محاذير تنتظر الثورة التونسية
صالح السنوسي
ما حدث في تونس كان مفاجأة لمعظم الناس في المنطقة العربية، ولا سيما الأنظمة السياسية التي لم تكن تتصور أن يصبح شخص أحرق نفسه -لأسباب ظاهرها لقمة العيش- بمثابة الصاعق الذي يفجر مخزن المكبوت السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تراكم لعدة عقود، ويسقط نظاما يمتلك من أدوات الضبط والرقابة والعقاب ما يجعل تصور قيام ثورة شعبية ضده بهذا الزخم وبهذه الفاعلية إلى أن تسقطه، تصورا بعيدا عن الواقعية بالنظر إلى قوة النظام من ناحية وإلى قراءة التجارب العربية السابقة من ناحية أخرى.
فما سمي في السابق ثورات الخبز في المنطقة العربية كانت مجرد هبات مسيطر عليها بوسيلتين في متناول يد الأنظمة العربية، أولاهما القمع بقسوة فيتراجع المتظاهرون الأقل جرأة -وهم الأغلبية الساحقة- بعدما يسقط في الشارع تحت رصاص الأمن بعضُ الضحايا من المحتجين المتصدرين للصفوف الأولى، وبالتالي تتم السيطرة ميدانيا من الناحية الأمنية. ثم يأتي دور الوسيلة الثانية المتمثلة في قرار -على الأغلب- يصدره رأس النظام بزيادة كمية الدقيق وإعادة سعر الرغيف إلى ما كان عليه، لكي يظهر نفسه منزها عن أخطاء تابعيه وخدمه، منحازا إلى الجياع والفقراء بعدما قتل منهم من تجرأ على رفع رأسه والصراخ في الشارع.
كان هذا السيناريو المتكرر في كل هبات الخبز العربية السابقة هو الخلفية التي انطلقت منها تقديرات معظم الذين كانوا يراقبون الأحداث الجارية في الشارع التونسي، ويتوقعون نهاية الصراع بين نظام زين العابدين بن علي والشعب التونسي على غرار ما انتهت إليه تلك الهبات السابقة التي وقعت في بلدان عربية بعضها أكثر فقرا وازدحاما بالسكان.
هذه كانت تقديرات كل الحكام العرب الذين حاول بعضهم -انطلاقا من هذه القناعة- مد يد العون المادي إلى النظام التونسي لكي يتمكن من إنجاز الخطوة الأخيرة في هذه الوصفة الجاهزة في خزانات كل هؤلاء الحكام. غير أن تسارع الأحداث في اليومين الأخيرين فاجأ هؤلاء، ولعله فاجأ بن علي أيضا فحزم حقائبه على عجل ورحل تاركا تونس وأمثاله من الحكام العرب في دهشة مما يرون، فلم يسبق لهؤلاء أن رأوا مشهدا مخيفا لهم إلى هذا الحد في الوقت الذي يثير فيه فرحا عارما ورغبة في تقليده من قبل محكوميهم.
بصرف النظر عن قدرة أو عدم قدرة هذه الشعوب العربية على تمثل المشهد التونسي، فإن الواضح أكثر هو خوفها على هذا النموذج أو هذه التجربة التونسية من التعرض لانتكاسة أو تآمر من محيطها العربي والخارجي، لأن ذلك سيكون بمثابة وأد لحلم بدأ يتشكل على أرض الواقع وانغلاق لأفق يحمل تباشير حقبة تقطع مع ما قبلها من تاريخ هذه الشعوب. والأمرّ من ذلك هو شماتة حكامها فيهم وتجذر منطق التوريث وثبات الأنظمة القمعية واستقرارها وتسفيه منطق التغيير وتداول السلطة والحرية السياسية.
انطلاقا من موقف حرص وخوف هذه الشعوب على تجربة بدأت تحس بأنها ملك لها وليست ملكا للشعب التونسي فقط، فإن منطق العقل السياسي -قبل مشاعر الفرح وبعدها- يقود إلى إدراك جملة من المحاذير التي تتربص بهذه التجربة في كل منعطف خلال مسيرتها في الأيام والشهور القادمة، ولعل أهمها:
1- دخول الجيش إلى معترك الحياة السياسية: يبدو أن الجيش خلال حقبة بورقيبة وبن علي لم يكن له نفوذ ولا تأثير على الحياة والمؤسسات السياسية نظرا لعدم الحاجة إليه في ظل وجود قوات وأجهزة أمن قوية وحزب يسيطر على مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، فبدا الجيش ورقة احتياطية لا يمكن اللجوء إليها إلا في حالة قسوة عندما تفشل قوات الأمن في مواجهة الموقف ويقتصر دوره على قمع الوضع الناشئ ثم الانسحاب من المشهد دون النظر ولو بطرف عينه إلى مؤسسات السلطة. غير أن هذا الجيش لم يقم أثناء الثورة الشعبية الأخيرة بالدور المرصود له في مثل هذه الحالة، وهذا لا شك موقف يحسب للجيش التونسي الذي رفض أوامر إطلاق النار على شعبه، فساهم في نجاح هذه الثورة وهروب زين العابدين بن علي المبكر والمفاجئ.
فلو انصاع الجيش لتلك الأوامر لوقعت مجازر تتضاءل أمامها ما ارتكبته قوات الأمن قبلها ولتعرضت الثورة إلى خطر أكيد، ولكن هذا الدور قد تكون له تداعيات سلبية على الحياة السياسية والمؤسسات التي يجري تشييدها، فهذه المساهمة قد تجعله يشعر بأنه كان أحد الفاعلين في عملية التغيير التي حدثت، وأن من حقه أن تكون له كلمة مسموعة ولو من خلف ستار في كل ما يجري من خيارات وتصرفات سياسية.
فإذا ما استجابت القوى السياسية والمدنية لهذا الطلب صراحة أو غمغمة حرصا منها على تأمين الاستقرار والأمن، فإنها تكون قد شرعنت وجود شريك هو المسلح الوحيد ومن حقه الرقابة والاعتراض والغضب، وقد يصبح في مرحلة لاحقة هو الحكم في ما يثور من اختلافات في وجهات النظر وفي التنافس السياسي بين مكونات المشهد السياسي.
وفي هذه الحالة عودة إلى المربع الأول، أي إلى ما قبل قيام الثورة التي -في هذه الفرضية- سيكون قيامها مجرد فعل شعبي لشرعنة تدخل الجيش وسيطرته على السلطة بقفازات مدنية.
2- تطبيق الوصفة الإقصائية: ظل نظام بن علي يطبق وصفة إقصائية ورثها عن سلفه الحبيب بورقيبة ضد مجموعة من القوى والتيارات السياسية اعتبرها السابق -مثل اللاحق- خطرا على نظامه، ومحاربتها مطلوبة من الغرب، بل تعد شرطا أساسيا للحصول على رضاه ودعمه، فالإسلاميون والقوميون مكونات وصفة إقصائية لا تتبدل، ولكن قد تضاف إليها عناصر ومكونات أخرى حسب متطلبات المرحلة كالشيوعيين في فترة الحرب الباردة أو مسمى القاعدة بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001.
ظل نظام بن علي -حتى في أيامه الأخيرة- يتداوى بهذه الوصفة على أمل أن يقف معه الغرب ضد الإسلاميين والقوميين المعادين للغرب وإسرائيل، وأن يقف معه البسطاء من الناس ضد إرهاب القاعدة وضد الشيوعيين الملحدين، ولكن تعاظم ثورة الشارع وتسارع أحداثها لم تترك فرصة لأحد لتقديم العون فانهار النظام وفر بن علي، ولكنه ترك خلفه ثقافة إقصائية عمرها أكثر من نصف قرن تربت عليها أجيال وخلقت حساسيات بين بعض النخب.
ولعل التصرفات والقرارات التي اتخذت والمشاورات التي جرت بين بعض القوى السياسية بعد سقوط بن علي عكست كلها ثقل هذا الإرث الإقصائي وما يمثله من خطر ينتظر هذه الثورة في إحدى مراحلها القادمة.
إن أخطر ما يمكن أن ينتج عن هذا الإرث هو تحول التنافس الحر بين مختلف القوى في إطار المؤسسات السياسية إلى صراع إقصائي يستخدم فيه كل طرف ضد الطرف المنافس الحجج والأطروحات نفسها التي كان يستخدمها النظام السابق، فيؤدي ذلك إلى بحث كل طرف عن حلفاء إقليميين ودوليين يصبحون شركاء يتحكمون في الحياة السياسية بتونس مثل ما كان عليه الحال إبان العهد السابق.
3- التآمر الخارجي: هناك طرفان كلاهما له مصلحة في التدخل في مجرى التغييرات السياسية الجارية في تونس، فالحكام العرب كلهم أعداء لهذا التغيير رغم أن معظمهم لزم الصمت وبعضهم أعلن العداء، إلا أنه لا أحد منهم يتوانى -إذا سنحت له الفرصة وتوافرت شروطها- عن ممارسة التخريب وإذكاء روح الفرقة والصراع بين مختلف قوى المشهد السياسي التونسي الجديد، خصوصا إذا ما فتحت هذه القوى الباب أمام هذا التدخل عن طريق الصراع والممارسات الإقصائية ضد بعضها بعضا.
أما الطرف الثاني فيمثل القوى الغربية التي وجدت من العبث محاولة إنقاذ نظام زين العابدين بن علي، فاختارت مسايرة الأحداث وأعلنت احترامها لخيارات الشعب التونسي أو امتنعت عن استقبال الرئيس التونسي المخلوع.
فهذه القوى ستحاول التدخل عن طريق إدارة التغيير من الداخل، أي عدم المواجهة والصدام المباشر مع زخم الثورة في الشارع، وإنما عن طريق ما تمتلكه من أوراق ضغط اقتصادية وسياسية وثقافية لكي تضبط إيقاع التغيير وتحدد مساره، بحيث لا تخرج الديمقراطية الوليدة عن الوصفة الغربية المقترحة على المنطقة العربية والتي من أهم بنودها العلاقة مع إسرائيل ومعاداة الإسلاميين والقوميين وتبني الليبرالية في جانبها الاقتصادي وتجذير القُطرية على أنها المحطة والمآل الأخير لطموحات كل شعب من شعوب المنطقة ومحاربة القاعدة والإرهاب.
لقد أقلقت الثورة التونسية قوى الغرب وأخافت الحكام العرب وأشاعت روح الفرح والأمل في نفوس الشعوب العربية اليائسة، ولكن بعدما تتخطى كل هذه المحاذير يبقى سؤال -هو الأهم- عن مدى تأثيرها في محيطها العربي، فهل ستثير هذه الثورة بعد إشاعتها روح الفرح والأمل، روح الفعل الجماعي التي كانت مفقودة في نفوس هذه الشعوب، أم ستبقى حادثا معزولا وبيضة ديك في مزرعة دجاج؟
الجزيرة نت