الروائية مها حسن في حوار لـ الفجر الثقافي: الكتابة عن الحب، الحرية، والجنس هي رهانات الكاتب
على الرغم من خروج روايتها الموسومة بـ”حبل سري” من القائمة القصيرة لجائزة”بوكر الرواية العربية، في دورتها الرابعة لهذه السنة، إلا أن الروائية السورية ذات الأصل الكردي، مها حسن، استطاعت أن تجد نفسها مرة أخرى محط اهتمام العديد من الكتاب والنقاد العرب، بعد سلسلة من الإصدارات في عالم الرواية
الجوائز لم تعد تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على الكتابات المهمّشة
خاصة بعد صدور روايتها الأخيرة التي أثارت الجدل الكثير فور صدورها ببيروت عن دار رياض نجيب الريس. وللحديث عن هذا العمل الذي تناولت فيه مها، تناقضات الحياة في سوريا وفرنسا، وهاجس الكتابة عموما، كانت لـ”الفجر” فرصة إجراء هذا اللقاء معها..
مرّة أخرى تعود الروائية السورية مها حسن، إلى القارئ بنص تصرّ فيه على الهروب من هويتها العربية، لتعيد كتابة سيرتها الذاتية من خلال أبطال الرواية. لماذا كل هذا الإصرار منك على العودة إلى الماضي؟
أنا لا أهرب من هويتي العربية، لأنني ببساطة لست عربية. أنا أفكر وأكتب باللغة العربية، إلا أنني جينيا، أنحدر من عائلة كردية. سؤال الهوية لا يزال يشكل هاجسا كبير لديّ، بتّ أميل إلى الاقتناع بأنه ليس أكثر من مسألة أوراق وترتيبات إدارية، أما الهوية من العمق، كإحساس بالأنا، فهي لا تنتمي إلى هذه التقسيمات الحادة. لم أعد أؤمن بمفهوم الهوية بمعناه الجغرافي أوالإقليمي، الهوية حالة فردية جدا، وبهذا التعريف، فهويتي هي أنا ككاتبة، هذا أكثر ما يناسبني ويتفق مع إحساسي بي وبكينونتي، أما الماضي، فهو لازمة متكررة في حياتي وحياة أبطالي، يكاد يكون حامل المفاتيح الأولية والشيفرات المركزية لكل تجليات الراهن التي غالبا ما تكون انعكاس لهذا الماضي.. لست ممن يمجد الماضي، ولكني لا أستطيع الخروج منه بسهولة، لأنه المسؤول الدائم عن راهني، أشعر بثقله اليومي، وكأنه مقيم بين كتفيّ، يراقب آنيتي، وفق دورين متناقضين، أولهما للاطمئنان على أني لن أغادره، والثاني رغبة منه في دفقي ودفعي نحو الخارج، تماما كالعلاقة بين الطفل والرحم، الماضي هو رحمي، خانق ربما، دافئ أيضا ، المسألة مركبة ويصعب فهمها ضمن معطيات واضحة ودقيقة.
ثمة إسقاطات عديدة لمفهوم الحب، الحرية، التواصل، الجنس، الأنا في عملك هذا، برأيك لماذا تراهن المرأة الكاتبة بشكل عام في نصوصها الأدبية على هذه المواضيع عكس ما نقرأه في أدب الآخر؟
لا أعتقد أن المواضيع التي تؤرقني تختلف عن تلك التي تؤرق زميلي الرجل. أنا لا أنتمي لدائرة الأدب النسوي، وهذا لا يعني أنني أدين هذه الكتابة. أنا أؤمن بالتنوع، ولكن قراءتي الأولية، وتأسيسي الذهني تم على أيدي “رجال”، إلا أن كل النماذج التي أسرتني في الفكر والرواية، هي نماذج للرجال ـ لا أحب استعمال لفظ ذكورية هنا ـ قد يكون الدافع الخفي لمقاربتي لأدب غير جنسوي، هو رفض بشكل ما للدور الدوني الذي يصنف داخله أدب المرأة. بطبيعتي أنا كائن رافض على الدوام، القلق الذي يسكنني يجعلني كائن خارج الجماعة وخارج التأطيرات، لدي هوس ربما بتقديم كتابة لا تقل عن كتابة الرجل، لأنني لم أشعر يوما بدونيتي أمام الرجل، على العكس، أعتقد أن المرأة كائن خلاق ومبتكر، ولكن الظروف التاريخية هي التي أضرت بهذا الكائن المبدع، انتقال المجتمعات من المرحلة الأمومية إلى الذكورية أضر بالطرفين، الرجال والنساء، لخدمة مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى. لهذا فأنا أعتقد أن كتابتي عن الحب والحرية والتواصل والجنس، كما وردت في سؤالك، هي رهانات الكاتب، بغض النظر عن التاء المربوطة التي تحيل إلى جنسه.
من هذا المنطلق كيف ترين صورة المرأة المبدعة في أدبها؟
أنا ضد كل هذه التصنيفات والتقسيمات للأدب، سواء الجغرافية أو الجنسوية، أما إذا كان هدف السؤال هو تقييم المنتج الأدبي للمرأة الكاتبة، فإن هذا برأيي من اختصاص النقاد. لست على دراية بكل ما يصدر من إبداع روائي أو شعري أو حتى سينمائي، ولست مخولة للرد على هذا السؤال.
وصول روايتك الموسومة بـ”حبل سري” إلى القائمة الـ16 لجائزة “بوكر للرواية العربية”، في حدّ ذاتها يعد إنجازا بالنسبة إليك، خاصة إذا نظرنا إلى الأسماء الرائدة التي شاركت هذه السنة في المسابقة، أنت كيف تقيمين نصك بعد هذه التجربة؟
لم أفهم السؤال تماما، وهل عليّ أن أقيم نصي قبل وبعد القائمة؟ إن علاقتي مع كتابتي لا تتغير وفق هذه المعطيات، لا أنكر أن وصول روايتي إلى اللائحة الطويلة، أحدث حراكا خاصا بمسيرة روايتي، بمعنى أنها حققت بعض التواجد في الساحة الإعلامية، وسمع بي أشخاص لم يكونوا على دراية بتواجدي الأدبي. إن الجوائز لا تعطي قيمة للكتابة، ولكنها تلقي الضوء على بعض الكتابات المهمّشة مثلا، وأنا أعتقد أن ثمة أسباب كثيرة، أهمها افتقادي لموهبة العلاقات العامة، ساهمت في تهميش تجربتي، هذه روايتي الرابعة، وأنا بدأت النشر كروائية، لم أنشر القصة القصيرة إلا في المجلات والصحف، أي كتبي المنشورة هي الرواية، وهاجسي كان ولايزال حتى اللحظة هو الرواية. لم يأتِ اهتمامي بسبب اتجاه العالم اليوم إلى الرواية، بل أنا ابنة الرواية، فيها فقط أجدني، لهذا فإني لست مهووسة بمسألة الأسماء. حين فازت موللر بنوبل، لم يكن قد سمع عنها الكثيرون، أخاف دوما على نفسي من أن تغويني لذة الشهرة والضوء، لأن هذه أيضا حاجة نفسية لدى الكاتب، نحن لا نكتب من أجل أنفسنا، ثمة عقد خفي بين القارئ المجهول في ذهن الكاتب، والكاتب، علاقة فيها بعض الإلهام ، ولكن الضوء وهاجس الجوائز، فخ أحاول تجنبه.
ما رأيك في الأسماء التي تضمنتها القائمة القصيرة للجائزة هذه السنة؟
أنا لا أدخل في هذه التقييمات، لا أسمح لنفسي بهذا. كنت سعيدة بوجودي في اللائحة الطويلة، ولكني لست مستعدة لتقييم عمل اللجنة أو الأعمال الواصلة إلى اللائحة القصيرة، هذا الأمر لا يدخل ضمن اهتماماتي.
يتساءل القارئ لأعمالك عن السبب الحقيقي لاختيارك عنوان “حبل سري”، دون غيره من العناوين الأخرى التي توحي بما رغبت في إيصاله إليه؟
حبل سري، أو المشيمة كما احترت بين العنوانين، هو المفتاح الجوهري لأزمة بطلاتي، هذه العلاقة الخفية مع الرحم، والرحم هنا طبعا ليس الأم فقط، بل كل التأسيسات الأولى التي نمونا وترعرنا بداخلها، لا أحب شرح كتبي ولا عناوينها، ولكن الحبل السُري، بضم السين، هو الحامل الرئيسي، بما يشبه الجذر، للشخصية الروائية، أوالواقعية. من هنا أكرر ما قلته في حوار آخر، بأنني أفضل دوما التدليل على البلد الأول لأي شخص، باستبدال مصطلح “مسقط السرة” عن مسقط الرأس.. تروي لي أمي حكاية مهمة أثرت في مخيلتي، ربما يكون هذا الموروث الشعبي متواجدا في بدان عربية أخرى، وهو دفن سرة الوليد. حيث قامت أمي بدفن سرتي في مقاعد مدرسة كان خالي يتعلم فيها، ويُعتقد بأن مكان السرة، يحدد للطفل لاحقا، توجهه في الحياة.. كنت الولد الأول “باعتباري البكر” في العائلة الذي يذهب إلى المدرسة ويتابع تعليمه العالي حتى الجامعة، في عائلتي، أكاد، حتى اليوم، ومع نشوء أجيال لاحقة لجيلي، لاأزال البنت الوحيدة التي حصلت على تعليم جامعي، لا أزعم بأن “مخبأ السرة” هو السبب، إلا أن هذه اللعبة التي صدقتها أمي، ونقلتها لي، خلقت بداخلي توجها غير مقصود ـ لا أستعمل بتاتا لفظة لاوعي ـ نحو التعلم والكشف وخوض الجديد، أظن أن حبلنا السري يحمل الكثير من الإجابات، واللفظة بالعربية، هي الوحيدة التي تجمع بين السرة والسر.. بينما هو في الفرنسية والانجليزية أمر مختلف، أومبليكال كورد، لا علاقة له بالسر.
هل أفهم أن الحنين إلى الذاكرة الأولى يجعلك تستحضرين هذه الذاكرة في شخوص نصك، لتبدو الرواية وكأنها رحلة عودة إلى تلك الذاكرة، واعتراف منك على سلطة المكان الأول عليك، أم أن موضوع الروائية فرض نفسه بعفوية ما؟
أظن أنه ينبغي دوما التمييز بين السرد الذاتي والرواية، ورواية السرد الذاتي. لكل رواية محرض ما لانطلاقها من داخل الكاتب، ولكل قانونها الخاص بها. في تجربتي الكتابية فإن روايتي، بعد أن تؤسس بداياتها على الورق، تنطلق لتبحث عن مرجعياتها، الواقعية أو الإفتراضية. لهذا فإنني لا أميل إلى اعتبار روايتي بمثابة تصفية حساب شخصي، لا على صعيد الفرح ولا الحزن. يجب فصل العمل الفني عن صاحبه، أنا صارمة بهذا، ولا أقحم ذاكرتي الشخصية، إلا ضمن الحدود الفنية، فالكتابة ذاكرة أيضا، ولكن ثمة فارق بين الحشر القسري للذاكرة الشخصية، والتوظيف الفني لذكريات ما، تتسلل من خزاني، دون الكثير من القصدية.
سلطت الضوء في”حبل سري” على حقيقة الفرد العربي داخل المجتمع الغربي، من خلال صوفي الفرنسية، وحنيفة العربية، المختلفتين عن بعضهما البعض، ولكنك حاولت أن تتركي القارئ يكتشف الإنتماء الجغرافي والإيديولوجي الذي يجمع هاتين الشخصيتين. ترى ماذا أرادت مها أن تقول من خلال هذا النص؟
يا إلهي يا حياة، على القارئ التوصل إلى هذا الجواب، لست عرافته، ولن أقوده في طريق قراءتي، تعرفين أن القراءة دوما، هكذا أراها، نص متعدد الإحتمالات، لماذا أسجن القارئ داخل شرنقة شرحي.. لنترك لكل قارئ يذهب بتفسيراته وتأويلاته حيث يذهب، أنا واثقة ومؤمن بقارئ متفوق على الروائي.
نلت سنة 2005، جائزة هلمان – هامت الأمريكية التي تمنح للكتاب والصحفيين الذين واجهوا ويواجهون التضييق في بلادهم، ماذا أضافت هذه الجائزة لمسيرتك على الصعيدين الإبداعي والشخصي، خاصة أنك تعرضت إلى مضايقات عديدة في وطنك سوريا، وصل إلى منعك من نشر أعمالك؟
بصراحة، بات هذا السؤال يثقل علي لكثرة ما تردد أولا، حيث ومنذ خمس سنوات، منذ الحصول على الجائزة، وحتى اليوم، أضطر للجواب ذاته، إضافة إلى حجم الهجوم الذي تعرضت إليه من قبل الكثير من الأشخاص الذين يخلطون بين العمل الحقوقي من جهة والسياسي من جهة، وكذلك بين الحقوقي والسياسي من جهة والإبداعي..
حسنا سأجيب، هذه الجائزة كانت بمثابة تكريم لتجربتي كامرأة متحدرة من طبقة عادية، شقت طريقها في عالم الكتابة، حمّلها الإيديولوجيون المعارضون لي، أعباء وانتقادات ، أفسدت فرحي بها، بسبب أني لا أصرخ وأرفع شعارات، كوني كائن منشغل بالهم الإبداعي، دون إهمال الجانب الإنساني والحقوقي، ولكن دون تنظيرات وشعارات فارغة تساهم في تعميق الوهم الشعاراتي وتغريب الإنسان عن ذاته وإلحاقه بالشعارات.
على أي نص تشتغل مها حسن في هذه الفترة، والمعروف عنك أنك تحرصين على التواجد في المشهد الإبداعي في كل موسم؟
هذا ليس دقيقا، لست ابنة مواسم. لقد توقفت عن النشر بعد روايتي الثانية التي صدرت في عام 2002، لما يقارب سبع سنوات حتى نشرت روايتي الثالثة، والتي كنت قد أنهيتها منذ سنوات وتركتها إلى أن جاءت فرصتها للنشر. أتحدث عن ترتيل العدم، أما روايتي الأخيرة، فهي الأولى التي كتبتها في فرنسا. أنا مقيمة هنا منذ ست سنوات، وهذا عملي الأول، أي استغرق مني ما لا يقل من أربع سنوات من كتابة وتردد في النشر، النشر مغامرة لا أجرؤ على الدخول فيها دوما، لهذا فأنا لا أعرف بعد، وليس أمامي من خيار آني.
حاورتها:حياة.س
http://www.al-fadjr.com/ar/culture/169874.html