منير كيال: مسلسل (الحصرم الشامي) اعتمد على حكايات حلاق ثرثار شبه أمي…
و(باب الحارة) صار مليئاً بالزعران!
قرأ خبر نعيه وروى لنا قصة شائعة وفاته
محمد منصور
لهذا الحوار الذي كان في الأساس مقالة تأبين، قصة طريفة.. فقد قرأت خبراً في أحد المواقع الإلكترونية السورية يفيد برحيل الباحث منير كيال، الذي كنت أقرأ قبل أيام في كتابين صدرا له عن وزارة الثقافة مؤخراً، محورهما دمشق التي أحبها وأخلص لها، ونذر حياته بوفاء نادر لتوثيق تراثها ومواطن الألق والجمال في كل حجر من تاريخها، وكل حكاية من حكايات ماضيها.
بدأت بكتابة المقال، متحدثاً عن رحيل منير كيال بصمت وهدوء، ومشيراً إلى كتابيه الأخيرين (كنايات الشوام في الألقاب والتخاطب والنداء) و(دمشق الشام ذاكرة الزمان) اللذين قدما فيهما إضافة رائعة لكل ما كتبه عن دمشق من قبل، إلا أنني قبل أن أنهي مقالتي اكتشفت أنني لا أملك صورة شخصية للكاتب الذي أنعيه، ورحت أبحث عن رقم هاتف منزله لعل أسرته تمدني ببعض الصور الشخصية، وكانت المفاجأة التي بانتظاري حين كلمت زوجته هاتفياً، أن منير كيال مازال حياً يرزق، وما حدث هو أن أحد أصدقائه، الباحث شمس الدين العجلاني، الذي لم يره منذ فترة، تصادف أن قرأ في احد الشوارع نعيا باسم منير كيال، فاستعجل كتابة خبر عن رحيله، يلوم فيه الوسط الثقافي لأنه لم يهتم برحيل أحد أهم الباحثين في تراث دمشق وكتب قائلاً: ‘صحفنا لم تتذكر هذا العاشق؟ فهي في حوار طويل حول انسحاب هيفاء وهبي من مهرجان السينما.. هل فعلا انسحبت من المهرجان أم أن المغرضين بثوا هذه الإشاعة؟ وحتى كتابه هذه السطور لم تنجل حقيقة انسحاب هيفاء وهبي؟ ويبدو أن الباحث الكبير الراحل منير كيال كان حظه ‘تعيسا’ فرحل في زخم هذا الحوار’.
ورب ضارة نافعة، فهذا الباحث الثمانيني (مواليد دمشق 1931) الذي كان يعيش عزلته الهادئة في بيته الأنيق في ضاحية دمر، مسكوناً بدمشق وتراثها، والذي وصله خبر نعيه وهو على قيد الحياة، انهالت الهواتف فجأة عليه، إما لتعزي أسرته به، أو لتتأكد من صحة الخبر، وكان من بين المتصلين وزير الثقافة رياض عصمت، الذي أراد أن يؤكد أن الوسط الثقافي لم ينس الاهتمام برحيل منير كيال، ربما لأنه لم يرحل بعد!
وهكذا كانت مناسبة هذا الحوار شائعة وفاة تحولت إلى مفارقة، عن اهتمامنا بمناسبات الرحيل ونسيان الأحياء، وكان الحوار مع منير كيال، محاولة للإعلان عن ‘الاستمرار في الحياة’ في فكر كاتب حي، وعاشق طالما علمنا عبر كتبه الكثيرة حب الحياة، والأمانة في توثيق تفاصيلها المبهجة والمتوهجة.
* منذ متى بدأت الاهتمام بتوثيق تراث دمشق؟
* في عام 1957 كنت أدرس في الجامعة السورية ـ قسم الجغرافيا، وكان عندي مشروع رسالة تخرج بعنوان: (فنون وصناعات دمشقية). أنجزت البحث، لكن تأخرت مناقشته لظروف خاصة، وكان أستاذنا الدكتور أمجد طرابلسي وزير الثقافة، فتقدمت به لطبعه في وزارة الثقافة، لكنه رفض نشره بحجة انه رسالة جامعية وهو لا يريد أن يفتح باباً لنشر الرسائل الجامعية، ثم بعد فترة أعفيت من رسالة التخرج وصدر الكتاب عن طريق وزارة الثقافة بعنوان: (فنون وصناعات دمشقية) عام 1961، وقد فتح هذا الكتاب الطريق أمامي لأنه قدمني كباحث مهتم بتراث دمشق. وبعد نشر هذا الكتاب تعرفت إلى الدكتور إبراهيم كيلاني وكان مديرا للنشر في وزارة الثقافة، وقد شجعني هو والدكتور نور الدين حاطوم، كان يقول لي: (اكتب وضع على الرف ولا تهتم بالنشر، إذا كان ما تكتبه مهماً فسينشر وسيقرأه الناس) لكن قبل ذلك كانت هناك جذور لهذا الاهتمام تعود إلى سنوات دراستي الإعدادية، فقد كان لي صديق اسمه خالد دهمان، وكنا ندرس أنا وإياه في مكتب والده: (مكتب الدراسات الإسلامية) في جادة العصرونية قرب سوق الحميدية، وفي هذه الأثناء تعرفت إلى الشيخ محمد دهمان، الذي أخذ يدفعني لدراسة التراث، ثم سلطني على شغلة الحمامات. كان يرسلني إلى المكان الفلاني أو المكان العلاني كي أتأكد من هوية المكان ووظيفته الحالية: هل هو حمام، أم مصبنة؟ هل هو قيد الاستخدام، أم تحول إلى شيء آخر؟
* هل كان كتابك عن الحمامات الدمشقية الذي أصدرته بعد ذلك نتيجة ذلك البحث الميداني؟
* كفكرة نعم، أما كبحث واستقصاء لا، فقد كنت وقتها صغيراً، ولذلك استكملت هذه الرحلة بعد نشر كتابي الأول، وعدت لدراسة الحمامات أواخر خمسينيات القرن العشرين. زرت حمامات دمشق واحداً واحداً وصورتها، بعض الحمامات مثل (حمام السلسلة) في الكلاسة، وحمام (الرفاعي) في الميدان لم يكن أصحابها يقبلون بدخولي، كان يخشون أن يقال ان حماماتهم أثرية، وتأتي الدولة لتضع يدها عليه وتمنعهم من العمل وتقطع رزقهم، ومرة ضربت قالوا لي: (شو انت جاية تخرب بيتنا)، لكنني مع ذلك لم أيأس، وتابعت الاستقصاء الميداني ووضعت كتاباً شاملا يروي تاريخ حمامات دمشق التي اشتهرت بها حتى النصف الثاني من القرن العشرين، ونشرت وزارة الثقافة الكتاب عام 1964، ثم عاودت الجولة الميدانية مرة أخرى بعد ربع قرن، فوجدت ما يقارب ثلثها قد توقف عن العمل أو تخلى عن وظيفته في استقبال الناس، فوثقت هذا التحول مرة أخرى، وكيف تحولت بعض الحمامات النفيسة إلى مستودعات، ونشرت صوراً لكثير من الحمامات في الطبعة الثانية من الكتاب الذي أصدرته على نفقة الخاصة في الثمانينيات بعد نفاد الطبعة الأولى التي صدرت في الستينيات.
* هل وجدت مشكلة في إقناع المؤسسات الرسمية بتوثيق تراث دمشق ونشره؟
* باستثناء (فنون وصناعات دمشقية) ثم (الحمامات الدمشقية) فكتبي الأولى التي مازال يتلقفها الناس حتى اليوم نشرتها على نفقتي الخاصة: (يا شام) و(حكايات دمشقية) و(المرأة في المثل الشعبي) والطبعة الثانية من (الحمامات الدمشقية)، لم أكن أهتم بالمال، كانت هذه الكتب التي توثق لمدينة دمشق أهم عندي من أي مال، ولهذا صدمت كثيراً عندما تقدمت بكتاب (رمضان وتقاليده الدمشقية) إلى وزارة الثقافة، وكانت الدكتورة نجاح العطار مديرة المطبوعات والنشر، وقد حولت الكتاب إلى شخص يسمى (أبا يعرب) شقيق سليمان الخش، فرفض نشر الكتاب، وأعادوه إلي مع الاعتذار، ومصدر صدمتي ليس عدم نشر الكتاب، بل تقرير القارئ المذكور الذي نسيه داخل الكتاب، والذي جاء فيه:
(فكر رجعي، تحليل سقيم، أسلوب دنيء، حمى الله الدمشقيين من هذا الأفاق). وقد ذهبت حينها إلى الدكتور فوزي كيالي وكان وزير الثقافة، وقلت له: (أنتم أحرار في عدم نشر الكتاب لكن لا أسمح أن يقال عني هكذا) فقال لي: (ومن قال عنك ذلك) فأخرجت له تقرير أبا يعرب، فقال: (كيف وصل هذا إليك). وفي المحصلة قمت بنشر الكتاب على حسابي، ونفدت طبعته الأولى من السوق، ثم أعادت طبعه إحدى دور النشر قبل سنوات، ليصبح المرجع الأساسي في مجاله، لكنني لا أخفيك أن هذه كانت أكبر صدمة تلقيتها في حياتي.
* هل واجهت مشكلات أخرى في نشر دراساتك وكتبك التي استلهمت دمشق وتراثها؟
* الحقيقة أن وزارة الثقافة في السنوات الأخيرة نشرت لي مشكورة، مجموعة مهمة من الكتب التي كنت قد أنجزتها، لكن ما حدث لكتابي عن محمل الحج الشامي أزعجني، فقد كان في الأساس كتاباً ضخماً في حوالي خمسمئة صفحة، ذكرت فيه تاريخ بناء الكعبة منذ ما قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام، والأحداث التي طرأت على البيت الحرام منذ ما قبل الإسلام حتى عصرنا الحالي، ووثقت ذلك من الناحية المعمارية، وناحية الحكم وشؤونه وكيف كانت السلطات في كل العهود تتزلف لمكة كي يتخذوها مبرراً دينياً لحكمهم، وأرخت للمسجد الحرام في كل عهود التاريخ، ثم تحدثت عن محمل الحج في اليمن وفي العراق، ومحمل المغرب ومصر، ثم توسعت في دراسة محمل الحج الشامي لما تفرد به من خدمات كان يقدمها أهل الشام للصناعات اللازمة لموكب الحجيج وانطلاق القافلة، بدءا من العربات والمحايرية ومرورا بماء الورد الذي كانت تغسل به أرض الكعبة وكان يؤخذ من ضاحية المزة المشهورة بالورد منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، والزيت الذي توقد فيه الشموع ثم القناديل وكان يخرج من قرية كفرسوسة الملاصقة لدمشق، وانتهاء بالسكاكر والملبس الذي كان يحمل لتكريم زوار الحرمين الشريفين، ناهيك عن أن المحمل الشامي جلب حجاج تركيا وأوروبا والبلقان كي يتجمعوا في دمشق وينطلقوا مع الموكب، وللأسف تحمسوا لنشر الكتاب حين اختيرت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2006 لكنهم لم ينشروه كاملاً، اختصروه في أقل من مئتي صفحة، وهذا أحزنني لأنني بذلت جهداً استغرق سنوات في رسم الصورة الكاملة لرحلة الحج وتاريخ بيت الله الحرام، لكنهم اعتبروا أن ذلك لا يعنيهم، وقالوا لي: إن السعوديين أولى منا بنشر هذا الجزء.
* إلى أي حد ساهمت نشأتك في أحد أحياء دمشق الشعبية في دفعك للاهتمام بتراث دمشق والذوبان فيه؟
* أنا نشأت في حي الشاغور الدمشقي العريق، طفولتي كانت هناك، تعلمت في كتّاب في الشاغور، كان الكتاب في جامع الشيخ مسعود الذي كان جامعاً كبيراً جداً، وهو الآن صغير، ولا أدري كيف تقلصت مساحته واستولوا على أراضيه، كان أستاذي الشيخ إبراهيم شخاشيرو (الكوسا) وحين أردت الالتحاق بمدرسة أبي عبيدة بن الجراح في الخضيرية، وضعوني في الصف الثالث مباشرة، بعد أن تقاعد والدي الذي كان يعمل سائقاً على الخط الحديدي الحجازي، خرجت إلى العمل، عملت منذ كنت صغيراً، عملت أجير حداد، أجير طيان، في معمل بلاط، بائعاً متجولاً في المدينة والأحياء القريبة منها.. عرفت الناس، سحرتني الحياة الجميلة في دمشق وهذا ترك بصمات لا تمحى في أعماقي، حين حصلت على شهادة الدراسة الابتدائية عام 1946، ذهبت للالتحاق بمدرسة التجهيز الثانية في الحلبوني (ثانوية أسعد عبد الله حالياً) كانت هذه المدرسة التي أنشئت بعد مدرسة التجهيز الأولى (جودت الهاشمي) تحفة معمارية، كنا نرى روعة العمارة ورقي الذوق وتربينا على ذلك، بعد أن حصلت على الشهادة الثانوية التحقت للدراسة في قسم الجغرافيا في الجامعة السورية أتدري لماذا؟ لأن معظم أصدقائي كانوا يريدون دراسة الجغرافيا، لحقت بهم. كانت أيام ألفة ومحبة، وأذكر حين كنا في الجامعة أن هناك فتاة جميلة اسمها (رندة الخالدي) كانت تدرس في قسم اللغة الإنكليزية، وكان الشاعر نزار قباني مغرماً بها، وكان يأتي كلية الآداب كي يلتقي بها ويسمعها شعره.
* في كثير من كتابات الكتّاب اليساريين والقوميين، كانت توصف دمشق في العهد العثماني بأنها مدينة مهملة ومهمشة، وكانت تشتم الفترة العثمانية بضراوة، كيف ترى تاريخ دمشق في العهد العثماني؟
* العثمانيون كانوا يتباركون بالشام، كان محمل الحج يخرج من الشام وكانوا يقولون: (شام شريف) وكان هناك حي خاص بهم هو حي الآغاوات (سوق ساروجة) الذي أسموه (استانبول الصغرى)، ثم إن أهم المشيدات والمباني الأثرية الموجودة في دمشق حالياً هي من العصر العثماني: (التكية السليمانية، الدرويشية، السنانية، جامع محيي الدين بن عربي، إلخ) لقد تركوا بصمة عمرانية رائعة في المدينة، وكانوا يحبون دمشق ويخشون نقمة أهلها، وكان والي دمشق يهز السلطان العثماني. وعلى العموم دمشق لم يجرؤ أحد على تهميشها خلال تاريخها الطويل والموغل في القدم، ولم تهمش إلا في زمن العباسيين، وكان ذلك بهدف لفت الأنظار إلى مدن أخرى غير متصلة بمجد خصومهم وأسلافهم الأمويين.
* لكن دمشق اليوم بدأت تفقد خصوصيتها كمدينة شرقية السمات والملامح، برأيك متى بدأت هذه المرحلة؟
* بدأت منذ دق المهندس الفرنسي إيكوشار أول مسمار في نعش المدينة، من خلال ما عرف بمخطط (إيكوشار) الذي اعتبر أن دمشق التي يجب الحفاظ عليها هي فقط المدينة التي داخل السور الروماني، وما عدا ذلك من كنوز معمارية من شتى العصور والحقب يجب إباحته للهدم، وللأسف مازال مخطط إيكوشار ينفذ إلى الآن، رغم كل ما كتب عنه!
