ثورة تونس

فائـــض الحيـــاة

null
عباس بيضون
لم يعرف بو عزيزي انه، وهو يحرق نفسه، سيتحول نموذجاً، إحراق النفس احتجاجاً غدا وبسرعة شائعاً، كأن الذين يشعلون النار في أجسادهم كل يوم في تونس والجزائر ومصر واليمن لم يعرفوا إلا الآن هذه الطريقة، كأنهم وجدوا أخيراً خلاصاً وهرعوا إليه، يضرم الواحد النار في جسده في ملأ من الناس فيسارع بعضهم إلى إطفائه. هناك ذلك المحامي الذي أضرم النار في قدميه وسار هكذا والناس يلاحقونه إلى ان دخل إلى مجلس الشعب فهتف ضد الأسعار. أي سعر كان الرجل يضعه لحياة كاملة، لا شيء تقريباً، المنتحرون بالثأر لا يحسبون حساباً لحياتهم، يريدون تبديدها فحسب. ربما تغريهم سهولة ذلك. ربما يجدون ان ذلك لا يكلف كثيراً. إنهم، أيا كان الظرف، يملكون ثمن إنهائها. يجدون دائماً وقوداً وعود ثقاب. عود ثقاب، الحياة بسعر عود ثقاب واحد، فجأة يغدو الانتحار مثلاً سائراً، كأن له ضلعاً في التقاليد، كأنه من التراث. يغدو الموت غاية. يتسابق البعض إليه، انه في الغالب احتجاج على الغلاء. لا يبيع المنتحر حياته بسعر غال. إنه يمنحها مجاناً، يبيعها تقريباً بلا ثمن إذا حاولنا أن نجد صلة بين الانتحار وموضوعه، فهمنا أن الحياة رخيصة وإننا نسترخص بذلها، فهمنا أن الحياة في سلم الأسعار ليست الأغلى ولا الأعلى ثمناً. يمكن للمرء أن يسترخص الموت، يمكن للمرء ان يفهم أن سعره كحياة وكقوة عمل ينخفض بازدياد، وانه يأتي يوم يغدو فيه أرخص من المنتجات التي يعجز عن امتلاكها. يمكن ان تغدو حياة إنسان بسعر حذاء، إذا لم يجد حذاء فستكون الحياة بأقل من سعر الحذاء. إذ ذاك سنفضل أن نقتل إنساناً على أن نرمي حذاء. في عالمنا هذا لم يعد الإنسان قوة عمل ليتم تسعيره، في التزايد السكاني والبطالة هناك أشخاص لم يعودوا في دورة الإنتاج. لقد تم لفظهم خارجاً. مع الوقت سيعتادون انهم بلا قيمة ويستطيعون عندئذ أن يتصرفوا بحياتهم مقابل أي شيء. مقابل رمزية خاوية، مقابل احتجاج لن يسمعه أحد لأن لا مشهد الانتحار يطغى على بيان الانتحار. يفتي المشايخ بتحريم الانتحار، إنه إلقاء النفس إلى التهلكة. لن يكون للحياة سعر في الدنيا ولا الآخرة. مزيد من الرخص، مع ذلك يستمر البعض في التسابق إلى الانتحار، لن يعبروا آذانهم للفتاوى، لن يطلبوا من الشيخ أن يثمّن عملهم. لن يسمعوا كلمة الله فيه، لن يسمعوا الكلام القدسي ولا المشيئة الإلهية إذ لم يعودوا، من زمن طويل، في هذا المستوى. لن يفكروا كثيراً في الحياة الأبدية ولا في العقاب. حياتهم أقل قيمة من قشة، أرخص من كيلو خبز. من يتكلم بعد عنها بإجلال، من يعتبرها بعد كريمة، من يفكر بعد بأنها من صنع الله. لقد استطاع المتصرفون بمقاديرهم فعلاً أن يجعلوها حقيرة ونتنة، كأنها صنعت في حضيض غير معروف، في بؤرة فاسدة. استطاعوا أن يجعلوا الإنسان بلا قيمة على الإطلاق، جعلوه فاسداً وموبوءاً كأن لم يصنعه الله. كأن لم يكن صورة الله ووجهه. كأن لم يصنع من مادة إلهية ولم تعجنه يد إلهيه. لقد نسي هؤلاء الذين انتحروا بالنــار أن لهم أصلاً إلهياً، ثم ماذا يعني ذلك إذا لم يشتره أحد بفلسين. ماذا يعنــيه ذلك إذا كــان جائــعاً جائعــاً ومستعداً لأن يبادل هذا الأصــل برغــيف، لقد قتلوا المعــدن الإلهــي في قلب الإنسان، حولـوه إلى جيــفة حيــة. لن يفــــكر بعد في حـياة أبدية، لن يفكر إلا في كونه كــومة جائعــة، معــدة فارغــة وفم بـلا أســنان.
الذين كانوا يحرقون أنفسهم أو يدخلوا السيوف في أحشائهم لأقل غلطة كانوا اليابانيين، كانوا إجمالاً بوذيين لا يؤمنون بالموت ولا يخافونه، أما الذين لا يتوقفون عن الوعظ بالموت ويفتي شيوخهم ضد الانتحار فهم أشخاص جرمتهم الإهانة حتى عظامهم، سحقوا وديسوا فوق أناهم إلى ان لم يبق هناك أنا. ديست أسماؤهم إلى ان لم يبق لهم أسماء. نفهم الآن ماذا جرى للإنسان العربي. تم سحقه مراراً وتكويمه مراراً وجرمه مراراً حتى لم يبق فيه نبض. حتى لم يبق فيه إنسان ولا أنا ولا كرامة. لقد أهين حتى لم يعد يفرّق بين حياته وموته. لقد كمم حتى لم يعد يعرف صوته، لقد جاع حتى لم يعد يميز جسده، لقد أنسي نفسه وجسده وأناه وصار بإمكانه ان يلقيها إلى النار وكأنه يلقي عظماً. صار في وسعه ان يقدم للموت جثة باردة منذ زمن. منذ ولدت ومنذ كانت. لقد أطبقوا على الفم بطوق حديدي وعلى الأقدام بأطواق حديدية وعلى العنق فبات العربي لا يميز نفســه عن طوقــه وصـــار يرمي جسده إلى النار ليتحرر فيها من أطواقـــه. ما عاد يعرف نفسه من الطوق أو من الحائط أو من القيد. لقد رمينا دهوراً في الحمأة وما سموه حياة لم يكن إلا الجلد والعظم، لذا يرمي البعض بأنفســـهم لأي سبب. ليقلبوا جداراً على الساكنين خلفه، ليتحــولوا ألغــاماً ولينفــجروا في جيرانهم.
فجأة نجد ان الحياة هي سلعتنا الوحيدة ولا يعلو نداء للانتحار إلا ويلتحق به كثيرون، لم يعد لدينا ما نقدمه سوى حياتنا. وحدها يمكن ان نحولها إلى قنبلة أو إلى نار مضيئة أو إلى صوت. قال ماركس إن العمال لا يملكون سوى قيودهم. كان يتكلم عن أناس آخرين. بو عزيزي وغيره لا يرمون قيودهم بل يرمون أنفسهم، أن تبـــيع قوة عملك شيء وأن تبيع نفسك شيء آخر. ان تغدو فائضياً وفائــضاً في بلدك وفي العالم، ان تكون مجرد فائض، أن تكره نفســك إلى أن ترميـــها للكلاب، ان تحرق نفسك لتبدو ذات صوت ولتصنع شيئاً ولتجــد إرادة، لترفع جبينك ربما فهذا بالتأكيد شيء آخر. إنها كلمة الأكوام الفائضة من الحياة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى