المسلـــخ الثـــوري العــربـــي
فيديل سبيتي
كان لا بد من إطلاق تعابير الفرح لما حدث في تونس، او مشاعر النشوة والانتصار ولو على سبيل المشاركة والدعم كي لا نبدو ضد النضال او ضد اسقاط ديكتاتور حقّر شعبه وجوّعه وخنق حريته وسرقه. فبالطبع لا يرغب أي منا ان ينأى بنفسه جانب الحياد في موضوع تحّرر شعب من نير حاكمه الظالم، كما لا يرغب أي منا أن يتهم بأنه ضد اسقاط ديكتاتور لتحقيق دولة ديموقراطية في هذا الوطن العربي الأشبه بمستنقع، ولكن…
يبدو ان باب “الحرية الحمراء” في عالمنا العربي لا يؤدي الا الى المسلخ. باب المسلخ الأحمر والملطخ بالدماء ينفتح مرتين، مرة أولى حين يقع الانقلاب الأول ويصير صاحبه ديكتاتورا، ومرة ثانية حين يثور الشعب بعد عقود على الديكتاتور ويجد انه ما عاد يعرف كيف يحكم نفسه لشدة الترهل الذي أصاب حركته، او لخلاف على من سيحل محل الديكتاتور في النظام الجديد: الحزب القومي او العروبي او الإسلامي او الأصولي الإسلامي (الشيعي او السني) او اليساري، او الطائفة الكبيرة او تجمّع الطوائف وتجمّع الأحزاب التي لا يربط بينها رابط، أم شخصية تمتع بنفوذ او بصفات كاريزمية خاصة يمكنها ان تكون ديكتاتورا موعودا؟
مسلخ “الحرية الحمراء” لا يحتاج الى دليل للوصول اليه. فالثورات الانقلابية التي وقعت في العالم العربي في القرن الماضي أولا ضد السلطنة العثمانية ومن ثم ضد الانتدابين الفرنسي والانكليزي، كانت تطلب الحرية أولا والخبز ثانيا والوحدة العربية في فترة لاحقة على ظهور دولة اسرائيل، ولكن هذه الثورات أرست أنظمة عسكرية أحسن ما فعلته ليس أفضل من أسوأ ما صنعته أنظمة الانتداب في بلادنا. فبعض الحضارة الذي نتمتع به ورثناه عن الانتداب (مؤسسات-برلمانات ولو شكلية- مرافق عامة…).
وثورات “الحرية” و”الاشتراكية” و”الوحدة” و”الامة العربية” و”الشعوب الأبية” و”الانتصارات القادمة لا محالة”، هذه الثورات أحكمت نير العبودية على رقاب شعوبها بعد “استقلالها” وذلك تحت راية “المعركة الابدية” في مواجهة إسرائيل، وهي التي صنعت شعوبا خاملة وخائفة لم تتحرك من تقوقعها وانهزامها قيد أنملة منذ نصف قرن وأكثر. ومن المعلوم ان صوت المعركة ما زال يعلو فوق صوت الجميع، ولبنان وسوريا وقطاع غزة، أمثلة حاضرة.
ثورات الحرية والخبز الماضية والباقية، خلقت شعوبا أقرب الى الماكينات “المؤدلجة والمنهزمة” لا يبدو ان شخصا او جماعة من بينها يحاول فك الأصفاد من يديه، ولربما هذا هو سبب السحر الذي يبثه ما حصل في تونس. اي أن الشعب التونسي فك اصفاده امام كل شاشات التلفزيون وشاهده كل المصفدين في البلدان العربية والجالسين امام شاشات التلفزيون. ولكن هذا السحر هو نفسه الذي يتلاشى حين ينظر المرء الى ما جلبته الانتفاضات والثورات الماضية (ناصر- قذافي- صدام- الاسد- الثورة الجزائرية…)، وما يحدثه غياب الديكتاتور عن البلاد اليوم.
العراق مثال ساطع عما يمكن ان يحدث حين يرحل الديكتاتور، أقل الممكن هو ان تنتقم الطوائف من بعضها البعض. لان الطوائف تظن ان للديكتاتور طائفة. وثورة اللبنانيين في العام 2005 ومآلها الى “المسلخ” الحالي… مثال ثان.
العراق مثال مسبق عما يمكن أن يحدث في سوريا، وهو بالتأكيد مثال عما يمكن أن يحدث في مصر، دعك من الجزائر وليبيا ومعظم دول الخليج العربي. في كل هذه الدول عندما سيرحل الديكتاتور ستنتقم الطوائف من بعضها البعض، ولن تؤسس نظام الحكم الذي كانت تحلم به. لماذ؟ لان الديكتاتور العربي وعلى خلاف كل ديكتاتوريي العالم، يعمل على اسكات أصوات الطوائف الدينية ويقمعها ليجعلها رغما عنها متساوية ولكن في طاعته، لذا تنفجر هذه الطوائف حين يتركها لشأنها. او لأن الديكتاتور العربي، وهذه واحدة من ميزاته، يضبط خلافات شعبه الكثيرة على ايقاع أجهزة العسكر والمخابرات والحروب الكثيرة او التجويع. فتصبح الجماعات المضبوطة كاللغم الذي ينفلت صاعقه حين ترفع القدم عنه. وهنا لا بد من طرح سؤال:”أيهما على حق. القدم ام اللغم؟”.
لنعد الى تونس… حسنا، هرب زين العابدين بن علي، ولكن من سيحكم من بعده؟ وهل يمكن الركون الى ان القادم الجديد سيحقق مطلبي “الحرية” و”الخبز”. هل من بين الثائرين من حقق ثقافة في الحرية والديموقراطية تمكنه من تحقيق حلم الثائرين؟ ربما لهذا كان يجب الاستعانة بوزراء حكومته مجددا (هذه الاسئلة يمكن طرحها على كل الحالمين بسقوط الانظمة العربية).
هذا لا يعني انه ما كان يجب ان يتم اسقاط الديكتاتور التونسي، او أي ديكتاتور آخر في العالم العربي، او عدم التمني بأن تنتقل العدوى التونسية الى سائر البلدان العربية، لكن ما يحدث في الوطن العربي، في هذه البقعة من كوكب الأرض، هو المثال السوسيولوجي عما قاله كارل ماركس عن الثورات التي لا يمكن ان تتحقق قبل ان تكتمل ظروفها الموضوعية والذاتية التي من دونها ستؤسس لنظم أكثر بؤسا من التي يتم اسقاطها. كل الانظمة العربية وإيران وكوبا وكوريا الشمالية وغزة خير أمثلة على صحة هذه النظرية.
هنيئا للشعب التونسي ولكن يبدو انه في عالمنا العربي أكثر ما يستحق التروي والهدوء هو: الثورة.
( كاتب لبناني)
النهار