* ما رأيك بعمليات كشف السور الروماني لدمشق التي يجري العمل عليها حالياً؟
* عملياً سور دمشق الروماني مكشوف من الناحية الشمالية، لكن من الناحية الجنوبية مغطى، بل هو مختف داخل البيوت. كيف يمكن لمن عاش في بيته وبيت أجداده أن تقول له الآن: أخرج بيتك فوق السور وأريد أن أهدم بيتك، هذا لا يجوز هناك عشرات البيوت ستضيع وتهدم، أنا مع ترميم السور وإزالة التعديات الحديثة عليه لأنها أساساً لا تملك أي قيمة جمالية، أما كشف السور في المناطق المسكونة فصعب جدا، وسيؤدي إلى مجازر بحق التراث.
* كيف ترى المشاريع التي تطلق لتطوير دمشق القديمة أو الحفاظ عليها بين الحين والآخر؟
* نحن لم نجد حتى اليوم أي مشروع يحل المشاكل، لا مشكلة النقل ولا مشكلة التوسع العمراني ولا مشكلة الحفاظ على رئة دمشق بعد انقراض بساتين الغوطة التي التهمتها الكتل الإسمنتية، ولا نجد إلا مشاريع تغزو دمشق القديمة، وتفتح المطاعم والمقاهي وتزعج السكان، وتطفشهم، أين أصبح أهل دمشق القديمة بين كل هذه المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية والمستودعات.
* ثمة من يصف دمشق بأنها مدينة مهادنة، تبحث عن حلول توفيقية مع أي غاز، وتستسلم للأجنبي ولا تقاتل، ما رأيك بهذه المقولة التي روجت حتى في أعمال أدبية كتبها أدباء سوريون؟
* متى استسلمت دمشق للغزاة، في أي عهد، قولوا لنا؟، على هؤلاء أن يعودوا ليقرأوا التاريخ، حتى في أيام الانكشاريين كان زعماء الحارات يقفون في وجههم. حين أراد الفرنسيون دخول دمشق وكان هناك عدم تكافؤ في موازين القوى خرج يوسف العظمة وكانت ميسلون موقعة للشرف. وأيام الاحتلال الفرنسي كان الشاغور كتلة نار، ويروون لنا ان دبابة فرنسية دخلت الشاغور ففقدت ولم يعرف أحد أين ذهبت، كان أهل دمشق على الدوام يرفضون الذل، ودمشق مدينة سمحة لكنها ليست مهادنة، مدينة تجيد الصبر ولا ترد الإساءة بإساءة.
* كيف ترى صورة دمشق في المسلسلات التلفزيونية الكثيرة التي تحاول أن تستلهم تراثها اليوم؟
* في أغلب الأحيان تقدم هذه المسلسلات صورة مشوهة عن دمشق، لأنهم لا يصورونها تصوير العارف وإنما بشكل سطحي، خذ مثلاً (باب الحارة) حارات الشام لم يكن لها أبواب إلا فيما ندر، فمفهوم (باب الحارة) هو مفهوم خاص، لا علاقة له بإغلاق الباب وفتحه، ولا بالمعارك المفبركة لنزع الباب من قبل الفرنسيين كما رأينا، الحارة بابها المحبة، وحمايتها التكافل الاجتماعي والشعور بالآخر، شخصيات الزعران لم تكن موجودة بهذه الكثرة، ولم تكن هي واجهة المجتمع ومحرك أحداثه، كان هناك زعامة إذا قالت كلمة، كانت كلمتها أقوى من أي سلطة، لها ‘مونة’ كبيرة، لكن بحكمة ومخافة من الله، مستحيل ينام احد جوعان بالحارة وجاره يعرف بذلك، لقد حملنا هذه الإنسانية حتى في الحارات التي خارج سور دمشق.. وأذكر أننا سكنا في منطقة كيوان، وكان بيتنا بجانب بيت الشيخ رابح الجزائري في آخر حارة سد، وكان هؤلاء من المغاربة الذين جاؤوا وسكنوا دمشق. وقد أنجبت زوجة ابن جيراننا ولداً فأسمته (بدر) تيمناً بتسمية أمي لأخي بهذا الاسم، وكانت هناك ساقية تربط بين بيتينا من نهر بانياس، فكانت أمي وجارتها تمرران الأطفال من فتحة الساقية كي ترضعاهما ويصبحا أخوين، ومن تلك الفتحة كانتا تتبادلان أطباق الطعام (السكبة) كانت هناك حالة إنسانية راقية جداً، كانوا إذا أرادوا أن يخطبوا يفكرون ببنات الحي أولا ثم الحي المجاور، لأن الخطبة من حي بعيد آخر يمكن أن تصبح (سفرة) أما اليوم فأبناء العائلة الواحدة كل منهم في مكان ولا يلتقون حتى في المناسبات، ولم تكن هذه الإنسانية بين الدمشقيين وحسب، فدمشق وأهلها فتحوا بيوتهم وقلوبهم للأخوة الفلسطينيين عندما أتوا لاجئين بعد نكبة 1948 لان دمشق كانت على الدوام مدينة مضيافة، تشعر بألم الغريب، وتنفتح على الآخر.
* استلهم مسلسل (الحصرم الشامي) كتاب البديري الحلاق (حوادث دمشق اليومية) واعتبر صناع المسلسل ذلك وثيقة تاريخية، ما رأيك بذلك الكتاب؟
* كتاب (حوادث دمشق اليومية) لا يمثل دمشق، ومؤلفه حلاق ثرثار شبه أمي، كان يحكي القصص كي يسلي زبائنه، وفي حكاياته تلك الكثير من القيل والقال وعدم تقصي الحقيقة من مصادرها، إنه باختصار (ثرثرة حلاق) وهو ربما يعطي تصوراً عن حياة شريحة ضيقة أو حكايات ونوادر استثنائية، ولكنه لا يمثل دمشق، وقد تكون بعض أحداثه حدثت لكن ليس بهذا الشر والسوء، واستلهامه في مسلسل هو مجرد بحث عن الإثارة والحكايات الملفقة ولا علاقة له بالتوثيق والتاريخ!
* من يعجبك ممن يكتبون عن دمشق اليوم؟
* ناديا الغزي كتاباتها عن دمشق جيدة جداً فيها أصالة وصدق، ومن الأدباء هناك نصر الدين البحرة، فهو من أصدق من كتب عن دمشق، ويمكن أن نقول تجاوزاً عادل أبو شنب ولكن في فترات سابقة.
* نصف قرن وأنت تكتب عن دمشق، ما الذي لم تكتبه بعد؟
* الآن أكتب عن المطبخ الشامي والمأكولات الشامية، فهذا لم أكتب عنه من قبل. كتبت المطبخ الشامي بكل تفاصيله وإكسسواراته، فالمطبخ الشامي كان عالماً متكاملاً وفيه تفاصيل تكاد تشكل قاموساً، وبيدي الآن الفصل الخامس من الكتاب بعنوان: (محالي وتحالي) ولكن هناك بعض الأمور المستعصية أحاول أن أسأل عنها من بعض السيدات الكبار في السن.
* لماذا هذا الإصرار في الكتابة عن دمشق؟
* كان همي الأكبر على الدوام، أن أكتب عن دمشق قبل أن يكتب عنها بعض المستسهلين ويسيئوا إلى تاريخها، لأن الكتابة عن دمشق صارت تجارة مادام اسمها رائجا في سوق الكتاب، ولقد أصدرت على مدار خمسين عاماً حوالي (20) كتاباً، لكنني أشعر بأن الكتابة عن دمشق دين في عنقي يجب أن أوفيه، وعندما أكتب شغلة جديدة عن دمشق اشعر بمتعة بالغة، وأفرح وأحياناً من فرط فرحي أبكي، وخصوصاً عندما أرى إنسانية مجتمع دمشق فلا أصدق هكذا كانوا، لقد سكنت في مشروع دمر، لكني بقيت لسنوات أشتري كل حوائجي من حي الشاغور، ليس لأن الأسعار أرخص، بل كي أتذكر الحياة هناك، كي أجد وأنا أشتري من يسلم علي، من يقول لي: الله يرحم أبوك، سمعنا الفاتحة على روحه، دمشق بحاجة لوفاء يا أستاذ.
القدس العربي
ليس للمرحوم الوالد سليمان الخش شقيق إسمه أبو يعرب لماذا هذا التجني ؟