بعد صورة توك وجسد البوعزيزي…
رشا الأطرش
في ذلك اليوم من حزيران 1963، ولسبب ما، بقي قلب الراهب البوذي الذي أطعم جسده للنار. يخال الناظر في الصورة الشهيرة للراهب توك أن وضعيته التأملية الثابتة تذوب من تلقاء نفسها. الجذع والأطراف، في قرفصاء “اللوتس”، بخار زيت ودخان، في أحد أكثر شوارع سايغون ازدحاماً. هو ليس جسده. تظاهرة راهب واحد، احتجاجاً على التمييز ضد البوذيين في جنوب فيتنام، وجِلدُه يافطته. ليخطّها، اغتسل بالبنزين، وبيدٍ رزينة جرّ عود ثقاب.
عندما يُحرق الجسد اللا-أناني، يعمّ نور “الدارما” لألف ومئتي عام. هذا مكتوب في نصّ يقدّسه توك. مفردات “الدارما” مترادفات في قاموس المؤمنين: الخير، القانون، الواجب، الأخلاق، الصواب، الحق، العدل… لا بد أنها، مجتمعة، تركّب صورة الله.
لم تكن الميديا على ما هي عليه اليوم، ومع ذلك شقّت صورة توك- مُحترِقاً طريقها في الثقافة السائدة غرباً وشرقاً، على البطاقات البريدية، في أغنيات وأفلام وبرامج تلفزيونية. ما زالت تلهم الكثيرين، حتى يومنا هذا. طالبة ثانوية أميركية كتبت أغنية جديدة وحمّلتها على “يوتيوب” فوق الصورة الأيقونة بالأبيض والأسود: “النار، ها أنت تدير الرؤوس من دون أن تصرخ/ الألم/ لن تُنسى/ ليس اليوم/ ليس غداً… غداً ستنشر الصحف المأساة، لكن من يكرّم التضحية”؟
كانت القضية السياسية، التي أراد الراهب البوذي لفت الأنظار إليها، “دنيوية” بطبيعة الحال. إلا أن نضاله ارتدى لبوس الزهد في حياة فانية سيعودها أبداً. احتقار الجسد وإعلاء الروح. حتى القلب الباقي، حُفظ في علبة نقية كذخيرة مقدسة. مطلبه العدالة – سَكَن الروح.
محمد البوعزيزي في تونس، بعد نصف قرن، شهبٌ بشري. سيقلب شوارع بلاده وحُكمها، والتونسيون من بعده غيرهم. صار رمزاً ولم يكن يعلم، بل معلوم أنه لم يكن يقصد. كان فقط يائساً، متفحّم القلب قبل أن يضرم ناره. لم يحتقر البوعزيزي جسده، بل على العكس. دفعته الأزمات المحيقة بجسد لا يأكل ولا ينام ولا يستمتع ولا يُطبّب كما يجب، إلى الكفر بالغد. نَفَّس غضبه في ذاته وهي الوحيدة التي يمون عليها. والذات في وعي البوعزيزي تمثّلت في الجسد، وليس في الروح.
شبان عرب يقلّدونه الآن. لا يحضرهم تحريم قتل النفس في ديانتهم. كآبتهم مطلقة، ليسوا متدينين، أو أنه التلويح بالموت بلا موت. جزائريون وموريتانيون ومصريون يمنّون النّفس بـ”اليوم التالي”، والتلفزيون يزيد النار حلاوة. تضيق صدورهم بفقرهم وبطالتهم وسبل بلادهم المسدودة في وجوههم. لكن أحداً لم يحذُ حذو البوعزيزي قبل سقوط زين العابدين بن علي. هو بريق “النجاح” إذاً. حلم بالتغيير، استبدال البلد، صورة بصورة. وإذا كان التغيير قد جاء ضخماً بعد البوعزيزي، فقد يقبل المشتعلون من بعده، بالأقل، ولو على مقاسهم فقط.
“أنظروا إلي! أنا المتعب البائس!”. يريد المشتعلون أن يصبحوا مرئيين. مألوفة مقولة “كل شيء أو لا شيء”، وهذا غالباً ذروة الغضب أو المجازفة. إلا أن حوادث حرائق الشبان العرب تُسمع منها صرخة أخرى: “أريد شيئاً واحداً فقط (وظيفة، خبز مدعوم، مطعمي الصغير) أو لا شيء من بقائي التعس”. لعل بعضهم يقول في نفسه: سيدركني أحدهم قبل فوات الأوان. واحد من مشعلي أنفسهم استغاث فعلاً بالمارّة. لكنهم سيصورونني، قد يقول. كاميرا تلفزيونية أو هاتف خلوي. لا بد من تواجد هاتف خلوي في يد قريبة. سيكتبون عني في الصحف، يفكّر، وإن لم ينقلب النظام فقد ينقلب حظي.
لم يفكّر البوعزيزي في استنهاض الشارع لخلع النظام، بل زاره بن علي في المستشفى وكان لا يزال رئيساً. الشاب المتعلّم، والمفترض انتماؤه إلى الطبقة الوسطى، ما عاد يحتمل دفعه نحو قعر السلم الاجتماعي. صودف أن السياق التونسي كان جاهزاً ربما في تلك اللحظة، واستجاب لشرارته.
لا ينطبق الأمر على شوارع عربية أخرى لأسباب كثيرة أبرزها الطائفية- “طفاية” الحريق المطلبي ودرع الأنظمة/الأمر الواقع.
لكن النار الآن مغوية. مبهرة، مستحوذة، جبروت من نورٍ وألمٍ وطُهر. فحمها علامة في النفس والأرض، جلاب التعاطف. جهنّم يُبكِر إليها مقلّدو البوعزيزي، غيرةً من مشهد ياسمين تونس. التفكير في بديل وبنائه بعيد. اليأس، الآن، وجه الشهرة. أخيلة مشبّعة تصنع حرائق بشرية، وإفلاس الخيال أيضاً. معظم المستشيطين شباب وبعضهم يحمل شهادة. الإحباط السائل في الشارع العربي قديم، لكن النار الجديدة تبهرجه، تقريباً كما في السيرك. الصورة تزيّن التكرار. التلفزيون، الخلوي، الإنترنت، آلهة يونانية معاصرة. تتدخل في هوامات البشر كأنما، فقط كأنما، لتسيّر أقدارهم. لكن محرقي أنفسهم، بعد البوعزيزي، لا يلهمون أحداً. لا يحوزون حتى عطف حكوماتهم التي أصدر بعضها قراراً بمنع تصوير أو بثّ صور أي من هذه “الحوادث”.
عمر عمليات حرق الذات في التاريخ 1500 عام على الأقل. الدين والوفاء، في أقصاهما، يحفزان اشتعالاً طوعياً. أرملة هندية ما كان لها عيش بعد زوجها، كهنة يسوعيون ابتغوا آلام المسيح، ومؤمنون روس هالهم انقسام الكنيسة… وبدأت “معمودية النار”. غير أن العالم انتبه، أول ما انتبه، لاندلاعة الراهب توك في سايغون. كانت نار قضية عامة، جيّرت الإيمان الأثيري للأرضي المأزوم.
من بعده، وفي سنوات متفرقة، نشبت نيران ذاتية في إيطاليا، تشيلي، تشيكيا، الولايات المتحدة، رومانيا، السويد، الصين، الهند، بريطانيا، وغيرها. واختلفت الأسباب: حقوق المثليين جنسياً، اللجوء السياسي، الضرائب، عرض فيلم سينمائي، السطوة الشيوعية، حرب فيتنام… راح العنصر السياسي- المدني يطغى على فكرة التضحية الروحانية. تطوّرت مؤسسات بأجندات، ومعها القضايا التي تحرّك أحزاباً ونقابات وجمعيات… هكذا، صارت مطالب تتحقق.
روحانيات مجتمع الرهبنة البوذية كانت كل ما يملك، ولم يدخره في نضاله. ربما لهذا تحتفظ صورة توك بكل قوتها. هو المتربع بثبات على ناصية الشارع، واللهب راياتٍ تتصاعد منه خفّاقة.
وجسد البوعزيزي أول أضحية تسبق زوال “إلى الأبد” في سيرة رئيس عربي. في جسد الشاب التونسي تكثفت الأزمات العامة كما هي، من دون إيديولوجيات.
ليس للبوعزيزي صورة مثل توك، كما لم يعنِ جسد توك ما يعنيه جسد البوعزيزي. لكن الإثنين صارا عَلَمين.
أما مقلّدو البوعزيزي من الشبان العرب، فسيُنسَون، على عكس ما تغنّي الطالبة الأميركية. ليس من خلفهم ما دعم ويدعم مطالب أمثالهم حول العالم، فمعظم الرافعات المدنية العربية بحاجة إلى صيانة أو إعادة اختراع.
المستقبل