“ثورة الياسمين”.. الخبز والحرية مطلب واحد
يوسف بزي
لم تكن تماماً “ثورة مخملية”، كما حدث في التغيير السلمي في تشيكوسلوفاكيا العام 1989، مع ذلك فإن “ثورة الياسمين” في تونس تنتسب إلى سلسلة من الثورات السلمية التي شهدتها دول كثيرة مثل “الثورة الغنائية” في دول البلطيق: استونيا وليتوانيا ولاتفيا. أو “الثورة الوردية” في جورجيا و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا و”ثورة الأرز” في لبنان، و”ثورة الزعفران” في بورما، إضافة إلى “الثورة الخضراء” في إيران.
ورغم تفاوت النجاح أو الفشل بين هذه الثورات، سعت جميعها إلى التغيير السلمي للنظام (عدم اللجوء إلى العنف المسلح) عبر أساليب الاحتجاج الاجتماعي والشعبي والتظاهر والعصيان المدني. وعلى عكس منطق الثورات المسلحة والعنيفة كما في قول ماوتسي تونغ الساخر “الثورة ليست حفل عشاء”، فإن “ثورة الياسمين” التونسية، كما مثيلاتها السابقة، كانت أشبه بـ”احتفال شعبي” امتد طوال شهر تقريباً.
وعلى الأرجح فان هذا النمط من الثورات بات قابلاً للتكرار في بلدان عربية أخرى مجاورة لتونس أو بعيدة عنها. فحسب تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية (18 كانون الثاني 2011) فان هناك خمس دول أصبحت “جاهزة” هي الجزائر، مصر، ليبيا، السودان، الأردن. وطبعاً من غير استبعاد “المفاجأة السورية”. وقد دل على ذلك إقدام خمسة شبان جزائريين على إحراق أنفسهم على منوال ما فعله الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه مطلقاً “ثورة الياسمين”. كما أقدم على الفعلة نفسها أربعة شبان مصريين أمام مبان رسمية في محاولة للتشبه بثورة تونس ودوافعها، وأملاً في استنساخها وتكرارها، طالما أن أولئك الشبان الجزائريين والمصريين يشعرون أن “أسباب الثورة هي ذاتها هنا وهناك. وقد يشاطرهم في هذا الاعتقاد شطر كبير من مواطنيهم.
كذلك ذهبت الحكومات العربية في الأردن ومصر وسوريا والجزائر إلى التوجس والشعور بأن “العدوى” التونسية ممكنة جداً. فالجزائر شهدت أعمال احتجاج قبل أن تندلع في تونس، وهي لجأت إلى سلسلة إجراءات اقتصادية كخفض أسعار بعض السلع وتقديم مساعدات مالية للطلاب، كذلك فان الحكومة الأردنية حذت حذو الجزائر في الإجراءات الاقتصادية، أما في سوريا فقد قررت السلطات زيادة الدعم لمادة المازوت بنسبة 72 في المئة من سعر الصفيحة بكلفة 326 مليون دولار أميركي سنوياً.
لقد تيقنت تلك الحكومات أن السيناريو التونسي ممكن تكراره في بلادها، وأن المخاوف القديمة لتلك الأنظمة من “معارضات” منظمة، سياسية أو أيديولوجية أو دينية متطرفة. حلّت محلها معارضة مختلفة تحمل تهديداً جديداً لبقاء تلك الأنظمة والحكومات. فالحقيقة الكبرى أن الدول العربية شهدت زيادة في عدد السكان نحو سبعة أضعاف خلال ثلاثة أجيال فقط. وهذا أمر مهم جداً لفهم الضغوط السياسية الأساسية التي تواجه هذه المجتمعات. فقد نشأ عن هذا الواقع صراع أساسي جديد بين أحلام الحرية والتنوير الخاصة بالشباب والظلال التي تلقيها السلطة الجامدة. إن أنظمة المنطقة الأوتوقراطية الراسخة منذ زمن طويل تواجه مداً عارماً من الضغط من أجل التغيير.
إن أصوات الشباب، بثقافتهم الجديدة، تتواجه مع الوضع الكئيب القائم. فكما في تونس، اكتسبت في الأيام الأخيرة الصفحات الاجتماعية في مصر زخماً جديداً، وحملت صفحات موقع “فايسبوك” عناوين كثيرة مشابهة لعنوان “مشروع لتحضير طائرة لكل رئيس”. وفي استطلاع أجرته صحيفة “المصري اليوم” عما إذا كانت التظاهرات في تونس ستنتقل إلى دول عربية أخرى، قال 69 في المئة “نعم”.
إن الحدث التونسي أوقف الرهان الذي كان لدى حكومات المنطقة التي كانت تسعى لتعزيز أدوات السيطرة والقمع على حساب أي توسيع مهم للحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية. انها تشعر أن عليها ابتكار طرق ماكرة جديدة للقمع قبل فوات الأوان، إذ إن ما خسرته في التجربة التونسية هو كثير. إذ اكتشف الشباب والعمال والموظفون زيف الخيار بين الرغيف والحرية. فلا حرية من دون رغيف ولا رغيف من دون حرية. إنه مطلب واحد. وهذا الحسم في الخيارات، أي الحريات والديموقراطية وتوأمة الخبز والحرية أحدث انقلاباً نوعياً في “الوعي”. فمع هذا الانقلاب تهافت التخويف التقليدي من التغيير: الخيار بين التسلط أو الفوضى، الخيار بين العسكر والحركات المتطرفة، الخيار بين الديكتاتور والحرب الأهلية.
يقول الزميل يحيى جابر إن هوية “الانتحاري” تغيّرت على نحو مفاجئ وغير متوقّع: إنه يحرق نفسه وينتحر من أجل الآخرين، بينما مع الحركات المتطرفة كان ينتحر من أجل قتل الآخرين.
وهذا الفارق، رغم اعتراضنا الأخلاقي على الانتحار بكل صوره، يشكّل انقلاباً في مطلب جوهري: نريد الجنة هنا لا في الآخرة.
وفي هذا السياق، يمكن القول مع الحدث التونسي إن الشباب العربي الذي لجأ إلى “الإسلام السياسي” السلفي والجهادي والأصولي، بدأ يخرج منه ومن أوهامه. إن “الجهاد” الآن هو الحصول على حق العمل والحياة الكريمة والحرية والدولة العادلة. إنه جهاد من أجل الحياة والرفاه. وبمعنى آخر يمكن التفاؤل بناء على صورة وبواعث “ثورة الياسمين” بأن “الإسلام السياسي” بدأ باللحاق بالأيديولوجيات المفلسة السابقة بشعاراتها الكبرى المرجئة لكل شيء، عدا “محاربة الاستعمار” والامبريالية وتغيير العالم وتحرير فلسطين… الخ.
إن العطالة التي فرضت على العالم العربي باسم القضايا الكبرى لتأييد أنظمة أوتوقراطية وعسكريتارية وتأجيل التنمية والتغيير. انكشفت إلى حد كبير مع انكشاف فساد السلطة وفساد القضايا نفسها. ولا ندري لماذا توقف بث ونشر خبر الفتوى التي أصدرها الأزهر أثناء ثورة تونس ومفادها: إذا انتشر الفساد جاز الخروج على الحاكم. تلك الفتوى يبدو أنها سحبت من التداول. لكن أصداءها لاشك وصلت إلى الجميع.
إن ما طلبته حشود المواطنين التونسيين ليس تطبيق الشريعة مثلاً، ولا “تأميم” الشركات والبنوك والمصانع، بل هي طالبت بالشفافية، بالإصلاح الاقتصادي، بالعدالة الاجتماعية، بحق الحصول على المعلومات وحرية التعبير والقراءة وطلبت حق العمل والخبز وحق تكوين الأحزاب والتعددية السياسية والاحتكام إلى دستور. وهي بهذا المعنى ميزت بين الحكومة الفاسدة والدولة، وهي بقدر ما كشفت وعارضت المافيوية العائلية والمحسوبية بقدر ما كانت تتخيل ليبرالية اقتصادية “بضمير” يساري (نموذج البرازيل مثلاً لا الشعبوية اليسارية في فنزويلا).
لهذه الأسباب ليست “ثورة الياسمين” ثورة “مثالية” بالمعنى الكلاسيكي كالثورة الخمينية والثورة الصينية والثورة البولشيفية. إنها إصلاحية. وهي بحق تنتمي إلى سلالة الثورات “المخملية” التي تتسم عادة بحضور جماهيري حاشد، ونزول الناس اليومي من بيوتهم وخروجهم من أشغالهم إلى الساحات والميادين العامة. وغالباً ما يصبح محور هذه الثورات وموضوعها في الإعلام هو تقدير أعداد أولئك المتظاهرين. فالأرقام هنا تصير معادلة لـ”القوة” التي ستكبح قوة عناصر مكافحة الشغب والشرطة. هكذا يمكننا تذكر تردادنا لرقم “مليون ونصف مليون لبناني” في ساحة الحرية بألوانهم الحمراء والبيضاء، كذلك يمكننا استرجاع صور المتظاهرين الملونين بالأخضر الذين احتشدوا في ميداني “الثورة” و”الحرية” في طهران يوم 15 أيار 2009، والاحتفاء بأرقامهم المليونية أيضاً، وهم الذين لم يطلبوا “العدل الإلهي” بل “نزاهة الانتخابات”.
كما يمكن الاستنتاج أيضاً ان محور كل ثورة مخملية هو الحراك الجماهيري وخروج الحشود المسالمة والعفوية إلى الشوارع من أجل توليد “قوة الشعب” وذلك في صيغة ائتلافية قائمة على أكبر تحالف ممكن بين طبقات اجتماعية وتيارات سياسية، كان النظام القائم يعمل دوماً على تشتيتها وتصديعها ومنع التقائها.
والعامل الجديد الذي أتت به كل الثورات الشبيهة بثورة الياسمين والثورة الخضراء في إيران هو شبكات التواصل الاجتماعي الانترنتية وشبكة الهواتف المحمولة والفضاء المفتوح على التلفزيونات غير المحلية المتفلتة من رقابة النظام.
فبهذا المعنى يتحول سيل المعلومات المتبادلة والقدرة على التواصل مع الآخرين ونشر الصور والأخبار والتقارير والنداءات إلى آلة هائلة تخدم التعبئة والثورة. فالصحافيون في هذا السياق (وهم بطبيعتهم تحرريون) ليسوا مجرد مراقبين، بل بسبب “مهنتهم” على الأقل، يتحولون إلى لاعبين بارزين في الأحداث الجارية.
الواضح في “الثورة الخضراء” و”ثورة الأرز” غير المكتملتين، “وثورة الياسمين” صاحبة الحظوظ الأوفر في النجاح، انها اندلعت واختمرت نتيجة ظروف محلية ونتيجة استعدادات الناس ورغبتها، لكن أيضاً، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، بسبب حماسة غربية دائمة (قد لا تكون كبيرة أو غير متورطة تماماً) وبسبب هذا الإلحاح المتزايد في نشر ثقافة الدمقرطة وعولمتها، خصوصاً في العالمين الإسلامي والعربي، رغم “المغامرة” العراقية التي وإن أسقطت أكثر الديكتاتوريات توحشاً، لكنها عززت التطرف وعزلت الليبراليين وأفزعت الناس من المخاطر المرعبة للإطاحة بالطغاة. فكان لسان حال المواطنين في الدول المجاورة للعراق: إن يوماً واحداً من الفتنة أسوأ من ثلاثين عاماً من الاستبداد. مع ذلك فان “النموذج” التونسي قد يكون أعاد تصويب الأمور: لا تراجع عن أمل التغيير، لكن لا انتظار هذا التغيير من الخارج. والمطلوب فقط من الغرب هو أن “يخون” أولئك الحكام.
المهم الآن أن يكفّ الشبان العرب عن حرق أنفسهم، وأن يتقدموا نحو الحياة أكثر، أما في تونس فبعد استتباب نجاح الثورة يصبح الأكثر أهمية هو إجراء محاسبة علنية رمزية للماضي. أي إرساء حكم القانون في أسرع وقت. فنحن في لبنان ندفع الثمن غالياً لهذا السبب بالذات.
المستقبل