ثورة تونس

سؤال اليوم قبل الغد: كيف سيغتالون الثورة التونسية؟

مطاع صفدي
هل تتحول انتفاضة الشارع التونسي إلى ثورة بنيوية مستديمة تطال نظام الدولة وحياة المجتمع معاً في وقت واحد. فالانتفاضة المستمرة منذ حوالي شهر تمتاز على سابقاتها من (انقلابات) الشارع العربي المشرقي البائدة منها والمستمرة.
إنها بداية ثورة تحدث في العلن؛ وقائعها اليومية مكشوفة ما بين ساحات المدينة وقصورها السياسية المغلقة، وقد أمست أسوارها شفافة تحت أنظار ثوار الشارع.
ما يُسمَّى بالعملية السياسية الجارية في قمة النظام القديم لا يمكنها أن تجري مناوراتها بعيداً عن رقابة (الشعب). فرادة هذه الانتفاضة/الثورة أنها واعية لأيامها القادمة. لكن المسافة بين الثورة والمدعين لوكالتها لا تزال واسعة. فالثوري العربي هو آخر من يُسمَحُ له باستلام بوصلة القيادة؛ مع ذلك فإن إنجازات الأيام المعدودة حتى الآن من عمر الانتفاضة، تبشر بإمكانية أن يأتي كل فجر قادم بما يختلف عن الفجر السابق.
بين يوم وآخر تنمو سلطة ما للمتغيرات. يقابلها زخم هائل من أدوات (أعداء الثورة) المعهودين. هؤلاء يطلقون خفافيش الليل وعناكب الأوكار التقليدية. فمنذ سقوط جدار برلين مارست أمريكا فن استيعاب الثورات التحررية في شرق أوروبا والباسها مظاهر دول جديدة ذات أنظمة جمهورية زائفة. ثم تَمَّ إلحاقُ هذه الجمهوريات بالاتحاد الأوروبي الناشئ ليكون هو المهندس المشرف على تطورها بحسب القالب المرسوم لها؛ وها هي اليوم تنوء تحت ديون هائلة ناجمة عن عقابيل ذلك القلب المصطنع المفروض عليها أمريكياً أوروبياً، مما يضاعف من واقع تبديد استقلالها الذاتي الملغوم سلفاً منذ (التحرير). وقد أمست أخيراً مع انفجار الأزمة المالية العالمية، عبئاً ثقيلاً على كاهل الاتحاد الأوروبي. مما يجعلُها أشبه بعربات النفايات الأخيرة وراء القطار الأوروبي المتعثر أخيراً حتى في عرباته المتقدمة.
هذه التجربة في وراثة تركات الاتحاد السوفييتي الأوروبية، وبالرغم من أخطائها الاستراتيجية التي تدفع أثمانها من تبقّى من دول الاتحاد الموصوفة بالغنى والمحتكرة لقيادته، هذه التجربة الفاشلة بالنسبة لمخططيها وضحاياها معاً، هي الاستراتيجية المتبقية في جعبة الغرب، أمريكا خاصة، والمرشحة لإعادة تطبيقها على دول معينة من الشرق العربي والإسلامي، كنماذج أولية للمرحلة [المنتظرة؟] القادمة من ثورات الشعوب العربية على نظامها الدولاتي الحاكم، الموصوف بسلطان الإقطاع المطلق المزدوج لكل من الاستبداد والفساد، برعاية التخلف المنظم، وبنوعيْه المتوارث والمكتسب.
ولعل ثورة تونس، برأي بعض الغرب، تشكل المدخل إلى هذه المرحلة الثانية من إعادة تجديد تحالف الاستعمارين الأجنبي والأهلي، بعد أن استنفدت المرحلة السابقة وسائل القمع المتاحة لها. لكن الاختلاف غير المتوقع الذي تأتي به هذه الثورة، ويفاجئ العقل الغربي، وحتى صنوه العربي الرسمي. هو ان الحراك الجماهيري يرفض حتى الآن التخلي عن الشارع. إنه يستشعر بوادر الخديعة. لصوص الفساد والاستبداد يستعدون ليكونوا كذلك لصوص الثورات. قد يتنازلون عن رأس النظام، عن شخصه مع بعض أتباعه، إنقاذاً للنظام نفسه. لكن الشباب التونسي المثقف الذي يجد نفسه في مقدمة المعركة الحالية لن تنطلي عليه ألاعيب عناكب الظلام.
