صفحات أخرى

من (المشرق) إلى (البغدادية): ظاهرة القنوات المطرودة من بلدانها!

محمد منصور
ثمة ظاهرة لافتة في الفضاء التلفزيوني العربي اليوم… يقف المرء أمامها بشيء من التأمل متعاطفاً وأحياناً متعجباً… ألا وهي ظاهرة القنوات المطرودة من بلدانها!
فهناك قنوات يحصل أصحابها على تراخيص من بلدان عربية مجاورة أو بلدان تسمح قوانينها بالعمل الإعلامي الحر… ويعودون إلى بلدانهم بهدف العمل والتفاعل مع مناخ إعلامي جديد، ساعين إلى البحث عن هوية خاصة لقنواتهم، من خلال الانتماء إلى الواقع المحلي ومحاولة تصويره… لكنهم لسبب أو لآخر، وبسبب أخطاء مهنية أو حساسيات سياسية أو تربصات رقابية، يصلون بعد فترة قصيرة إلى مرحلة الصدام النهائي مع الوضع الإعلامي القائم… الأمر الذي يؤدي إلى إغلاق مكاتبهم، ومنعهم من العمل!
آخر الأمثلة على هذه القنوات المطرودة من بلدانها: قناة (البغدادية) العراقية التي أغلقت السلطات مكاتبها في العراق… وهناك قبل ذلك قناة (شام الفضائية) لعضو مجلس الشعب السوري محمد أكرم الجندي، التي أوقفت قبل بدء بثها، فهاجر بها صاحبها إلى مصر لتلفظ أنفاسها الأخيرة هناك… ثم قناة (المشرق) المرخصة في دبي لرجل الأعمال السوري غسان عبود، التي صدر قرار بإغلاق مكاتبها ومنع طاقمها أو ما تبقى منه، من العمل الميداني في سورية.
والحق أن قناة (المشرق) التي لم تلفظ أنفاسها بعد، خسرت كثيراً بعد منعها من العمل في سورية… فقد أثارت بعض الاهتمام في بدايات انطلاقها بسبب طابعها السوري الذي جعلها خياراً مشاهداً في الفضاء العربي، للاطلاع على لون آخر من الإعلام التلفزيوني السوري التوجه، يختلف في كثير أو قليل على ذلك اللون الذي يقدمه التلفزيون السوري بقنواته المختلفة، والذي لا حاجة لنا الآن لتعداد مفاخره ومنجزاته الأثيرة، لأنه ليس مجال حديثنا الآن… لكن (المشرق) بعد أن منعت حاولت أن تعوم في الفضاء العربي، فبدت باهتة وتائهة… لأنها ببساطة لن تستطيع أن تنافس محطات عربية كبرى، تتجاوز إمكانياتها بكثير ما تملكه قناة (المشرق)، ناهيك عن الضعف الفاضح في كادرها التحريري، وغياب كادر إعداد حقيقي يمكن أن يصوغ رؤية جديدة لتوجهاتها، أو الوفاء لهويتها القديمة بخوض تحديات جديدة من أجل تثبيتها!
من جهتها لم تتأثر قناة (البغدادية) كثيراً بقرار طردها من العراق… لأن إغلاق مكاتبها، لم يمنع كاميراتها من أن تتجول في الشارع، ولم يحل دون أن تبقى اهتماماتها، هي الشأن العراقي في الخبر والتغطية والتقرير والصورة واللقطة، مع الاستفادة من مركز إدارتها في مصر، ومن مكتبها المدعوم في دمشق.. ومن مئات الآلاف من العراقيين المهجرين في بلدان الجوار واللجوء، وبينهم فنانون وشعراء وإعلاميون، قادرون على التواصل مع القناة وتغذية برامجها بمساهماتهم العراقية كضيوف ومعلقين ومؤازرين يكرسون هويتها الوطنية…. لكن مشكلة (البغدادية) فقط، هي أنها جعلت من قرار إغلاق مكاتبها في العراق (كربلاء جديدة) لا تخلو من ندب وعويل وإطلاق شعارات تضامنية انتحارية… وراحت تستعرض ببلادة مملة (من دون اختزال وتكثيف) كل المقالات التي كتبت للتضامن معها، عبر قراءتها على الشاشة كاملة من بابها إلى محرابها، على خلفية صورة بطيئة الحركة للمقال الصحافي المقروء، لم ينجح فنيو الغرافيك من معالجته بصورة بصرية لائقة، تمنع أحرفه من الاهتزاز المزعج على الشاشة!
أصحاب هذه القنوات من رجال الأعمال أو المستثمرين الذين يعملون خارج إطار بلدانهم، ظنوا أنهم يقدمون بهذه القنوات خدمة لبلدانهم، فإذا بهم يكتشفون أن النوايا الحسنة لا تصنع إعلاماً وطنياً مرحباً به، هذا إذا قبلت الجهات الإعلامية الوصائية بمبدأ حسن النوايا أصلاً، في ظل الحديث الدائم عن البعد التجاري لتلك القنوات، وعن سعي أصحابها للربح والاستثمار، في صناعة تمنح أصحابها من المال ـ إن نجحوا- ما تمنحهم من الشهرة إن كانوا يبحثون عنها!
في المحصلة وأيا كانت ملابسات طرد تلك القنوات من بلدانها، ينبغي الاعتراف بأن هناك غياباً واضحاً للحرفية في أدائها، يجعل التعاطف معها حين تتعرض لحملات عقابية نوعاً من التعاطف الشعاراتي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار أصول المهنة ومتطلباتها… فرغم تعاطفي مع قناة (البغدادية) مثلاً… إلا أنني لا يمكن أن أنكر أنها ليست بالتأكيد واحدة من القنوات العشر أو العشرين الأولى المشاهدة في الفضاء العربي، وأن هناك الكثير من الملاحظات الجدية على أدائها وصورتها يجعلها بعيدة كل البعد عن إثارة التعاطف المهني العلمي… لكننا نتعاطف معها بالتأكيد من منطلق رفض مبدأ المنع والتضييق على وسائل الإعلام عموماً، حتى تلك التي نختلف مع توجهاتها!
لكن أقسى ما تطرحه ظاهرة القنوات الفضائية المطرودة من بلدانها، أنها تؤكد أن الوطن بالنسبة لأي محطة ليس ترخيصاً يمنح من الخارج، أو اشتراكاً في أقمار صناعية… أو مكاتب متنقلة هنا وهناك… أو حتى مراسلين منتشرين في الأرجاء الفسيحة.. الوطن بالنسبة لقنوات انطلقت من طموحات وأحلام محلية… هو هوية ووجع وانتماء وشارع مفتوح أمامنا، نتوغل في قراءة مشكلاته بحرية، حتى نبقى لصيقين بالبشر الذين ننتمي إليهم… وهذا ما نعمت فيه بحق القنوات اللبنانية والمصرية، وإن كانت هذه الأخيرة أكثر رصانة وعمقاً من شقيقاتها اللبنانية المنقسمة بطائفيتها على صورة الوطن الواحد!
برنامج (البلد بارك) يرجى أخذ العلم فقط!
وأبقى في ظاهرة القنوات الممنوعة من العمل في بلدانها… إنما من خلال نموذج تطبيقي لأحد البرامج الجديدة التي أطلقتها قناة (المشرق) مؤخراً وهو برنامج (البلد بارك) للإعلامي السوري أيمن عبد النور، صاحب موقع (كلنا شركاء) الإلكتروني، وهو في الأساس رفيق بعثي، هاجر ليطلق موقعه الإلكتروني من دبي… وليحقق من خلاله حضوراً لا بأس به، رغم التحفظات التي تأخذها عليه السلطات الإعلامية السورية بين الحين والآخر.
في الحلقة الأولى من برنامج (البلد بارك) يطل أيمن عبد النور مقدماً ومعداً بحيوية وطلاقة رجل شعبي ينجح في أن يكسر رهبة الكاميرا بخلط العامي بالفصيح، وتقديم إيقاع حيوي في الأداء… إنما من دون أن يقنعنا بشخصية مقدم البرامج التلفزيوني المحترف، الذي يتحكم بنبرة صوته، ويفصحن الكلمة العامية ما أمكن، بدل أن ينطق الكلمة الفصيحة بنبرة عامية كما يفعل رجل الشارع العادي في الاستطلاعات التلفزيونية.
وهو على صعيد التعامل مع صيغة الإعداد التلفزيوني، يقدم لنا صيغة عشوائية أقرب ما تكون إلى الارتجال، رغم أن طاولته تمتلئ بالأوراق، ومسار البرنامج يوحي بوجود نص مكتوب… لكنه مكتوب بلا دراية تلفزيونية… بلا تنسيق جيد للأفكار في سياق تحليلي يعرف أين يبدأ وكيف ينتهي.. وماذا يريد أن يقول في النهاية.
اختار أيمن عبد النور موضوع فكرة (نقل العاصمة من دمشق إلى حمص) عنواناً للحلقة الأولى من برنامجه، الذي أراد فيه كونه صحافيا مهاجرا أن يعود للالتصاق بقضايا الوطن، كما هي حال القناة أيضاً.. وأجرى بحثاً موفقاً على صعيد ما كتب عن هذه الفكرة في الصحافة، أو ما واجهته من تعليقات إلكترونية من قراء مجهولين… إلا أن ما يصح في الانترنت لا يصح على الشاشة… فرغم أن البرنامج ليس على الهواء إلا أن مقدم البرنامج أدخل لنا اتصالات لأناس مجهولين، لا نعرف سوى اسمائهم الأولى، من دون أن نعرف ما هي وظيفتهم أو موقعهم من الإعراب… ومن أين يتصلون…. وهذه تفصيلات قد تبدو هامشية، لكنها في واقع الحال من صميم التقاليد التلفزيونية في مناقشة قضية محددة في برنامج حدد لنا موضوع الحلقة.
أما المشكلة الأبرز… فإن كل الخبراء أو الشخصيات المعروفة الأخرى التي استضافها البرنامج تمت استضافتها هاتفياً… في دلالة على صيغة برنامج فقير، غير قادر على استضافة ضيف واحد على الأقل في الأستوديو لبث الحيوية في صورة الحوار الدائر… وحتى عندما أشار في الفقرة الأخيرة من البرنامج إلى ما أسماه (المغترب السوري المتميز المهندس المعماري بشار نجاري) من سويسرا… وقال إنه سيستقبله… كان الاستقبال هاتفياً فقط!
وبعيداً عن كل هذه التفصيلات والمآخذ التقنية التي تنال لا شك من قيمة البرنامج، فقد تابعت حلقة الزميل عبد النور كاملة… وصدقوني أنني حضرتها أيضاً في الإعادة عصر اليوم التالي لبثها… وأنا شخصياً مهتم كوني دمشقيا بهذا الموضوع، سواء أكان مجرد شائعة أم فكرة قيد الاقتراح… لكنني لم أفهم تماماً ماذا يريد أن يقول البرنامج في شأنها… فهو ليس مع ولا ضد… وهو يتحدث عن المزايا والمشاكل، من دون أن يتعمق في مناقشتها… ويتعامل مع الموضوع ببرود تقني يحير المشاهد إن لم أقل: يستفزه… ولا يضيف له سوى (أخذ العلم) عن وجود موضوع أو مشروع أو شائعة من هذا النوع، لها مزايا وعيوب!
طبعاً… أتمنى لبرنامج (البلد بارك) ألا يسير في حلقاته القادمة على نفس النهج… فلا نطال فيه (زيوان البلد) ولا (قمح الجَلب) كما يقول المثل الشعبي!
ناقد فني من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى