تونس: مثقفو الماضي القريب ومحاولة الرّكوب
صلاح بن عيّاد
من جسد محمد البوعزيزي النحيل اندلعت ثورة الزيتون، النخيل، الصبار: كلمات في الحدث الذي غير وجه تونس
إذا كانت الأوساط الثقافيّة الفرنسيّة تبدي اليوم، وعلى اثر إطلاق الشعب التونسيّ صرخته، وبصريح العبارة ندمها عن صمتها تجاه ما يجري في تونس لحقب طويلة. وهو صمت قد طال وازداد خطورة إثر تواصله رغم خروج الشارع المثقل من صمته بل وقد عرضت وزيرة الخارجيّة تعاون فرنسا التّام لصدّ المحتجّين. كما اكتفى وزير الثقافة الرّسميّة الفرنسيّة بوصف ما يراه من شرفة منزله المطلّ على البحر في مدينة الحمّامات السّياحيّة.
وهي ذات النظرة الايكزوتيكيّة التي ما زالت تصبغ ملامح الموقف الفرنسيّ، ليثبت الحال هذه الأيام أنّ ذاك الموقف لم يستطع بفعل سحر الجمال السّاحليّ أن يتفطّن لتعب في المناطق الداخليّة التونسيّة. لكن ها أن ‘ الثورة التونسيّة’ تكشف للسّاحة الثقافية الفرنسيّة والغربيّة عموما ثمّ والعربيّة أيضا أنّ صمتا غير عادل خيّم على تلك الأوساط على اثر لعبة مغالطات أحسن النظام الفارّ قوانينها لوقت طويل. وها انّ الصّفحات السياسيّة والثقافية في صحف العالم تتناول من جوانب عدّة ‘ القضيّة التونسيّة’. كان لا بدّ من المرور في مادّتنا عبر هذا المعطى الأساسي حتّى نتأكّد وفي ظلّ ما يجري اليوم من أنّ معضلة ما ستحاصر ما يسمّى المثقّف التّابع للنظام التونسي السّابق كما حاصرت الأوساط السياسيّة والثقافية في العالم الغربيّ.
انكشف الحال أخيرا وأخذت الأسئلة بالتّواتر والحقائق بالانكشاف. فما هي هذه الآلة العجيبة التي حالت بين حقيقة ما يجري في تونس والعالم؟ من هي هذه الأطراف التي حالت بين عيون العالم بأحراره ودبلوماسيه ومثقفيه إلخ…وبين ‘ بؤساء’ متنوّعين في هذا البلد؟. من الذي شارك في رسم ضحكات النظام السّابق مقابل ‘ البؤساء’ الصّامتين؟ إنّه ولا شكّ المثقّف المساند والمناشد والدّاعم معنويّا وفكريّا والذي وصل به الأمر إلى عدم تخيّل تونس بلا بن علي عبر التأطير والتنظير لما يعرف بـ ‘ بن علي خيار المستقبل’. وفي مقابل ذلك لم يجد المثقّف الحرّ سوى العزلة ومحاولة تحسّس المنابر الالكترونيّة أو بعض المنابر العربيّة وخاصّة منها النّاشطة في أوروبّا. وإن نشرت له مادّة في الصّحف التونسيّة فستكون مادّة ميّتة لا علاقة لها بما يجري، تتناول موضوعا غير حيويّ. والدارس الذي ينكبّ مثلا على المدوّنة الشعريّة التونسيّة أن يلمس نفسا يائسا وباهتا عن الحياة والحيويّة. وإنّنا لا نستطيع أحيانا إيجاد تفسيرات لغرق الشاعر الشّاب التونسيّ في تيّارات أدبيّة مثل الصّوفيّة والسرياليّة وغيرهما. وهو أمر قد نفسّره اليوم بسدّ المنافذ والآفاق.
لقد شارك مثقّف النظام – الذي انزاح رأسه – في مغالطة أصبحت سنّة وقانونا لا يمكن مخالفتهما. وهو ما جعل الثقافة حقلا لا يجد صدى في المجتمع، إذ اقتصر على إنتاج معجم رنّان وفارغ من كلّ محتوى أحيانا. على أنّه معجم تمّ افتكاكه من مراحل مهمّة من التاريخ وإفراغه من محتواه الحقيقي. فعبارة ‘ تغيير’ التي مثّلت ظلاّ يستظلّ به النظام السّابق كان مرفقا بنوع من الجلجلة الفكريّة والثقافيّة أبطالها كتّاب وصحافيّون وفنّانون وغيرهم ممّن يبحثون عن فوائد لا تتجاوز أسوار بيوتهم. فلا نستطيع إحصاء الكتب والمقالات والمنتجات الفنّية الباحثة في سياسة يتّضح اليوم للعالم استبدادها عن آفاق زائفة مكرّسة لكل أنواع الفساد. كما هيمن رأسا النظام ( بن علي وزوجته) على افتتاحيّات جلّ الصّحف اليوميّة والأسبوعيّة. كما لا نستطيع في هذا الجانب إحصاء ما كتب عن تلك الزّوجة محاولة تغيير ما يتجذّر في ذهن التونسيّين عن حقيقتها. لقد دخل أولئك الكتّاب في نوع من التنافس في ‘ إيلاء صانع التغيير حقّه’ من صحف تابعة أو مستقلّة على حدّ السّواء. وفي هذا السياق أصبحت الصّفحات الثقافيّة وملاحقها مرقصا حقيقيّا لأولئك الكتّاب، بل ولم تتوان بعض الصّحف عن محاولة توجيه سخطها ونقدها ضمن أسلوب فضائحيّ للمثقّف المهمّش ليصبح نوعا من الأيقونة المثيرة للسخريّة. فلا تتراجع إذاعة من الإذاعات أو بعض الأعمال الدّراميّة عن تصوير ذاك المثقّف على أنه إنسان مأزوم يترنّح في الشّارع الكبير بلا هدف.
وقد لا يخفي على أحد أنّه وفي ظلّ انتشار المنابر الثقافيّة الالكترونيّة وتعدّد القنوات الفضائيّة قد شارك في عزوف المتلقّي عن تلك ‘ الثكنات الثقافيّة’ وعن ذاك ‘ البوليس الثقافيّ’. ولذلك فقط لجأت برامج التلفاز التونسيّ على سبيل المثال إلى إنتاج برامج ذات منحى اجتماعي صرف. وهي برامج تدخل عبرها الكاميرا إلى الوسط الحميم للمتلقّي. أمّا الصّحف فقد ولجت معظم صفحاتها ـ طبعا – الرّياضة التي مثلت مهربا مخدّرا للشباب الذي ثار اليوم بعد صحوته. وتجدر الإشارة إلى بعض البرامج التي يمكن وصفها بالخطيرة منها ما يتوجّه للطفولة بطريقة لا مسؤولة لتحرم الطّفل حياده الفيزيقيّ والمعنويّ إن صحّت عبارتنا. لقد شارك الوسط الإعلامي والثقافي إذن في محاولة تهميش أجيال بكاملها وفي نسف روح الإبداع والتحليل والنقد عندها. لا همّ لتلك الموادّ المقدّمة سوى تكوين مستهلك ذي بطن كبير وبلا عقل. وفي ذلك ينخرط شعراء وروائيّون وقصّاصون ومترجمون وجامعيّون وموسيقيّون وسينمائيّون إلخ… مثلوا نوعا من البوليس لتصفية الحرّ من الوسط الثقافيّ وللتمعّش من عبوديّة للسلطة التي يتبيّن للجميع جورها بعد تمزيق الشعب لشباكه.
الغريب في الأمر أنّ بعض نفس تلك الأقلام تحاول اليوم إيجاد منفذ حتى يركبوا موجة التحرّر ركوبا انتهازيّا مرّة أخرى. انتهازيّة قد تفسّر سرّ السّقوط السريع للنظام الذي جثم على الصّدور والعقول أكثر من عقدين، إذ هو نظام لم يقم على دعائم صلبة هاهي تكشف اليوم أنّها ليست أكثر من وصوليّة تعاني من انفصام فكريّ وثقافيّ وإيديولوجيّ. لا يتراجع بعضهم عن عزل الفكر والثقافة عن هذه الهبّة المفاجئة، محاولين إعطاءها الصّفة الشعبيّة والعفويّة في معناهما الخالي من أيّ نخبة. وهم لا يستطيعون تصديق أنّ ذاك المثقّف المقصيّ الذي لم يستطع مجاراة أو المشاركة في المسرحيّة التي طالت قد انصهر في الشّعب ولزم الكلام في ركنه الضيّق يحاول إيجاد من يقاسمه الهمّ الثقافيّ والوطنيّ.
يواصل اليوم الإعلام تعتيمه رغم بداية انفراج وتخلّص من غلبة اللون البنفسجيّ ( رمز حزب بن علي) ورغم انفتاحه المحترز على الشّارع. فالتلفزة التونسيّة ‘ الوطنيّة’ اليوم والتي كان لها الفضل في تأليه بن علي ونظامه وفي بروز أسماء سيطرت على الإعلام والإبداع معا. وهي أسماء لا يفصلها الشعب اليوم عن العائلات المقرّبة المستفيدة من النظام ورغم ‘ الوطنيّة’ التي تحاول السموّ إليها فهي أي – القناة الرّسميّة – ما زالت تصرّ على جعل الصّورة خالية من حقيقتها أي من الفكر والوعي الثقافي والسياسيّ، فالمحلل السيميائيّ للصورة التي في خلفيّة برنامج مثل ‘ إرادة شعب’ سيلمس لا محالة تعتيما من نوع آخر على مستوى الصّورة هذه المرّة. فأنت ترى حشدا من شعب منتفض بلا تفاصيل للوجوه بينما يتضح الخبز الجليّ ويعلو أفق المنتفض. في تلك الوجوه الممحوّة في خلفيّة الشّاشة يذوب المثقّف والأكاديميّ والسياسيّ والنقابيّ والإعلاميّ المبعد والعاديّ الواعي كما ذاب في السّياسة المخلوعة. فما يسود إعلامنا اليوم يترجم ربّما حالة من المخاض العسيرة ستعيشها الثقافة في مجملها وسنرجو أن تحسم لفائدة شعب ترقّب طويلا تطبيق ما يدرس من قيم إنسانيّة وحريّة على ما يعيش. نحن نكتب أولى حروف الحريّة على المشاهد السياسيّة والاجتماعية والثقافيّة. لقد كان ذلك واضحا في ليالينا الطويلة ونحن نحرس أحياءنا بعصيّ وبأقلام، تلك اللجان الشعبيّة والتي يريد البعض من أبواق النظام السّابق أن يقرّبها إلى مشاهد الفتوات وإلى الجوّ القبليّ القديم مع أنّها ترجمت وبوضوح أنّها حلقات نقاش متأججة بحسّ وطنيّ وبوعي عميق للمسائل المطروحة اليوم.
ثورة الياسمين التونسيّة ـ على اعتراض البعض على هذه التسمية – تضع الشعر والفنّ والتحرّك المشروع المرموز إليها بورد الياسمين مقابل آلة قتلت الشعر والفنّ والتحرّك المشروع، آلة كان لمثقّفين عديدين يد في تركيزه ورسم ملامحه. الياسمين الأبيض الرّمز التونسيّ العريق ينتصر على تلك الآلة الرّهيبة ثقافيّا واجتماعيّا.
شاعر تونسي ومتحدّث باسم لجنة حيّ
القدس العربي