يستطيع النبيهون من قادته التمييز بين مصطلحي الماكرو استراتيجية، والاستراتيجية العادية. الأولى هي التي تشتغل عليها حالياً إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، مع التضحية بمبادئ الاستراتيجية الثانية العادية المستهلكة، التي اتبعتها الرئاسات السابقة في البيت الأبيض إزاء دول الاستقلال الوطني لمعظم أقطار العالم الثالث الناشئة، والتي تتلخص في الالتفاف على هذا الاستقلال وإحباط تنمياته النهضوية الحقيقية. فكان النجاح حليف هذه الاستراتيجية طيلة العقود الخمسة أو الستة الماضية، أوقعت الثورات والانتفاضات والانقلابات في أفخاخ أخطائها الذاتية؛ تركتها تنقضّ على وعودها، تدمّر طلائعها، تحرم شعوبها من أقل حرياتها الإنسانية. هكذا عاشت أقطار العرب والإسلام أشقى عبودياتها التقليدية والمستحدثة في ظل عهودها الاستقلالية؛ حتى تمنَّى معظمُها العودةَ إلى عصر الاستعمار الأجنبي المباشر.
لقد فازت الدول العربية بأعلى الأرقام القياسية العالمية في نِسَب الفقر والمرض والأمّيتين اللغوية والمعرفية، وفي الوقت عينه عاش ملوكها وأغنياؤها فساداً ووحشية وطغياناً لا سوابق لها، تحت أنظار العالم كله. صار حكام العرب وأزلامهم يتبارون فيما بينهم بالأرقام الفلكية التي تختزنها حساباتهم السرية في بنوك الغرب. ها هو أعلى هدر للثروات الوطنية، في تاريخ الرأسمالية العالمية، يسَجِّله المالُ العربي المسروق، كأول فضيحة مطلقة من نوعها، وأبشع وصمة في جبين أخلاقياتها الزائفة أصلاً. فحين تتساقط مجتمعات العرب في هاويات الفساد المعمم، ليس ذلك مرضاً سلوكياً عابراً. إنه الإشارة قبل النهائية لانحلال النهضة نفسها، وتهديدها بأخطر أعطالها الذاتية، بفقدانها لآخر ما تبقى لها من كرامة إنسانها في عين ذاته. فأن يتعرف الناس في بلادنا إلى بعضهم كراشين ومرتشين، وأن تكون هذه الصيغة هي المدخل الوحيد لتقييم المواطنين لبعضهم، لرؤسائهم وأندادهم.. ذلك هو وباء الأوبئة الكيانية كلها. تنتقل الكارثة المطلقة من وضع الدولة الفاشلة إلى وضع المجتمع الفاشل. حيثما لا يتبقى في هذه العلاقة بينهما أي دور لقاض ومتّهم، لمجرم وبريء. فالجميع سواسية في معاقرة الفساد اليومي. لكن أعظم الناس فساداً هم حكامهم حين يرشون ضمائرهم الميتة بأمجاد السلطة المطلقة.
تونس الخضراء تناضل اليوم من أجل استدامة ثورتها، تحاول استئناف الثورة العربية بريئةً من أيديولوجياتها السابقة، ومن تكويناتها الحزبية. لعلّها اختارت لها مستقبلاً مختلفاً عن خمسين عاماً من الانتفاضات العربية المجهضة أو المنحرفة. والسؤال الآن عن بُعْدٍ كما عن قُرْبٍ، يتكلم عبارة واحدة: من سوف يختطف النار من جسد (بو عزيزي) ليشعل منارة خاصة به في رأس الهرم الشعبي. إنها الثورة الباحثة عن قيادتها. فقد عرفت كيف تهدم قلعة الطاغوت، لكن كيف ستبني قصرها الخاص على حطامها. أوروبا الرسمية تخشى على الثورة من (البعبع الإسلاموي)، لكن ثورة الشارع لم تكن صناعة عقائدية لأية جهات دينية أو علمانية يسارية. إنها شعلة الغضب التي ألهبت ثورة الغاضبين الصامتين، لكي يرفعوا أصواتهم عالية أخيراً ما فوق الكبت والحقد والكراهية. من سوف يُمَنْهِج الغضب، ويدجّن الثورة البرية في مؤسسة مدنية.
يقال أن الثورة الحقيقية هي التي تنتج زعماءها التاريخيين وليس العكس. لكن مع ثورات القرن العشرين وراء الأيديولوجيات السلطوية، الشيوعية منها والفاشية في أوروبا، أصبح الاعتقاد بأن الحزب الأيديولوجي هو صانع التغيير العنفي. فالإعداد والتنظيم يشكلان بعض الحركات الشعبية التي قد لا تكون معبّرة حقاً عن إرادة جماهيرية شاملة. فأوروبا القرن الماضي عاشت نماذج الثورة المصنوعة بإرادة فئات تسمّي نفسها طلائع. بمعنى أن المجتمعات الصناعية المتقدمة جاوزت حقبة الثورات العفوية. ولعلها كذلك تخطت بعدها، مرحلة الأدلجات الثورية المنظمة. كأنما أصبح ماضي تلك الثورات الأوروبية المنهارة، هو حاضر التحركات شبه الشعبية في العالم الثالث.
على الثورة التونسية أن تحافظ على وتيرة التحشيد الجماهيري بانتظار ظهور طلائعها الحقيقية من صميم بنيتها. فما تفعله المرحلة الانتقالية ما بين الشارع والمؤسسة الدولاتية، هو مخاض نوع من قانون الاصطفاء الطبيعي المطبّق على تكوينات جماهيرية. من يضمن أن الثوار من القادة المجهولي الوجه والاسم اليوم، سوف يصبحون حكّامَ مؤسساتها المدنية الآتية. قد تتقبل المرحلة الانتقالية موجاتٍ قياديةً من أحزاب وتجمعات المعارضة سابقاً للعهد الديكتاتوري البائد، لكن شرط ألا تنخرط هذه الفصائل في تنازعات فئوية، تحوّل أهداف الثورة إلى منطق الصراع على السلطة ومكاسبها؛ فالخطر الدهري الذي سقطت في امتحانه معظم (ثوراتنا) العربية البائسة هو الكامن في هذا التحول من منطق الثورة إلى منطق السلطة. ذلك أن المسافة العقلية والإجرائية بين المنطقين غاصّة بكل أشكال الأفخاخ والانحرافات، وكانت هي المسؤولة عن إجهاض أعظم آمال الأمة في الحرية والوحدة والعدالة. إنها أشبه باللعنة الميتافيزيقية التي حكمت الثوار العرب بعقدة قدرية مشؤومة اسمها إضاعة الفرص التاريخية العظمى النادرة. فما اكثر أسماء الثورة ومشتقاتها وأقل الثوار بأسمائهم الأصلية، وهم في مراكز القوة والقرار، تحديداً. كل ثورة تعتقد بذاتها أنها مختلفة عن كل مثيلاتها، وأنها فاتحة على عهد جديد للدولة والمجتمع معاً، لكنها مضطرة منذ البدء إلى وضع الحدود ما بين أصدقائها وأعدائها. وعندما تنشغل أكثر في مكافحة أعدائها، فقد تنسى رفاقها القدامى، ومعهم يضيع كذلك مشروعها التأسيسي، كما سوف يتبدد برنامجها المرحلي في عواصف الصراعات القادمة التي لا بد أن تنفجر أمامها في طريقها نحو الأهداف اللفظية.. ما أصعب أن تتحول إلى أفعال.
العالم العربي، وحتى الأوروبي، منذهلان مندهشان، وهما يتابعان الحدث التونسي بما لم يفعلاه منذ زمن طويل. كما لو أن العرب والعالم نسيا معاً ثقافة الثورة. ولكن حين تقع المفاجأة يدخل الناس مجدداً إلى محراب التاريخ، حيثما لا شيءَ لا حدثَ، لا ثقافةَ تموت في ذاكرته الصامتة. فالطغيان ليس أبدياً، وإن ابتكرت أنظمته الحديدية أعلى تقنيات الليبرالية المتوحشة. أساتذتها وعملاؤها في عواصم الغرب والشرق مضطرون إلى مراجعة دفاترهم العتيقة، كيف سوف يغتالون الثورة التونسية، حتى تمسي خاتمةَ الأمل العربي بالحرية، بدلاً من كونها فاتحة العصر لثورة الحقيقة العربية ما فوق أجداثها البائدة.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى