ثورة تونس

فما دهاكم حتى تصموا صديقكم السابق ‘بالمستبد’؟

إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا
من بين الدروس التي يجب على جميع العرب الغيورين على تثبيت الحرية والديمقراطية في وطنهم أن يستخلصوها من الثورة الشعبية في تونس أن الدول الغربية عامة والاتحاد الأوروبي خاصة لن تفعل الكثير من أجل إنجاح جهود الجماعات والأفراد الذين يجاهدون، بنوايا نزيهة وقلوب مفتوحة، في سبيل إسقاط أنظمتهم القمعية السقيمة، وإنما العكس هو الصحيح لاسيما إذا كانت هذه الأنظمة قد أوكل إليها صون المصالح الغربية الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية في المنطقة العربية.
إن المرء يندى له الجبين وهو يتابع سلسلة المواقف المترددة والمتحفظة التي صدرت عن المسؤولين الأوروبيين منذ اندلاع أحداث العنف في جمهورية تونس منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي فلم نسمع واحدا منهم سواء أكان من ممثلي الاتحاد الأوروبي الرئيسيين أو من زعماء الدول الأعضاء ووزرائها يرفع صوته عاليا للتعبير عن وقوف المؤسسة السياسية الأوروبية إلى جانب كفاح الشعب التونسي. ولم تأت التصريحات الداعمة إلا متأخرة وبعد أن تأكد لبروكسيل والعواصم الأخرى أفول نجم الرئيس بن علي. وأكثر من أي حكومة أخرى، تميزت الفرنسية بموقفها ‘المتفاهم’ مع رد فعل السلطات التونسية على التمرد الجماهيري بل ذهب بها الأمر بعيدا لغاية التشاور أمنيا مع المخابرات التونسية وإسداء النصح لها للقضاء على ‘أعمال الشغب’. فلقد انكبت الجرائد الفرنسية وفي مقدمتها ‘لوموند’ على كشف التواطؤ السافر لحكومة باريس مع النظام التونسي عندما كانت الأزمة في أوجها، ويظهر أن المؤامرة المخابراتية تضمنت أيضا إقحام القاعدة في اللعبة الدعائية والصيد في مياه الإرهاب الدولي العكرة كمحاولة زائدة لتجريد الحركة الشعبية من شرعيتها. ولم يتخل الرئيس ساركوزي وأعوانه عن الحذر الإعلامي الشديد في العلن والعمل على مساعدة بن علي في الخفاء إلا عقب هروب الأخير المذل. في تلك اللحظة فقط أسرع الزعيم الفرنسي وحاشيته إلى ‘ركوب عربة النصر’ والتغني بإنجازات الجمهور التونسي والدعوة إلى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي وكل الكلام المعهود في مثل هذه المناسبات عن ‘فتح صفحة جديدة’ و’سيادة دولة القانون’ و’احترام مطالب المواطنين’ وهلم جرا.
وما ينطبق على الزعيم الفرنسي من رياء ونفاق إزاء الانتفاضة التونسية (وحتى عبارة ‘الانتفاضة’ استخدمتها أكثرية الدوائر السياسية والإعلامية بنوع من النفور بسبب دلالاتها ‘الفلسطينوية’) ينطبق أيضا على نظرائه الأوروبيين بدءا بالرئيس الإسباني رودريغيز زاباتيرو ومرورا بالإيطالي سيلفيو برلسكوني (وتعتبر إيطاليا وإسبانيا هما الدولتان الأوروبيتان الأكثر تقربا إلى نظام بن علي بعد فرنسا) وانتهاء بالمسؤولة عن العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي آشتون. ولقد عودنا الممثلون الأوروبيون خلال الأعوام القليلة الماضية على الإشادة بـ’إنجازات’ تونس التي تؤهلها للتحول إلى شريك متقدم (متميز) ومعدلات النمو الجيدة فيها وأدائها الحسن في مجال مواجهة الأزمة المالية العالمية. لقد عزا أولو الأمور الأوروبيون تجنب اللوم على الحكومة التونسية في الأسابيع الأولى من الأزمة إلى الحذر وعدم توفر المعلومات العادلة عما كان يحدث، ولكنهم لم يجدوا غضاضة في شهر كانون الاول (ديسمبر) 2010 نفسه في شجب أعمال تجاوزات قوات الأمن في بيلاروسيا في أعقاب الانتخابات (المزورة على حد قول المعارضة) التي فاز بها الرئيس لوكاشينكو أو قبلها وبما يزيد عن سنة واحدة بشأن اضطهاد أنصار المعارضة السياسية في إيران إثر انتصار أحمد الدين نجاد بالانتخابات الرئاسية، علما بأن المعلومات القليلة أو الكثيرة التي تسربت إلى القارة الأوروبية من بيلاروسيا أو إيران كانت هي الأخرى مضطربة وغامضة وغير واضحة في كثير من الأحيان.
فلا يكاد المرء يراجع الأخبار والتحقيقات التي نشرت في غضون الخمس سنوات الأخيرة حتى يفاجأ بالقدر الهائل من المواقف والأفعال الأوروبية المحبذة لـ’صديقنا’ بن علي. على سبيل الذكر وليس الحصر، تراودنا تصريحات وزير الخارجية الإسباني ميغيل آنخيل موراتينوس حين رجا تحول تونس إلى الشريك المتقدم مثلما جرى مع المغرب في العام 2008. وكان الوزير نفسه قد تباهى بمستوى العلاقات الثنائية الرائعة بين البلدين خلال زيارة قام بها في 2009، أي التباهي نفسه تقريبا الذي طالما تشدق به سائر المسؤولين الأوروبيين. ولقد انتقلت العدوى على ما يبدو إلى زعماء من أمريكا اللاتينية كالرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز ووزير الخارجية البرازيلي ثيلسو آموريم (اختارته مجلة أمريكية أفضل وزير للخارجية في العالم’ في 2010) وقد سافرا إلى تونس بين 2008 و2009. ولكنهما معذوران بحكم البعد الجغرافي وقلة الترابط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين القارة الأمريكية والمغرب العربي كما أنهما لم يحطا رحالهما في المنطقة لتلقين الدروس حول الديمقراطية وقيم أوروبا الإنسانية وإنما للحديث عن التعاون الثنائي.
أجل، كان بن علي يعده الكل في أوروبا صديقا عظيما يستحق الثناء والتقدير لما ‘حققه من تقدم على صعيد النمو الاقتصادي’ واستتباب الأمن في منطقة دائمة الاضطراب كالمغرب العربي فضلا عن حسن تعاونه في ميدان مكافحة ‘إلإسلام المتطرف’. والحق يقال إن ذلك النمو الاقتصادي المفترض لم يكن في الأساس إلا جزءا من الدعاية التبريرية للآلية الأوروبية لكي تسوغ ارتباطه ببن علي. المعجم الاقتصادي الخاص بالاتحاد الأوروبي مليء بالمجاز والكناية ولذا فإن المسؤول الأوروبي إذا ربت على الشريك التونسي أو المغربي أو الجزائري منوها بتحقيقاته الاقتصادية فإنه يريد أن يقول في الواقع: ‘شكرا لك على فتح الأسواق أمام بضائعنا وإلغاء الرسوم الجمركية وتسهيل استثماراتنا ومعاملة شركاتنا بطريقة تفضيلية وتوظيف اليد العاملة الرخيصة في مشاريعنا الإنتاجية الخارجية وإعادة توجيه قطاعاتكم الصناعية والزراعية وحتى السياحية بما يفيد خططنا الإنمائية…’ فمن هنا بدأت خطط الشراكة بين بروكسيل وحوض المتوسط كما رسمتها مسيرة برشلونة في 1995 وهو الأمر الذي يفسر اهتمام الاتحاد الأوروبي الشديد باتفاقيات التعاون وتوطيد العلاقة مع نخب سياسية واقتصادية ‘متفهمة’ تدرك الأولويات الأوروبية بل تقدمها بلا أي حرج على أولويات شعوبها. وما دامت الحكومات الحليفة تؤدي مهامها في مجال الحد من الهجرة غير القانونية وتسهيل أنشطة الشركات الأوروبية (ما يسمونه ‘تحرير السوق’) وترويض البعبع الإسلامي فإن العصابات الحاكمة الجمهورية منها والملكية متاح لها الصول والجول في كل ما يحلو لها.
الأسوأ أن الحجج الرسمية المتخذة لتبرير التعاون مع حكومات لم تبلغ ‘مستوى مقبولا من التطور الديمقراطي” ترتكز في الغالب إلى مقولة ‘الشر الذي لا بد منه’. ليس من الغريب أن تكون معظم الجرائد الأوروبية ومعها الدوائر السياسية قد أمعنت النظر، منذ نشوب أحداث العنف الأولى في كل من الجزائر وتونس، في الصور الملتقطة والتقارير الصحافية المرسلة عن التظاهرات وذلك للتنقيب عن الملتحين (آباء اللحية). كما تنفس معظمهم الصعداء عندما تأكد لهم (أو هكذا بدا لهم على الأقل) غياب التيار الإسلامي عن قيادة التمرد الجماهيري في تونس. ولم تخل الساحة ممن عبر عن سعادته لقدرة الشعب العربي على إسقاط دكتاتور فاسد دون اللجوء إلى الإسلام السياسي. وبصرف النظر عن مدى مساهمة التيار الإسلامي في الانتفاضة التونسية فإن القضية بالنسبة لهؤلاء الديمقراطيين الأصلاء لا تكمن في الاتجاه الفكري للمواطن العربي أو هل التيار الإسلامي يحق له المشاركة السياسية إن كان مدعوما ديمقراطيا من الناس وإنما العنصر الرئيسي هو تنمية الاقتصاد الأوروبي واستثماراته وإقصاء أي جهة قد تعرقل هذا الهدف الأساسي، ولا يهم هل الجهة المعنية مؤمنة بالديمقراطية أم لا.
المؤسف كل الأسف أن تلك المجتمعات الأوروبية المثقفة التي يفترض أنها حسنة الاطلاع على ما يجري في البلدان المجاورة متمسكة بأفكار مسبقة إزاء الواقع السياسي في العالم العربي. لا يمكن لاحد أن يدعي الآن وخصوصا في فرنسا أنه لم يكن يدري حجم الفساد في تونس وبشاعة المخابرات والقوات الأمنية وتألق جماعة بن علي في تزوير الانتخابات والاستفتاءات (آخرها في 2009 عندما فاز بن علي مجددا بالرئاسة بنسبة خيالية مضحكة). لقد اضطرت المعارضة التونسية العلمانية والإسلامية منها على حد سواء إلى الاستقرار في الدول الأوروبية هربا من بطش النظام حيث تسنى لها إفادة الرأي العام الأوروبي بحقيقة ما كان يجري في البلاد. ثم لدينا تقارير منظمة العفو الدولية والكثير من الهيئات الحقوقية العالمية، ثم التحقيقات الصحافية عن قرصنة ‘العائلات السبع’ أو الثماني أو التسع من أمثال الشبوب والطرابلسي والمبروك والجري، أي الرجالات الذين انضموا إلى عائلة بن علي بحكم أواصر القربى والذين استفادوا في الغالب من خطط تخصيص شركات القطاع العام وإحكام السيطرة على المجالات الاقتصادية الإستراتيجية كالهاتف المنقول والبناء والسياحة وصناعة الأنسجة وغيرها. لقد آن الأوان للتعامل مع الحقائق كما هي: إذا كنا راضين عن تآمر حكامنا الأوروبيين مع الملوك والرؤساء العرب المستبدين فنحن في حل من الشعارات الرنانة والحذلقة (‘محاربة الإرهاب، ضرورة الاعتبارات الأمنية، الاستقرار الإقليمي…’). دعونا بالتالي عن الموعظة الديمقراطية وهاتوا الوقاحة: مستلزمات الهيمنة الاقتصادية هي التي تملي علينا التحالف مع قيادات انتهازية فاسدة تحرم رعاياها من العيش الكريم من أجل إملاء جيوبها وجيوب شركاتنا.
إن النفاق الرسمي الأوروبي طفح كيل الصلف والصفاقة ونخشى أن لا تكون علامات التعاطف المتأخرة مع الحركة الشعبية التونسية سوى محاولة متجددة للإبقاء على الماضي ولكن بطرق مختلفة. نقصد إنقاذ ما تيسر من النظام السابق وإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي بعد إدخال كمية مقبولة من التعديلات والتجميل. ونخشى أكثر ما نخشاه أن تكون هذه الحكومات الأوروبية المقززة قد أجرت بالفعل اتصالات سرية مع عدد من الأنظمة العربية المهددة بموجة جديدة من السخط الجماهيري من أجل ‘إرشادها’ والحيلولة دون سقوطها السريع. إن التصريحات المخجلة التي أدلى بها المسؤولون الأوروبيون خلال الأسابيع الماضية، وكذلك ثناؤهم على الزعماء العرب المفسدين ‘الأصدقاء’ مغاربة كانوا أم مشارقة، لا تبين الانحطاط الأخلاقي للغرب وحسب(وحالة النفاق هذه تنسحب أيضا بطبيعة الحال على الولايات المتحدة) وإنما تبين تراجع دور الاتحاد الأوروبي السياسي في العالم. وفي ما يخص القضية التونسية بالذات فإن المحير أننا انتقلنا في لمحة البصر من الافتخار بصديقنا بن علي إلى التبرؤ منه. أو كما تساءل بطريقة إنشائية عضو في البرلمان الأوروبي بعيد’ فصل حزب التجمع الدستوري التونسي من منظمة الاشتراكية الدولية: ‘ألم نعلم حقا من كان بن علي’؟
‘ أستاذ التاريخ العربي المعاصر في قسم الدراسات العربية والإسلامية والدراسات الشرقية في جامعة أوتونما بمدريد. باحث متخصص في التحولات السياسية والديمقراطية في الدول العربية والعلاقات المعاصرة بين العالم الإسلامي والغرب. كتب عدة كتب باللغة الإسبانية حول العالم العربي والإسلامي منها ‘الأوضاع المعيشية في العراق بعد الاحتلال’، 2006 و’الصومال: القبائل والإسلام والإرهاب الدولي’، 2007،’ وترجم عددا من الأعمال الروائية العربية المعاصرة إلى اللغة الإسبانية وكذا من الإسبانية إلى العربية.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى