ثورة تونس

إخواننا التوانسة و”صديقنا بن علي السادس عشر”

عبد القادر جمعة
الذي حدث في تونس بدأ احتجاجا فرديا على الظلم والفقر. ثم كان أن تحول الاحتجاج إلى انتفاضة والانتفاضة إلى ثورة. وهذا ما يحدث دائما عندما تتوافر عوامل الانفجار وتتراكم، ويصبح الوضع نوعا من  التمرد الدائم أو الثورة المؤجلة في انتظار الشرارة، وهي شرارة أطلقها محمد البوعزيزي عندما أشعل النار في جسده فاحترق بيت بن علي بعد ثمانية وعشرين يوما. فالشاب الذي ضاقت به سبل الحياة، تنازل مثل غيره عن حقه في المطالبة بنصيب من ثروات بلاده، وحاول أن يصنع لنفسه مستقبلا لا يكلف الدولة شيئا، لكن الاستبداد رفض أن “يتركه في حاله” تماما مثلما قال الكواكبي واصفا  علاقة الفقير بالمستبد: “لا… لا… لا يطلب الفقير معونة الغني، وإنما يرجوه ألا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة، إنما يلتمس منه العدالة، ولا يأمل منه الإنصاف، إنما يسأله ألا يميته في ميدان مزاحمة الحياة…”، وهكذا أشعلت شرارة البوعزيزي حريقا هائلا عمّ تونس كلها.
هذا الحريق المفاجئ والسريع، أضاء بنور لهيبه معالم درب جديد أمام التونسيين، درب تغيير حقيقي، درب قد يمكنهم سلوكه من استكمال استقلالهم المعلّق منذ نصف قرن، وبناء نظام جديد قائم على ديموقراطية فعليّة وتنمية حقيقية وعادلة، حيث يحيا الناس بالخبز والكرامة، فالشرر المتطاير أحرق أول ما أحرق “الصورة”… صورة الواحة الخضراء الهادئة السعيدة، وسط صحراء الفوضى والفقر العربيين، صورة المعجزة الاقتصادية التي رسمها الإعلام الرسمي الموجّه، بدعم من الإعلام الغربي – الفرنسي المتواطئ، احترقت صورة الاستقرار الزائف والتقدم المغشوش، ومعها تلاشت خرافة تحقيق التنمية دون ديموقراطية، الخرافة القائلة بإمكانية رفع نسبة النمو مع دفن الحرية والكرامة، وقد أثبتت تجربة تونس أن المقولة مغلوطة من حيث المبدأ وفاسدة عند التطبيق، لأن التعدي على الحريات يؤدي بالضرورة الى السطو على الأرزاق، والاستبداد هو الحاضن الطبيعي للفساد، ولو لم تشهد تونس ظهور ليلى وأقاربها “آل طرابلسي” رموزا للنهب والنهش في جسد البلد، لكان النظام أنتج مفترسين آخرين لأداء الدور، كانت الأسماء والمواقع سوف تختلف، لكنها في النهاية كانت ستؤدي إلى نتيجة واحدة هي التأكيد على أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”.
ومما ينبغي الانتباه اليه في ضوء حريق نظام بن علي دور الجيش في ما حدث، فالمعروف أن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كان مهووسا باحتمال قيام  بعض “الضباط الأحرار” المصابين بحمى الانقلابات الثورية التي اجتاحت العالم العربي في تلك الفترة، بالاستيلاء ذات ليلة على قصر قرطاج وإصدار بيانهم الأول، فحرص على تحجيم الجيش وتحويله إلى جهاز احترافي صغير مبعد عن شؤون السياسة الداخلية، وهذا ما جعل النظام التونسي، على خلاف الديكتاتوريات العربية، نظاما بوليسيا بامتياز، وكانت المفارقة ان هذا الدور السياسي الثانوي للجيش التونسي، مكنه من لعب الدور الحاسم في نهاية بن علي، بعد رفض قيادة هذا الجيش الدخول في مواجهة دموية للشارع دفاعا عن نظام مريض، وفضلت لعب دول “المسهل” لخروج بن علي مع ضمان استمرار سلطة الدولة في انتظار ماهو آت.
شرر الحريق تجاوز في اللحظة الراهنة، حدود تونس، ليضيء المنطقة العربية كلها، بفضل الانترنت والموبايل وبركة الفضائيات، ويبدو أنه بدأ يبعث شعلة أمل خبت في قلوبنا، التي سكنها يأس مزمن من قدرة الشعوب على التغيير، وعلى استعادة زمام أقدارها. فرغم أن الدخان مازال كثيفا ولم تتضح معالم الغد في تونس، إلا أن ما حدث يؤكد حقيقة واحدة هي قدرة الشعوب على الاستجابة لمواعيد التاريخ وإحداث انقلاب حقيقي في الأوضاع. يحدث هذا بعد أن كادت آمالنا في التغيير تتقلص إلى انتظار تغيير مفروض من الخارج أو خروج مستبدّ عادل يملأ أرضنا أمنا و عدلا بعد أن ملأت ظلما وجورا.
فهل نكون متسرعين حين نسأل، هل  يمكن أن تكون نهاية بن علي  في تونس هي بداية التغيير في العالم العربي مثلما كان سقوط لويس السادس عشر في فرنسا شرارة التغيير في أوروبا؟ ربما يكون الجواب معقدا أو بعيدا، لكن طرح السؤال ضرورة، خاصة ونحن نشهد “ارتعاش” أنظمة عربية كثيرة مجاورة لتونس أو بعيدة عنها.
ويبقى المهم في كل هذا أن اخواننا “التوانسة” كانوا في مستوى البيت الخالد من قصيدة شاعرهم الأول أبو القاسم الشابي حين قال: إذا الشعب يوما أرد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.

(كاتب وصحافي جزائري)
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى