يسقط الديكتاتور ويبقى النظام!
أمجد ناصر
منذ أمد بعيد لم يعرف العرب ثورة شعبية حقيقية مثل الثورة التونسية. ربما لم يعرفوها قط، على النحو الذي سارت عليه حتى الآن. لندع الانتفاضة الفلسطينية جانباً فهي مثَّلت شكلاً من أشكال النضال الوطني الفلسطيني التاريخي ضد احتلال استيطاني ولم تكن موجهة ضد نظام حكم محلي، فضلاً عن توافرها على قوى سياسية منظمة أمَّنت استمرارها ووضع برامجها وضبط توجهاتها. كان بوسع انتفاضة 17 و18 كانون الثاني/ يناير المصرية عام 1977 أن تكون رائدة على هذا الصعيد. كان يمكن أن تكون الأولى التي تسقط نظاماً لو أنها استمرت ثلاثة أو أربعة أيام أخرى وتوفر لها التنظيم النسبي الذي عرفته الثورة التونسية. لم يحدث ذلك، للأسف، فوئدت الانتفاضة في مهدها وظل صداها الجريح يتردَّد في رائعة أحمد فؤاد نجم التي كتبها من وحيها وغناها الشيخ إمام وصارت واحدة من ‘أدبيات’ جيلي الغنائية. تغلبني الذكرى، هنا، وأراني أخرج عن السياق لأردّد مع صوت الشيخ إمام كلمات أحمد فؤاد نجم الحزينة على مآل الانتفاضة، المتفائلة بقدرة مصر على تكرارها:
سلمي لي ع الولاد السمر
خُضْر العمر
في عموم الحواري
سلمي لي ع البنات
المخطوبين في المهد
لسرير الجواري
واسأليلي بالعتاب
كل قاري في الكتاب
حد فيهم كان يصدق
بعد جهل وبعد موت
إن حس الشعب يسبق
أي فكر وأي صوت
هي دي مصر العظيمة
يا حبيبتي هي مصر.
هذا، تقريباً، كل ما بقي من تلك الانتفاضة التي ‘فاجأت’ النظام والقوى السياسية معاً وكادت أن تعصف بالسادات الذي سماها ‘انتفاضة الحرامية’. وعندما قلت لو أن انتفاضة يناير المصرية استمرت بضعة أيام أخرى لسقط السادات فأنا أحيل، هنا، إلى ما قيل، لاحقاً، إن السادات هرب من القاهرة الى الأقصر بطائرة عسكرية وكان يفكِّر جدياً باللجوء إلى إيران الشاه. نعرف، بالطبع، أن السادات لم يسقط في تلك الانتفاضة ولا في غيرها، وإنما برصاص الجماعات الإسلامية التي أطلق لها العنان في مواجهة الخطر الوحيد الذي كان يعتقد أنه يتهدد نظامه: اليسار!
فيا للعجب الذي لا يبعث على العجب في العالم العربي.
‘ ‘ ‘
هناك أوجه شبه بين انتفاضة يناير المصرية وثورة يناير التونسية (ليس في الشهر فقط)، منها الفساد المالي والاداري، الاحتقان السياسي، القبضة الأمنية، غلاء المعيشة، القطيعة بين النظام ومعظم الشرائح الاجتماعية، إفقار الطبقة الوسطى وتهميش دورها، التبعية السياسية للغرب، تحوّل الرئيس وعائلته الى ما يشبه العائلات المالكة المؤبدة، ولكن هناك أوجه اختلاف بين الحالتين. فلم تكن مصر السادات، في تلك الفترة بالذات، تعرف تكميم الأفواه شبه المطلق الذي مارسه نظام بن علي على التونسيين، ولم يكن الفساد المالي وتسلّط العائلة الحاكمة على أرزاق الناس ومصائرهم قد بلغا الحالة التونسية، ولم يكن احتقار نظام السادات للنخب السياسية والثقافية والحقوقية مشابها تماماً لما فعله بن علي ونظامه، إلى فارق نوعي في دور المؤسسة العسكرية في البلدين، ففي حين أن النظام المصري ابن الجيش وهو المؤهل لملء الفراغ السياسي (في حال سقط النظام)، ليس للجيش هذا الدور في النظام التونسي.
الآن، بعد ثلاث وثلاثين سنة على انتفاضة كانون الثاني/يناير واغتيال السادات ومجيء مبارك وتغوّل الفساد المالي والإداري وتحوّل مصر إلى اقطاعية لـ ‘رجال الأعمال’ المقربين من النظام تمكن المقارنة. الآن المقارنة ممكنة بين الحالة المصرية (والعربية استطراداً) والحالة التونسية، ولو على صعيد التدهور المتسارع للعيش وكرامة الناس وغياب المشروع الوطني والركوع التام للإملاءات الغربية والنهب الإسطوري لمقدرات البلاد.. والأمل المخاتل، القريب والبعيد في آن، بالخروج من هذا النفق المظلم الطويل.
‘ ‘ ‘
أعود إلى عنوان هذه المقالة.
هل يمكن أن يسقط الديكتاتور ويبقى نظامه؟
ممكن.
هذا، في الواقع، ما يحاوله النظام التونسي المترنح بعد فرار بن علي. فليست ‘حكومة الوحدة الوطنية’، على الأغلب، سوى خشبة نجاة لما تبقى من نظام بن علي يتشبث بها للبقاء على قيد الحكم، أو في أضعف الإيمان، للمساومة على ‘تسوية’ تمزج بين عناصر التغيير والنظام السابق. ويبدو أن هناك خطين داخل القوى السياسية التونسية التي شاركت في الثورة، أو التي ركبت موجتها، حيال ما يجري، الأول يرى أن سقوط بن علي كافٍ، بحد ذاته، لفتح أفق للتغيير المنشود، وآخر يرى أن هذا التغيير لن يكون تاماً، ولن يصل إلى مبتغاه، ما لم يقطع مع نظام بن علي برمته. في لحظة محددة بدا أن الغلبة كتبت للرأي الأول فكادت ‘حكومة الوحدة الوطنية’ أن تكون بوابة التغيير الزائف، ولكن الناس الذين صنعوا الثورة والقوى التي ترغب في إحداث قطيعة تامة مع الماضي أعادا الوضع، كلّه، إلى المربع الأول، خصوصاً بعد انسحاب ممثلي الاتحاد التونسي للشغل، القوة الأساسية المنظمة التي ساهمت في تأطير الهبوب الشعبي وتوجيهه نحو برنامج يتجاوز المطلب المعيشي إلى التغيير السياسي الشامل.
هناك، بطبيعة الحال، من يخشى الفلتان والفوضى. وهذه خشية في محلها. ولكن معظم هؤلاء يستشهدون بالمثال العراقي، وهذا استشهاد خاطىء ومضلل. فلا وجه شبه بين سقوط نظام صدام حسين أمام زحف الدبابات الأمريكية على بغداد وفرار بن علي من انتفاضة شعبية سلمية سلاحها الصدور العارية. لا وجه شبه على الإطلاق. ففي العراق كان هناك احتلال عسكري أجنبي وخطة مسبقة لتفتيت الدولة العراقية (وليس النظام السياسي العراقي)، فيما في تونس هناك ثورة شعبية تطالب بالتغيير في اطار الدولة.
كان المعارض التونسي المنصف المرزوقي محقاً عندما قال إن تونس تتوافر على جهاز بيروقراطي كبير وليست في حاجة إلى أركان الحزب الدستوري الحاكم لتشغيلها. فالدولة، الجهاز البيروقراطي، شيء والنظام العائلي الحزبي شيء آخر. غير أن المطالبة بإخراج الحزب الدستوري الحاكم من هيكل الدولة لا ينبغي أن يكون على مثال ‘الإجتثاث’ العراقي. هنا المثال العراقي يطرح نفسه على الوضع التونسي. فعلى الثورة التونسية أن تكون مثالاً عربياً يحتذى به للتغيير السلمي. أن تتفادى نزعة الثأر. أن تتجنب الكلمات التي تثير الفزع مثل ‘الإجتثاث’. أن تكون ثورة سلمية بحق رغم الدم الذي سال وصنع أفقاً جديداً لتغيير سوف يكون له تأثيره في الفضاء العربي الملبد بأبخرة الأنظمة السامة.
القدس العربي