أيهما أفضل.. الديمقراطية في مصر أم في الصومال؟
خطيب بدلة
إكراماً لعيني صديقي محرر الصفحة هذه، سأبدأ زاويتي الفضائية لهذا الأسبوع بالحديث عن برنامج تلفزيوني، فضاءوي، محدد، بُث على الهواء مباشرة من قناة (دريم 2) مساء الإثنين الذي سبق رأس السنة، عنوانه ‘العاشرة مساء’، تديره الإعلامية منى الشاذلي ذات الطلة الجميلة التي كلما شاهدتُها أتذكر وجه الفنانة الرائقة ميرفت أمين، وكان في ضيافتها الخبير الاستراتيجي العميد صفوت الزيات، والأستاذ صفوان عبد الوهاب أستاذ الأدب العبري بجامعة عين شمس، والصحافي الأستاذ محمد عبود، وعلى الهاتف اللواء سامح سيف اليزل.
دار الحوار في الحلقة حول مواطن عربي، عاقل، وطيوب، يمشي بجوار الحائط ويقول (يا رب سترك) اسمه طارق عبد الرازق حسين.
إن هذا الإنسان الطيب المدعو طارق عبد الرازق- بحسب ما فهمنا من مجمل البرنامج- قد فتح عينيه على الدنيا فوجد كل شي في (بلاد العرب أوطاني) على ما يرام! جنات على مد النظر ما بينشبع منها نظر! السماء نظيفة، لا يوجد فيها تلوث، ولا يوجد فيها غبار، أو دخان عوادم، والأرض، عدا عن كونها (بتتكلم عربي)، وعدا عن كونها تنبع خيرات وأرزاقاً، فهي نظيفة، ومرتبة، وإذا مشى المرءُ سنة رملية في شوارع المدن العربية، على أمل أن يتعثر بكيس نايلون داشر، أو قشرة شوكولا، أو زجاجة كولا فارغة، مرمية على الأرض بلامبالاة.. فلن يجد! وإذا انسفح منه صحن اللبن الخاثر، فإنه يستطيع أن ينبطح على الأرض ويلحسه فلا يجد فيه شائبة، كل ما في الأمر أنه يرى صورته، لأن الأرض، من فرط نظافتها، تعكس الصور والأخيلة، كالمرآة..
ووجد الدساتير والقوانين تسود هذه البلدان العربية، فلا ظلم ولا عدوان، والسلطات يتم تداولها سلمياً، وإذا ذكرت عبارة (الأحكام العرفية) أمام أي إنسان عربي سيظن أنك تحدثه بالسنسكريتي! وسيقول لك بدهشة: (what; what’) ماذا تعني بالأحكام العرفية؟! كذلك الأمر بالنسبة للبطالة، فهي كلمة غريبة، غير متداولة..
والحقيقة أنه لا يوجد أحلى وأروع من السلطات العربية غير الشعوب العربية، فهذه الطينة من هذه الطينة، وهذه الكعكة من هذه العجينة! فلا كذب عند هذه الشعوب، ولا غش، ولا نميمة، ولا سرقة، ولا احتيال، ولا عنف.. والعمل متوفر للجميع، وعلى قفا من يشيل، وما على المواطن الطالع على الدنيا من جديد إلا أن يسجل اسمه في دوائر العمل، وبعد أقل من أسبوع يكون ملتحقاً بعمله الذي يلائم مؤهلاته، بغض النظر عن حزبه، وعن دينه، وعن مذهبه، وعن قبيلته، وعن قرابته لأهل الأمر والنهي!
رغم كل هذه الإغراءات الموجودة على أرض الواقع العربي، فقد غادر طارق مصرَ أمَّ الدنيا، من أجل أن يؤسس لمستقبله، متوجهاً إلى الصين الشعبية التي تجاوز عدد سكانها المليار بني آدم، ومكث فيها برهة من الزمن، وبينما هو يبحث في المواقع الإلكترونية عن عمل يليق به، وبتاريخه، وبحضارته، وبعروبته، إذ وجد إعلاناً من مؤسسة تُدعى (الموساد) تطلب للعمل لديها كَلَّ مَنْ يجد في نفسه الكفاءة لأن يشتغل (جاسوساً) لصالح تلك الدولة الوديعة التي تعرف باسم (إسرائيل)! فتقدم ذلك المواطن العربي الطيوب باستمارة للعمل، وكان أن أخضع لاختبارات معقدة، فتجاوزها جميعاً- والحمد لله- بفضل إمكاناته العقلية العالية، ومهاراته الفردية الرائعة..
ولكن، على ما يبدو، أن ربنا- على حد تعبير أشقائنا المصريين- ما يخلِّهاش تكمل مع البني آدم، ففي شهر آب (أغسطس) الماضي ألقي القبض على المواطن طارق أثناء ما كان قادماً إلى مصر، ليقوم، بواجبه الوظيفي بشرف، وعلى أكمل وجه، في التجسس على أبناء بلده، من العاملين الكبار في قطاع الاتصالات!.. وفي البرنامج المذكور الذي تقدمه السيدة منى الشاذلي نوقشت قضيته بعدما أعلنت الجهات الرسمية في مصر رسمياً القبض عليه، بعدما نعتوه بكلمة غريبة على أسماعنا نحن أبناء الأمة العربية وهي كلمة (جاسوس)..
الديمقراطية بين مصر والصومال
اتصل بي واحد من أصدقائي الذين أحبهم، وعاتبني على إحدى زواياي الفضائية السابقة المنشورة (في القدس العربي) التي تحدثت فيها عن القبضايات والفتوات، من الرجال والنساء الذين لعبوا أدواراً سلبية في الانتخابات المصرية لصالح بعض المرشحين. وكنتُ قد اقتبستُ تلك الفكرة وصنعتُ منها (أهزولة) عن الانتخابات العربية بشكل عام.
قال ذلك الصديق، جاداً: ولكن قد يفهمُ البعضُ أنك تسخر من التجربة الديمقراطية المصرية وهي- رغم كل شي- الأكثر عراقة في الوطن العربي كله.
ثم قال ممازحا: دخيلك.. يعني الديمقراطية في الصومال أحسن؟!
في معرض ردي على ذلك الصديق سأشير إلى برنامج مهم للغاية شاهدتُه في الفترة ذاتها على قناة المحور الفضائية عنوانه (90 دقيقة) يعده ويقدمه الإعلامي المتميز معتز الدمرداش، وكان، بالمصادفة البحتة، يتحدث عن التجربة الديمقراطية في مصر الشقيقة.. (وكان ذلك قبل أن نشاهد العملية الديمقراطية جداً! التي تدل على الأخوة والمواطنة واللحمة الوطنية التي تجلت بتفجير الكنيسة!)
ليلتها، أول ما فتحت التلفزيون على قناة المحور، شاهدتُ أحد ضيوف الحلقة، الأستاذ كمال غبريال، وهو يهزِّىء المعارضة المصرية، ويُسَخِّفُها، وينعتها بأسوأ الألفاظ، بل إنه مسح بها الأرض، وتوصل إلى ما معناه أن عدم وجود معارضة، من أساسه، أحسن من وجود المعارضة الكرتونية ديَّه!
وأما الأستاذ ممتاز القط، رئيس تحرير صحيفة ‘أخبار اليوم’، فقد فجر في الأستوديو طرفة قادرة على إضحاك المرأة الثكلى التي فقدت ابنها الوحيد!.. وذلك حينما أخذ يدافع عن نتائج الانتخابات الأخيرة، وينفي عنها أي تزوير،.. إلى أن قال إن مجلس الشعب الحالي سيشهد معارضة قوية داخله بسبب وجود المرأة فيه، لأن النساء، برأيه، أدرى بمشاكل البيوت، وسوف يقمن بمحاسبة الحكومة حساباً عسيراً إذا قامت- أي الحكومة- بأي فعل ليس في مصلحة الشعب.
ولعل ما ساعد على رفع مستوى الطرافة في القصة هو أن المصور ترك الأستاذ (القط) يتكلم، وشرع يرصد لنا بكاميرته الذكية الأستاذين نصر القفاص من صحيفة الأهرام، ومحمد صلاح مدير مكتب جريدة الحياة في القاهرة، وهما يضحكان ضحكاً عذباً صافياً، ظلا يضحكان حتى اضطر معتز الدمرداش إلى التوقف عن متابعة فكرة ممتاز القط، وقال لهما:
– انتوا بتضحكوا على إيه؟
ووقتها شرع الأستاذ محمد صلاح يرد على مزاعم ممتاز القط، ويسردُ أرقاماً وتواريخ تتحدث كلها عن غياب، أو لنقل: (نقص) الديمقراطية في مصر اليوم!
سوا ربينا
ومن أجل أن يكون موقفي واضحاً أمام صديقي المتحمس للتجربة الديمقراطية المصرية، فقد قلت له إن حبيبة قلوبنا، ورمز حداثتنا المبكرة ‘فيروز’، حينما غنت ‘سوا ربينا’ في مسرحية ‘الشخص’ أو ‘بياعة البندورة’ كانت تخاطب العربة التي كانت تحمل عليها البندورة وتدور بها على كل البيوت، ومع ذلك انبرى أحد الإعلاميين السوريين، قبل حوالي ربع قرن، وأطلق اسم (سوا ربينا) على برنامجه التلفزيوني الذي كان يدعو إلى التآخي بين الشعبين السوري واللبناني!!!
والحقيقة أننا، نحن والإخوة المصريين، سوا ربينا، وأنا كنت طفلاً صغيراً على أيام الوحدة، وكنا نسمع خطابات عبد الناصر فنطرب لها مثلما نطرب لأغاني أم كلثوم من إذاعة القاهرة وصوت العرب في الخميس الأول من كل شهر.. وبالفعل، وليس بالحكي، التجربة الديمقراطية المصرية، كانت، وما تزال، أفضل منها في كثير من الدول العربية، وبضمنها الصومال! وأكبر دليل على ذلك البرامج التلفزيونية الفضائية التي تعرضها القنوات المصرية المختلفة، وتقال فيها الآراء المتباينة، بجرأة منقطعة النظير، وشفافية عالية، وتبث على الهواء مباشرة، هذا مع أن الحديث عن الجواسيس يتعلق بأمن الدولة، ومعظم التلفزيونات العربية تتحاشى الحديث عنه إلا على نحو مقتضب، وضمن بيانات رسمية.
وربما كان السادة القراء لا يعرفون أن أحد الحكام العرب، مع بداية عصر الإذاعة، كان يحتفظ بمفتاح إذاعة دولته في جيبه، وفي الصباح يأتي المذيع ويأخذ المفتاح، وبعد الدوام يعيده إليه!
وأما في عصر التلفزيونات، فقد زعموا أن حاكماً عربياً يمتلك جهازاً عجيباً (اخترعه الغرب الإمبريالي خصيصاً له) يستطيع بموجبه أن يخرب إرسال المحطات الحكومية والأرضية التابعتين لدولته، من مكان جلوسه في القصر، وهو يفعل ذلك بمجرد ما يرى برنامجاً لا يروق له، مع أن برامج تلفزيوناته كلها مخصصة لمديحه، وكلها مسجلة، ومراقبة، وما فيها (لو)!
لهذا اسمحوا لي، هنا، أن أحيي التجربة الديمقراطية المصرية، بقوة، ولو كنت أضع على رأسي أي نوع من الطرابيش، أو القبعات، أو البرنيطات، لرفعت غطاء رأسي تحية لها، على الرغم مما يشوبها من مشاكل، وهزات، وخيبات، ووكسات، وتفجيرات إرهابية.
كاتب وقاص من سورية
القدس العربي