستبداد، مشيرا إلى تطعيم الدين بفكر مستورد مظهرينه من الدين، مما عزز الاستبداد وأعطاه بعدا دينيا.
وانتهى المؤلف إلى أن مثقف السلطة قد يكون من خطر بطانة الحاكم، ولكنه ليس الوحيد، فالبطانة متشعبة في جميع الاتجاهات، منها المباشرة كالندماء، والأقرباء، والجيش، والمخابرات، وغير المباشرة كالإعلاميين، والكتاب، الذين هم امتداد لكتاب الدواوين، يقومون جميعا بخدمة السلطة وحكمه المستبد.
خلاصة
في نهاية كتابه، يسرد زهير مبارك ملاحظات يرى أنه لا بّد من الوقوف عليها. ومن أهمها:
أولاً: إذا أراد العرب الخروج من الاستبداد فإن ذلك ممكن، لأنه ليس في طبيعتهم، مستشهدا بمجيء الإسلام، وقيام الحركات الفكرية التي تدعو إلى حرية العقل رغم حالة السحق التي منيت بها.
ثانياً: لا بد من إعادة النظر في وجهات النظر السائدة على صعيد الفكر وتحديدا السياسي. فهو وإن وجد ليعبر عن مرحلة ما، فهو لا يعني بقاءه جاثما على عقولنا فارضا إرادة الحكم المستبد.
ثالثاً: مبدأ الخوف هو المبدأ السائد في العالم العربي. فالحاكم يمارس الخوف باسم الحفاظ على النظام، ورجل الدين يمارس الخوف باسم الحفاظ على الدين، والمثقف يقمع المجتمع باسم محاربة التخلف. كل الأطراف تتحمل المسؤولية في استمرار الاستبداد، فثقافة الاستبداد هي الثقافة السائدة في ثنايا البناء الاجتماعي العربي على مستويي الحاكم والمحكوم.
رابعاً: إن حالة السيطرة الغربية ودعم الاستبداد يأتي في الوقت الذي يقدم فيه الحكام المستبدون الخدمات بكل يسر للاستعمار، وهو ما كان قديما وما زال حديثا.
الجزيرة نت