ثورة تونس

تساؤلات أولية حول الانتفاضة الشعبية التونسية

ماجد كيالي
طرحت الانتفاضة الشعبية في تونس العديد من الأسئلة. مثلا، هل ما جرى في تونس مجرد حالة خاصة، أم مؤشّر لولادة حالة عربية جديدة ومغايرة؟ أيضا، هل ما حدث في تونس يشكّل بداية لعهد جديد، تعبّر فيه المجتمعات العربية عن قضاياها الحياتية المباشرة، بدون ارتباط بشعارات قومية عامة (فلسطين والوحدة العربية مثلا)، وبدون أحزاب وأيديولوجيات كبرى؟ وأخيرا، هل يصحّ القول بأنه بات ثمة نوع من الافتراق بين أحوال السلطات والمجتمعات، بين مشرق العالم العربي ومغربه؟
نعم، لقد حفزت الانتفاضة التونسية المجيدة على طرح أسئلة عديدة، بل إنها أحدثت صدعا في حال الركود والإحباط وعدم الجدوى، إزاء واقع المجتمعات وممكنات التغيير السياسي، في العالم العربي، بفتحها أفقا وأملا جديدين فيه، بحيث بات ثمة ما قبلها وما بعدها.
انتفاضة شعبية غير مسبوقة
ولعل الأهمية التاريخية لهذه الانتفاضة الشعبية أنها غير مسبوقة، في نوعها وموضوعها، فهي أول حركة شعبية على صعيد تغيير النظم السياسية، التي حكمت العالم العربي في حقبة ما بعد عهد الاستقلال.
وكما هو معلوم فإن عالمنا العربي لم يتعرّف على حركات شعبية كهذه، ولم يعتد عليها (إذا استثنينا حالة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وهي ضد الاحتلال). وفوق ذلك فإن العالم العربي لم يشهد منذ عقود عديدة، أية تغييرات حقيقية في النظام العربي السائد، حيث إن الأنظمة القائمة لا تتغير البتة، وإذا حدث تغيير ما فهو شكلي فقط، ويتركز في رأس الهرم فحسب.
والأنكى أن هذا التغيير الشكلي لا يحصل بنتيجة حركات شعبية، أو بسبب تغيّر موازين القوى الحزبية أو البرلمانية (التمثيلية)، وإنما يحدث حصرا بقضاء من ربّ العالمين، أو بانقلاب عسكري (من مؤسسة الجيش)، أو بتدخّل خارجي كما حدث في العراق (2003)!
ونتيجة لذلك فإن العالم العربي، وطوال أكثر من نصف قرن، من عمر الاستقلالات العربية، لم يعرف نظاما حاسبه، أو حاكمه، أو غيّره، شعبه بسبب إخفاق، على أي صعيد كان، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، أو أمني.
ومثلا، فقد بقي نظام صدام قائما برغم كل ما تحمله شعبه من معاناة وويلات، بسبب قراراته وسياساته الاستبدادية والمتهورة، وعلى رغم كل ما يحدث في اليمن وغيرها فإن التوجه في هذه البلدان يسير نحو التمديد لرئيس الجمهورية، وفيما يتمزق السودان فإن الرئيس السوداني باق على رئاسته، وثمة نزعة نحو التوريث في مصر، كما في أكثر من بلد عربي!
ويمكن تفسير ذلك بأن أغلبية النظم العربية السائدة كانت قد تأسست بعد انتهاء حقبة الانتدابات الاستعمارية على حاملين، أولهما القبيلة، وثانيهما الجيش، مما طبع الدولة العربية بطابع الدولة الاستبدادية والأمنية، التي تسيطر أقلية فيها على البلاد والعباد في آن واحد.
وقد نجم عن ذلك أيضا أن الدولة العربية نشأت في أغلب الأحوال ناقصة ومجوّفة، حيث لم تنشأ على شكل دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، وإنما على شكل سلطة أقلية مهيمنة على مصادر السلطة والثروة، وعلى وسائل السيطرة المجتمعية (التعليم والخدمات والإعلام)، واضعة نفسها فوق الدولة والمجتمع.
بناء على كل ما تقدم، فإن الانتفاضة التونسية أحدثت خرقا في هذا “الستاتيكو” القائم في العالم العربي، إذ أطلقت مسار تقويض ثقافة الخوف السائدة فيه، وحققت كسرا في بنيان نظم التحكم والسيطرة لدى نظمه السياسية، بعد أن تبين أن هذه النظم، وعلى رغم صلابتها الظاهرة، هي في الحقيقة غاية في الهشاشة، محققة قول الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة** فلابد أن يستجيب القدر
ولابـد لليل أن ينجلـي ولا بـد للقيـد أن ينكـسر
الانتفاضة التونسية والواقع العربي
على ذلك، وابتداء من الحدث التاريخي العظيم في تونس، لم يعد الخيار في العالم العربي قائما بين القبول باستمرار الواقع السياسي المحمول على قاعدتي الاستبداد والفساد، وبين خيارات انتحارية وكارثية، مثل الذهاب نحو الانفصال (كما يحدث في السودان وربما في غيره لاحقا)، أو نحو الفوضى والانقسامات الداخلية (كما يحدث في لبنان واليمن والصومال والعراق)، أو نحو استدراج التدخلات الدولية والإقليمية الخارجية (كما حصل في العراق). فبحسب التجربة التونسية ثمة طريق آخر مغاير، يتمثل في إعادة الاعتبار للشعب، وإعادة الاعتبار للدولة، باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، وهذا هو معنى الدرس التونسي عربيا.
مع ذلك ربما لا ينبغي الذهاب نحو استنتاج متسرّع، ورغبوي، مفاده أن ما حدث في تونس قد يلقى استجابة ميكانيكية في بلدان أخرى في العالم العربي، لاسيما في منطقة المشرق.
بمعنى آخر، ربما يمكن تفسير نجاح الشعب التونسي في كنس النظام الاستبدادي لبن علي، بواقع أن هذا المجتمع بلغ درجة عالية من الاندماج المجتمعي.
فعلى خلاف الوضع في بلدان المشرق العربي، ليس في تونس (كباقي بلدان المغرب العربي) انتماءات أو عصبيات فرعية (دينية أو إثنية أو عشائرية)، يمكن أن تتلاعب بها السلطة لإضعاف المجتمع وبث الشقاق فيه.
أيضا، ليس ثمة تحديات خارجية مباشرة، كالصراع العربي الإسرائيلي مثلا، يمكن أن تصرف اهتمامات الشعب عن قضايا الفقر والبطالة وتدهور مستوى الخدمات، وعن تغوّل واقع الفساد والاستبداد السلطويين؛ وهو ما يضع السلطات مباشرة في مواجهة قضايا المواطنين الحياتية، دون قضايا مفبركة أو مزيفة، ودون ادعاءات وطنية أو قومية.
وفضلا عن مسألة الاندماج الاجتماعي، والانتماء الوطني، ثمة في تونس طبقة وسطى واسعة، تشكل العمود الفقري للمجتمع، مكنتها ظروفها، في التعليم والعمل والعيش، من مواكبة تطورات الحداثة، والتنمية والحقوق، مما جعلها تتطلع إلى محاكاة الركب العالمي.
المعضلة أن الأوضاع في بلدان المشرق العربي مختلفة، حيث ثمة مشكلات تتعلق بالهوية، المعطوفة على الانتماءات والانقسامات الدينية والإثنية والعشائرية، وثمة انشغال بالصراع العربي الإسرائيلي، وكل ذلك يستنزف جزءا كبيرا من طاقة المجتمعات في هذه البلدان، فضلا عن أن هذه القضايا تتيح للأنظمة السائدة تبرير تأجيل عمليات التنمية، والحؤول دون إشاعة الحريات في هذه البلدان، كما تتيح لها اللعب على التناقضات المذكورة، وتعويمها، لتأبيد سلطتها، علما بأن حل هذه التناقضات والانقسامات يتم بإعلاء شأن الانتماء للدولة الوطنية، وتكريس دولة المؤسسات والقانون والمواطنين.
وعلى أية حال ربما يبدو مبكرا إصدار الحكم بشأن تداعيات انتفاضة تونس على بلدان المشرق العربي، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، ولكن مما لاشك فيه أن السلطات العربية الحاكمة ستكون لها ردود في إقليمها، ربما تأتي على شكل ترقيعات أو إصلاحات جزئية، وربما تأتي على شكل معاندة لحركة التاريخ.
انتفاضة شباب بدون أيديولوجيات وأحزاب
الجديد في الانتفاضة التونسية أيضا، أنها حدثت بدون ارتباط بالشعارات الكبيرة، وبمعزل عن الأيديولوجيات الشمولية، وفي ظل غياب شبه كامل للأحزاب السياسية (الزمنية أو الدينية)، فهي كانت انتفاضة شعبية كاملة، وانتفاضة عفوية بمعنى الكلمة.
ويستنتج من الدرس التونسي (وقبله من دروس الهبات في البلدان الاشتراكية السابقة) أن وجود الأحزاب (على أهميتها) لم يعد شرطا لاندلاع الانتفاضات أو الهبات الشعبية، فهذه الانتفاضات والهبات باتت ممكنة، في عصر تطور وسائل الاتصال والمعلومات والإعلام. ويمكن أن نستدل على ذلك من ما حصل في إيران (بعد الانتخابات الأخيرة)، ومما حصل في تونس، حيث لعبت وسائل الإعلام، والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، بتفرعاتها (الفيسبوك وتويتر واليوتيوب)، دورا كبيرا في تنظيم وتوجيه الانتفاضة، والتعريف بها.
وإزاء ذلك يبدو أن الشبكة العنكبوتية، ومواقع الإنترنت الخاصة بالشبكات الاجتماعية، باتت تلعب دورا سياسيا، أو لكأنها تقوم مقام التوسطات السياسية وغيرها (الأحزاب والمنظمات الشعبية والنقابية والمهنية).
وكأمثلة على ذلك يمكن إبراز مثلين من مصر، فقبل عامين قامت فتاة تدعى إسراء عبد الفتاح، من خلال موقعها على “الفيسبوك”، بالدعوة إلى إضراب سلمي، في 6 ‬ أبريل/نيسان 2008، احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية، وسرعان ما لقيت دعوتها استجابة من حوالي 70 ألفا من الجمهور. والنتيجة أن الإضراب نجح، وأطلق على إسراء في حينه لقب “فتاة الفيسبوك” و”القائدة الافتراضية”.
المثل الثاني هو لعامل مصري اسمه ناجي رشاد، قام برفع دعوة على حكومته أمام القضاء لرفع الحد الأدنى للأجور، ونجح في استصدار حكم قضائي بذلك (في 23/3/2010)؛ بغض النظر عن كيفية ترجمة الحكومة لهذا القرار. ومعلوم أن ناجي رشاد خاض حملته عبر موقعه على “الفيسبوك”، الذي يعرض فيه واقع العمل والعمال في مصر، وكان قد كتب في مدونته “هدفي الوصول إلى كل عمال مصر وشعاري (يا عمال مصر اتحدوا) للعمل على تشكيل نقابات مستقلة تتمتع بالحرية والاستقلالية والديمقراطية لكي تعبر عن مصالح العمال”.
وفي الواقع فقد بتنا نلاحظ أن الأجيال الجديدة من الشباب أضحت تدير ظهرها للعمل السياسي الحزبي، في مشرق العالم العربي كما في مغربه، وأن هذه الأجيال الجديدة باتت أيضا، أقل أيديولوجية وأقل تسييسا من الأجيال السابقة، ولكنها بالمقابل باتت أكثر تطلبا، وأكثر حساسية، فيما يتعلق بالمسائل الحياتية والمعيشية، وفيما يتعلق بمواكبة تطورات العيش والحقوق والحريات على الصعيد العالمي، وهذا ما يفسر واقع أن الانتفاضة التونسية، كانت ثورة شباب في طابعها، وفي مطالبها.
من قطبية المشرق إلى قطبية المغرب
بالنظر لكل ما تقدم، ربما يمكن الاستنتاج بأن الانتفاضة الشعبية التونسية أوجدت أيضا، نوعا من الافتراق بين المسار الذي تتجه إليه بلدان المغرب العربي والمسار الذي تراوح فيه بلدان المشرق العربي (على انقساماتها وخلافاتها ومشكلاتها الداخلية والخارجية)، إلى درجة ربما يصحّ معها الاستنتاج بأن بلدان المغرب العربي، لأسبابها، وأوضاعها الخاصة، الداخلية والخارجية، لم تعد مشدودة لمركزية المشرق العربي (التي بدت طاغية على التطورات السياسية والاجتماعية في العالم العربي طوال القرن الماضي).
وتبعا لذلك قد يصح القول بأن بلدان ومجتمعات المغرب العربي، بحكم أوضاعها وظروفها، ربما تتمكن من أخذ مكانة القطب، الذي قد يحفّز مجمل العالم العربي على مواكبة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعلى الأرجح فإن هذا الأمر ينطبق على مصر أيضا، إلى حد ما.
فمصر تبدو حائرة في مصائرها، بين المشرق والمغرب، لأسباب تتعلق بمكانتها فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وإرثها المتعلق بمكانتها الإقليمية وبتزعمها المسألة القومية، وبالنظر لمشكلات السلطة والشرعية فيها.
وخلاصة الأمر فإن الانتفاضة الشعبية التونسية التي أوقد شمعتها، الشاب البوعزيزي بجسده، من أجل لقمة العيش ومن أجل الحرية والكرامة، باتت تشكل منعطفا جديدا ومغايرا، ليس في تاريخ تونس فحسب، وإنما في تاريخ المجتمعات والنظم السياسية في البلدان العربية. وسيكتب التاريخ هاهنا، في تونس، كتبت الصفحة الأولى في سفر الثورة على واقع الاستبداد والفساد في العالم العربي.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى