مفاهيم “الليبرتارية” وروادها في سبعة أجزاء عن “رياض الريس”
سياق فلسفي تاريخي لتشكل الدولة والمجتمع المدني
جهاد الترك
سبعة أجزاء صدرت حديثاً عن دار “رياض الريس للكتب والنشر” حول مفاهيم “الليبرتارية وروادها”. تتضمن نصوصاً لكبار واضعي أسس هذه الفلسفة ومشتقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويتناول مصطلح “الليبرتارية” المرتكزات الفكرية للتوجه الأخلاقي ـ السياسي في إقامة المجتمع المدني تحديداً في الأنظمة التي تسترشد بالنهج الديموقراطي لصوغ العلاقة بين المواطنين والدولة.
وتستند هذه المعادلة بين الطرفين الى الحرية بأبعادها القانونية الواسعة والحد من جنوح مركزية السلطة حتى لا يتم الاستئثار القسري بها، والفردية، والحقوق الأساسية، والتبادل التجاري الحر، والأسواق المفتوحة، والسعي الحقيقي نحو احلال السلام داخل المجتمع وفي العالم.
تندرج الأجزاء السبعة في العناوين الآتية: التشكيك في السلطة؛ الفردية والمجتمع المدني؛ الحقوق الفردية؛ النظام التلقائي؛ الأسواق الحرة؛ السلام والتوافق الدولي؛ مستقبل الليبرتارية، والأرجح ان هذه المجموعة الهامة التي تنطوي على تجارب اجتماعية ومدنية استثنائية وضعها اصحابها في سياق فكري فلسفي منظم ومقنن، تنسجم على نحو كبير، مع التعثر المزمن الذي تشهده الدولة المدنية في الوطن العربي وهي تنتقل من أزمة الى مأزق الى طريق مسدود.
التشكيك في السلطة
يعالج الجزء الأول “التشكيك في السلطة”، المبدأ الأول في النهج الليبرتاري والأكثر أهمية في هذا السياق، ويتمثل في القلق العميق الناتج عن محاولة تركيز السلطة بغية الاستئثار بها، ومن ثم استخدامها على نحو يجعل منها وسيلة للتسلط بدلاً من ان تصبح اداة لاحلال الاستقرار في الاجتماع الانساني. يناقش هذا الجزء بروية وموضوعية المقولة التاريخية التي تفيد بأن السلطة تنحو للافساد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة. يشتمل هذا الجزء على الموضوعات الآتية: أصل الحكومة وهدفها (توماس باين)؛ أي نوع من الاستبداد ينبغي ان تخشى منه الشعوب (جيمس ماديسون). الديموقراطية (اليكس دوتو كوفيل). اعتراضات على التدخل الحكومي (جون ستيوارت ميل)، الدولة (موراي روثبارد). المصلحة الذاتية والدستور (ريتشارد ايبستين).
ويتطرق الجزءالثاني “الفردية والمجتمع المدني” الى القضايا الآتية: لا يمكن فرض الفهم (جون لوك). العدل والاحسان (ادم سميث). اخضاع الفساد (ماري ولستونر كرافت)؛ المرأة كائن اخلاقي مدرك (سارة غرامكيه ـ ديفيد هيوم)؛ نظرية العدالة في الحقوق (روبرت نوزيك). ويناقش الرابع “النظام التلقائي”: التوافق (لاوتسو). رجل النظام (آدم سميث). المجتمع والحضارة (توماس باين). الأنظمة المصنوعة والأنظمة التلقائية (فريدريك ايه هايك). ويشتمل الخامس “الأسواق الحرة” على المباحث الآتية: تقسيم العمل، المجتمع والمصلحة الذاتية، التجارة الحرة (ادم سميث). الاشتراكية والتدخل (لودفيغ فون ميزس). ويعالج السادس “السلام والتوافق الدولي”: التجارة هي العلاج الناجع (ريتشارد كوبدين)؛ السلام (لودفيغ فون ميزس). نحو استقلال استراتيجي (ايرل سي. رافينال). ويطرح السابع “مستقبل الليبرتارية” مسائل تندرج في “الرأسمالية والمجتمع المتساهل (صمويل بريتان). نقاط القوة ونقاط الضعف في الفكر الليبرتاري (ريتشارد كوريني)؛ ثقافة الحرية (ماريو فارغاس يوسا)؛ الدمار الخلاق وعصر الابتكار (بيتر كيه. بيتش)؛ أدب الحرية (توم جي. بالمر)..
يقول المؤرخ رالف رايكو، كما يرد في الجزء الأول؛ ان جوهر التجربة الأوروبية الفريدة هو أن حضارة قد تطورت شعرت بذاتها بأنها تامة، ومع ذلك فقد تم تفكيك مركزيتها بطريقة راديكالية. ويضيف انه بسقوط الامبراطورية الرومانية، تحولت القارة الى خارطة فسيفسائية من المقاطعات والكيانات السياسية المنفصلة والمتنافسة التي استبعدت الانقسامات الداخلية فيها هي نفسها قيام سلطات مركزية. في المقابل كبحت الكنيسة المستقلة سلطة الدول، تماماً كما منع الملوك تركز السلطة في يد الكنيسة. وفي المدن الحرة الدستورية في القرون الوسطى طور الناس مؤسسات للحكم الذاتي ووفرت المدن مجالاً لازدهار التجارة.
التسامح الديني
يبدو هذا التصور، وهو أقرب الى التحليل الاجتماعي السياسي الموضوعي، أحد أكثر المرتكزات الفكرية لفلسفة الليبرتارية بما هي دعوة الى ممارسة الحرية والارتقاء بالارادة الانسانية الى مستوى اقامة المجتمعات المدنية التي تعول على سلطة القانون والمؤسسات السياسية والنظام الديموقراطي الحر في خطوة لاحقة. وفي هذا السياق بالتحديد، يناقش الجزء الثاني من هذه المجموعة ان اول انتصار واضح لليبرالية تمثل في التحقق التدريجي للتسامح الديني، تبعته المطالبة الأكثر راديكالية بالفصل التام بين الكنيسة والدولة. وتعتبر مقالة جون لوك “رسالة حول التسامح” الواردة في الجزء المذكور، مناقشة بارعة لوضع ضمير الفرد خارج نطاق سلطة الدولة. وبالمثل يتفحص المفكر الليبرالي الكبير، آدم سميث، في مقالته حول مشاركة الأفراد في مجتمع مدني، العلاقة بين العدل والاحسان. يقول ان هذا الأخير يجعل الحياة أكثر مدعاة للسرور وهو ضروري لمجتمع جيد. ومع ذلك يمكن للمجتمع ان يعيش من دون ان يعتمد بالضرورة على الاحسان. غير انه لا يستطيع العيش من دون مبدأ العدل. واذا لم يكن الأمر كذلك، فسنجد انفسنا حقاً في حرب الجميع ضد الجميع.
تكمن أهمية هذه المجموعة في أنها تتميز ببناء فلسفي فكري ينبثق تباعاً من جزء الى آخر؛ بحيث يمكن القول ان كلا من هذه الأجزاء يشكل مقدمة موضوعية تاريخية للجزء الذي يليه في الطريق نحو استشراف أعمق وفهم أوضح لمفهوم الليبرتارية في تكوين المجتمعات الحرة، فالجزء الثالث، على سبيل المثال، يخرج، بشكل أو بآخر، من رحم الثاني على نحو من التسلسل الموضوعي. اذ يناقش فكرة الحقوق الفردية على قاعدة ان هذه الأخيرة سرت طيلة تاريخ الفكر الليبرالي والليبرتاري. وكان بعض الفلاسفة، في هذا المجال، قد اشار الى ان هذه الحقوق قد جاءت من الله سبحانه وتعالى، ولذلك فان اعلان الاستقلال الاميركي، على هذا الصعيد، قد نص على ان البشر “موهوبون من الخالق” بنعمة حقوق ثابتة. وثمة آخرون رأوا ان مصدر الحقوق يكمن في طبيعة الانسان نفسه. من هنا كانت عبارة “حقوق طبيعية” ومع ذلك فهؤلاء يتفقون جميعاً على ان هذه الحقوق اساسية، اي انها ليست ممنوحة من الحكومة. والكل يوافق على انه ينبغي للأفراد ان يكونوا أحراراً في ممارسة حياتهم كما يشاؤون، طالما انهم يحافظون على احترام حقوق الآخرين بصورة مماثلة.
نلحظ توسعاً في اجلاء هذا المفهوم في الجزءالرابع “النظام التلقائي”. فكثير من الفلاسفة الكبار فشلوا في ادراك ماهية النظام التلقائي، من بينهم المفكر الألماني الكبير، ايمانويل كانط الذي رغم دفاعه عن الحقوق الفردية، دأب على الاعتقاد بأنه لا يمكن للسلام والنظام ان يسودا من دون اكراه. وبالمثل لم يستطع كارل ماركس ان يرى سوى “فوضى الانتاج الرأسمالي” وليس الرخاء العام الناتج من النظام غير المخطط له الذي سماه ادم سميث قبل 75 عاماً “النظام البسيط للحرية الطبيعية”. على هذا الأساس، يشير المفكرون الليبرتاريون الى القانون واللغة والعادات والنقود باعتبارها مؤسسات تطورت من دون توجيه مركزي. كانت هذه، على الأرجح، نتيجة لعمل بشري لكنها لم تكن نتيجة لأي تخطيط انساني.
الأسواق الحرة
يتجلى هذا المفهوم، على نحو أوضح، في الجزء الخامس “الأسواق الحرة”، اذ غالباً ما يتم الربط بصورة وثيقة بين الليبرتارية والدفاع عن الأسواق الحرة. هذا المفهوم صحيح، ولكن ربما كان ثمة مبالغة في التركيز عليه. فغاية الليبرتارية ليست الدفاع عن علاقات الأسواق في حد ذاتها، كما انها ليست بالتأكيد اشكالاً رأسمالية من النظام بقدر ما هي الدفاع عن الحرية الفردية والمجتمع المدني والنظام التلقائي كذلك. السوق الحرة هي النظام الاقتصادي الذي ينشأ عندما يتاح للأفراد اكتساب الملكية وتبادلها من دون الخضوع الا لشروط عدم انتهاك حقوق الآخرين. كما ان الأسواق هي الشكل الضروري للنظام اذا كان لبني البشر ان يكونوا قادرين على التعاون لتحقيق أهدافهم المتشابكة.
الحرب هي البلاء
ينحو الجزء السادس من المجموعة “السلام والتوافق الدولي” منحى استنتاجياً اذا صح التعبير، بمعنى أنه يستخدم سائر المفاهيم التي وردت في الأجزاء السابقة في سياق الكيفية على احلال السلام الدولي، فالليبراليون يرون، في هذا الاطار، ان الحرب هي البلاء الأعظم الذي يمكن لسلطة الدولة ان تجعله طاغياً على المجتمع. غير ان هؤلاء اضافوا شيئاً آخر الى الحجج التي ساقوها ضد الحرب كما يتبين في مقال لودفيغ فون ميزس في الجزء المذكور. أدرك الليبراليون ان الحرب تمزق الأشكال السليمة للتعاون مثل: العلاقات العائلية، علاقات الأعمال والمجتمع المدني. كما أنها تلحق دماراً بمجمل عملية التعاون الاجتماعي والتخطيط بعيد المدى. وفقاً لذلك، كان احد الأهداف الرئيسية لليبرالية هو منع الملوك من تعريض رعاياهم للأخطار في حروب لا ضرورة لها. وأكد ادم سميث، في هذا المجال، انه ليس هناك الكثير مما يلزم لايجاد مجتمع ينعم بالسعادة والرخاء أكثر من “سلام وضرائب سهلة وادارة مقبولة للعدالة”.
في الجزء الأخير من هذه المجموعة “مستقبل الليبرتارية”، ثمة مناقشة عميقة لايمان اصحاب هذا المفهوم بآفاق التغيير الاقتصادي التكنولوجي الثقافي. لكنهم، يصرون، مع ذلك، على الالتزام الصارم بالمبادئ القديمة والثابتة للحكومة. لا تناقض في ذلك، على الأغلب، فكما يعترف كل المفكرين المساهمين في هذا الجزء، صراحة أو ضمناً، فان المبادئ الليبرتارية التي وضعها جون لوك وآدم سميث والثورة الاميركية والدستور، من شأنها ان توجد اطاراً للتقدم. فعندما يصار الى حماية حق الأفراد في التفكير والاتصال والابداع والتبادل، وعندما نتمسك بقواعد الملكية الخاصة والتبادل الحر والقبول الحر، فاننا نوجد بذلك مجتمعاً يمكن فيه احداث التغيير. وكل انحراف عن هذه القواعد، وكل استخدام للحكومة من أجل اخراج فكرة محددة لشخص ما حول نتائج أفضل الى حيز الوجود، أمر يشكل اعاقة للتقدم.
سياق فلسفي تاريخي لتشكل الدولة والمجتمع المدني
جهاد الترك
سبعة أجزاء صدرت حديثاً عن دار “رياض الريس للكتب والنشر” حول مفاهيم “الليبرتارية وروادها”. تتضمن نصوصاً لكبار واضعي أسس هذه الفلسفة ومشتقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويتناول مصطلح “الليبرتارية” المرتكزات الفكرية للتوجه الأخلاقي ـ السياسي في إقامة المجتمع المدني تحديداً في الأنظمة التي تسترشد بالنهج الديموقراطي لصوغ العلاقة بين المواطنين والدولة.
وتستند هذه المعادلة بين الطرفين الى الحرية بأبعادها القانونية الواسعة والحد من جنوح مركزية السلطة حتى لا يتم الاستئثار القسري بها، والفردية، والحقوق الأساسية، والتبادل التجاري الحر، والأسواق المفتوحة، والسعي الحقيقي نحو احلال السلام داخل المجتمع وفي العالم.
تندرج الأجزاء السبعة في العناوين الآتية: التشكيك في السلطة؛ الفردية والمجتمع المدني؛ الحقوق الفردية؛ النظام التلقائي؛ الأسواق الحرة؛ السلام والتوافق الدولي؛ مستقبل الليبرتارية، والأرجح ان هذه المجموعة الهامة التي تنطوي على تجارب اجتماعية ومدنية استثنائية وضعها اصحابها في سياق فكري فلسفي منظم ومقنن، تنسجم على نحو كبير، مع التعثر المزمن الذي تشهده الدولة المدنية في الوطن العربي وهي تنتقل من أزمة الى مأزق الى طريق مسدود.
التشكيك في السلطة
يعالج الجزء الأول “التشكيك في السلطة”، المبدأ الأول في النهج الليبرتاري والأكثر أهمية في هذا السياق، ويتمثل في القلق العميق الناتج عن محاولة تركيز السلطة بغية الاستئثار بها، ومن ثم استخدامها على نحو يجعل منها وسيلة للتسلط بدلاً من ان تصبح اداة لاحلال الاستقرار في الاجتماع الانساني. يناقش هذا الجزء بروية وموضوعية المقولة التاريخية التي تفيد بأن السلطة تنحو للافساد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة. يشتمل هذا الجزء على الموضوعات الآتية: أصل الحكومة وهدفها (توماس باين)؛ أي نوع من الاستبداد ينبغي ان تخشى منه الشعوب (جيمس ماديسون). الديموقراطية (اليكس دوتو كوفيل). اعتراضات على التدخل الحكومي (جون ستيوارت ميل)، الدولة (موراي روثبارد). المصلحة الذاتية والدستور (ريتشارد ايبستين).
ويتطرق الجزءالثاني “الفردية والمجتمع المدني” الى القضايا الآتية: لا يمكن فرض الفهم (جون لوك). العدل والاحسان (ادم سميث). اخضاع الفساد (ماري ولستونر كرافت)؛ المرأة كائن اخلاقي مدرك (سارة غرامكيه ـ ديفيد هيوم)؛ نظرية العدالة في الحقوق (روبرت نوزيك). ويناقش الرابع “النظام التلقائي”: التوافق (لاوتسو). رجل النظام (آدم سميث). المجتمع والحضارة (توماس باين). الأنظمة المصنوعة والأنظمة التلقائية (فريدريك ايه هايك). ويشتمل الخامس “الأسواق الحرة” على المباحث الآتية: تقسيم العمل، المجتمع والمصلحة الذاتية، التجارة الحرة (ادم سميث). الاشتراكية والتدخل (لودفيغ فون ميزس). ويعالج السادس “السلام والتوافق الدولي”: التجارة هي العلاج الناجع (ريتشارد كوبدين)؛ السلام (لودفيغ فون ميزس). نحو استقلال استراتيجي (ايرل سي. رافينال). ويطرح السابع “مستقبل الليبرتارية” مسائل تندرج في “الرأسمالية والمجتمع المتساهل (صمويل بريتان). نقاط القوة ونقاط الضعف في الفكر الليبرتاري (ريتشارد كوريني)؛ ثقافة الحرية (ماريو فارغاس يوسا)؛ الدمار الخلاق وعصر الابتكار (بيتر كيه. بيتش)؛ أدب الحرية (توم جي. بالمر)..
يقول المؤرخ رالف رايكو، كما يرد في الجزء الأول؛ ان جوهر التجربة الأوروبية الفريدة هو أن حضارة قد تطورت شعرت بذاتها بأنها تامة، ومع ذلك فقد تم تفكيك مركزيتها بطريقة راديكالية. ويضيف انه بسقوط الامبراطورية الرومانية، تحولت القارة الى خارطة فسيفسائية من المقاطعات والكيانات السياسية المنفصلة والمتنافسة التي استبعدت الانقسامات الداخلية فيها هي نفسها قيام سلطات مركزية. في المقابل كبحت الكنيسة المستقلة سلطة الدول، تماماً كما منع الملوك تركز السلطة في يد الكنيسة. وفي المدن الحرة الدستورية في القرون الوسطى طور الناس مؤسسات للحكم الذاتي ووفرت المدن مجالاً لازدهار التجارة.
التسامح الديني
يبدو هذا التصور، وهو أقرب الى التحليل الاجتماعي السياسي الموضوعي، أحد أكثر المرتكزات الفكرية لفلسفة الليبرتارية بما هي دعوة الى ممارسة الحرية والارتقاء بالارادة الانسانية الى مستوى اقامة المجتمعات المدنية التي تعول على سلطة القانون والمؤسسات السياسية والنظام الديموقراطي الحر في خطوة لاحقة. وفي هذا السياق بالتحديد، يناقش الجزء الثاني من هذه المجموعة ان اول انتصار واضح لليبرالية تمثل في التحقق التدريجي للتسامح الديني، تبعته المطالبة الأكثر راديكالية بالفصل التام بين الكنيسة والدولة. وتعتبر مقالة جون لوك “رسالة حول التسامح” الواردة في الجزء المذكور، مناقشة بارعة لوضع ضمير الفرد خارج نطاق سلطة الدولة. وبالمثل يتفحص المفكر الليبرالي الكبير، آدم سميث، في مقالته حول مشاركة الأفراد في مجتمع مدني، العلاقة بين العدل والاحسان. يقول ان هذا الأخير يجعل الحياة أكثر مدعاة للسرور وهو ضروري لمجتمع جيد. ومع ذلك يمكن للمجتمع ان يعيش من دون ان يعتمد بالضرورة على الاحسان. غير انه لا يستطيع العيش من دون مبدأ العدل. واذا لم يكن الأمر كذلك، فسنجد انفسنا حقاً في حرب الجميع ضد الجميع.
تكمن أهمية هذه المجموعة في أنها تتميز ببناء فلسفي فكري ينبثق تباعاً من جزء الى آخر؛ بحيث يمكن القول ان كلا من هذه الأجزاء يشكل مقدمة موضوعية تاريخية للجزء الذي يليه في الطريق نحو استشراف أعمق وفهم أوضح لمفهوم الليبرتارية في تكوين المجتمعات الحرة، فالجزء الثالث، على سبيل المثال، يخرج، بشكل أو بآخر، من رحم الثاني على نحو من التسلسل الموضوعي. اذ يناقش فكرة الحقوق الفردية على قاعدة ان هذه الأخيرة سرت طيلة تاريخ الفكر الليبرالي والليبرتاري. وكان بعض الفلاسفة، في هذا المجال، قد اشار الى ان هذه الحقوق قد جاءت من الله سبحانه وتعالى، ولذلك فان اعلان الاستقلال الاميركي، على هذا الصعيد، قد نص على ان البشر “موهوبون من الخالق” بنعمة حقوق ثابتة. وثمة آخرون رأوا ان مصدر الحقوق يكمن في طبيعة الانسان نفسه. من هنا كانت عبارة “حقوق طبيعية” ومع ذلك فهؤلاء يتفقون جميعاً على ان هذه الحقوق اساسية، اي انها ليست ممنوحة من الحكومة. والكل يوافق على انه ينبغي للأفراد ان يكونوا أحراراً في ممارسة حياتهم كما يشاؤون، طالما انهم يحافظون على احترام حقوق الآخرين بصورة مماثلة.
نلحظ توسعاً في اجلاء هذا المفهوم في الجزءالرابع “النظام التلقائي”. فكثير من الفلاسفة الكبار فشلوا في ادراك ماهية النظام التلقائي، من بينهم المفكر الألماني الكبير، ايمانويل كانط الذي رغم دفاعه عن الحقوق الفردية، دأب على الاعتقاد بأنه لا يمكن للسلام والنظام ان يسودا من دون اكراه. وبالمثل لم يستطع كارل ماركس ان يرى سوى “فوضى الانتاج الرأسمالي” وليس الرخاء العام الناتج من النظام غير المخطط له الذي سماه ادم سميث قبل 75 عاماً “النظام البسيط للحرية الطبيعية”. على هذا الأساس، يشير المفكرون الليبرتاريون الى القانون واللغة والعادات والنقود باعتبارها مؤسسات تطورت من دون توجيه مركزي. كانت هذه، على الأرجح، نتيجة لعمل بشري لكنها لم تكن نتيجة لأي تخطيط انساني.
الأسواق الحرة
يتجلى هذا المفهوم، على نحو أوضح، في الجزء الخامس “الأسواق الحرة”، اذ غالباً ما يتم الربط بصورة وثيقة بين الليبرتارية والدفاع عن الأسواق الحرة. هذا المفهوم صحيح، ولكن ربما كان ثمة مبالغة في التركيز عليه. فغاية الليبرتارية ليست الدفاع عن علاقات الأسواق في حد ذاتها، كما انها ليست بالتأكيد اشكالاً رأسمالية من النظام بقدر ما هي الدفاع عن الحرية الفردية والمجتمع المدني والنظام التلقائي كذلك. السوق الحرة هي النظام الاقتصادي الذي ينشأ عندما يتاح للأفراد اكتساب الملكية وتبادلها من دون الخضوع الا لشروط عدم انتهاك حقوق الآخرين. كما ان الأسواق هي الشكل الضروري للنظام اذا كان لبني البشر ان يكونوا قادرين على التعاون لتحقيق أهدافهم المتشابكة.
الحرب هي البلاء
ينحو الجزء السادس من المجموعة “السلام والتوافق الدولي” منحى استنتاجياً اذا صح التعبير، بمعنى أنه يستخدم سائر المفاهيم التي وردت في الأجزاء السابقة في سياق الكيفية على احلال السلام الدولي، فالليبراليون يرون، في هذا الاطار، ان الحرب هي البلاء الأعظم الذي يمكن لسلطة الدولة ان تجعله طاغياً على المجتمع. غير ان هؤلاء اضافوا شيئاً آخر الى الحجج التي ساقوها ضد الحرب كما يتبين في مقال لودفيغ فون ميزس في الجزء المذكور. أدرك الليبراليون ان الحرب تمزق الأشكال السليمة للتعاون مثل: العلاقات العائلية، علاقات الأعمال والمجتمع المدني. كما أنها تلحق دماراً بمجمل عملية التعاون الاجتماعي والتخطيط بعيد المدى. وفقاً لذلك، كان احد الأهداف الرئيسية لليبرالية هو منع الملوك من تعريض رعاياهم للأخطار في حروب لا ضرورة لها. وأكد ادم سميث، في هذا المجال، انه ليس هناك الكثير مما يلزم لايجاد مجتمع ينعم بالسعادة والرخاء أكثر من “سلام وضرائب سهلة وادارة مقبولة للعدالة”.
في الجزء الأخير من هذه المجموعة “مستقبل الليبرتارية”، ثمة مناقشة عميقة لايمان اصحاب هذا المفهوم بآفاق التغيير الاقتصادي التكنولوجي الثقافي. لكنهم، يصرون، مع ذلك، على الالتزام الصارم بالمبادئ القديمة والثابتة للحكومة. لا تناقض في ذلك، على الأغلب، فكما يعترف كل المفكرين المساهمين في هذا الجزء، صراحة أو ضمناً، فان المبادئ الليبرتارية التي وضعها جون لوك وآدم سميث والثورة الاميركية والدستور، من شأنها ان توجد اطاراً للتقدم. فعندما يصار الى حماية حق الأفراد في التفكير والاتصال والابداع والتبادل، وعندما نتمسك بقواعد الملكية الخاصة والتبادل الحر والقبول الحر، فاننا نوجد بذلك مجتمعاً يمكن فيه احداث التغيير. وكل انحراف عن هذه القواعد، وكل استخدام للحكومة من أجل اخراج فكرة محددة لشخص ما حول نتائج أفضل الى حيز الوجود، أمر يشكل اعاقة للتقدم.