الياسمين الشجاع: ثورة بلا قائد ضد رئيس بلا جيش
علي جازو
خلال شهر واحد حدث وحسم الزلزال التونسي مصير واحد من أنظمة القمع البوليسي في منطقتنا. لم يكن زلزال دمار، بل كان صحوة حرية وكرامة ضد الدمار وضد الحرمان من حياة حرة كريمة. ما لم يتوقعه أحد صار واقعاً. الحدث التونسي سيسم بفرادته وقوة مفاجأته وسرعته العقد الثاني من الألفية الثالثة. وبقدر ما كانت المفاجأة مفرحة للشباب في منطقتنا، بقدر ما كانت محبطة ومقلقة لكيانات الاستبداد والقمع التي لم تزل تطبق على أنفاس شعوبها، حارمة إياها كرامتها وحرية اختيار نظمها السياسة والاقتصادية والقانونية.
الشرارة الأولى
شكلت الطريقة المأسوية التي قضى بها الشاب محمد بوعزيزي حياته، بالانتحار حرقاً، أمام مرأى الجميع، الشرارة التي سرعان ما عمت “نارها” كامل التراب التونسي، وغدا تعبير” ثورة الياسيمن” أقل دلالة وألطف محتوى أمام شكل الموت القاسي والمفجع الذي اختاره بوعزيزي نهاية لحياته. بدأ الرفض مطلبياً يتمحور حول لقمة العيش وضرورة الحصول على الحد الأدنى من وسائل وحاجات المعيشة اليومية، لكن تكاتف الشعب وحزمه وشجاعته رفعت من سوية الصرخة اليائسة لترتفع عن مستوى الظلم الاجتماعي وسوء توزيع الثروة فتصل الذروة وتطال رأس النظام. وما يلفت في هذا التضامن القوي والوحدة المجتمعية الصلبة، ما جمع التونسيين ووحد جهودهم، خلوّه من سيطرة حزبية معينة، فغياب الرمز السياسي متمثلاً بشخصية حزبية (كل الشعارات المرافقة للثورة تمحورت حول حرية تونس وحرية أبنائها وبناتها) أو توجه فكري معين أضفى على هذا التحرك قيمة جديدة تشير في ما تشير إلى توحد شعبي تجسد واضحاً في التخلص من نظام الحزب الواحد والأجهزة القمعية الملحقة به. هذا من جهة الرفض، أما من جهة العامل فيبدو أن فكراً سياسياً معيناً (لا ماركسياً يسارياً ولا إسلامياً ولا قومياً) لم يحتكر هذا البعد الفاعل، إنما تلاقت النشاطات السياسية الممنوعة، وطول دوام الكبت السياسي، وقوة الحركة النقابية، متمثلاً في اتحاد الشغل ووقوف المحامين مع الحركة المتسعة، إضافة إلى العامل الأهم والأكثر حسماً والذي تمثل في حياد الجيش. فهو رفض أوامر الرئيس باللجوء إلى القوة العنفية المجردة، والمشاهد التي أعيد بثها أكثر من مرة وأظهرت تبادل القبل بين عناصر من الجيش وأطراف من المدنيين رفعت من مكانة الجيش التونسي، لا في نظر أهل تونس فحسب، بل في نظر كل المتابعين. كل ذلك منح الحركة التونسية قوة دافعة مدنية ومتعاظمة، فلم نلحظ دماراً ولا عنفاً فوضوياً إلا في حده الأدنى، فتونس ليست بلد طوائف متناحرة كلبنان أو العراق مثلاً، ولم يدمر الأساس الأخلاقي والمهني كيان النقابات التونسية كما تم تفريغه من محتواه في سوريا، ثم أن الصراع لم يتخذ منحى طبقياً حاداً، ففئة غير قليلة من التونسيين الأغنياء سكان العاصمة والمدن الرئيسية، خرجت إلى الساحات. والذين ملأوا الشارع العريض المفضي إلى مبنى وزارة الداخلية يوم 14 كانون الثاني الماضي، حيث يعذب في أقبيته معتقلو الرأي والناشطون السياسيون، لم يكونوا كلهم من سكان محافظة سيدي بوزيد لا في مستوى التعليم، ولا الوضع الاجتماعي والاقتصادي. الذي جمع التونسيين أعمق من النظريات الاقتصادية والأفكار النظرية ونظام فرز الطبقات الجامد، لقد اجتمعوا على رفض الظلم، فلم تشتتهم الطرق ولا الأفكار، إذ لا فكرة أعمق وأكثر إنسانية وضرورة كيانية من رفض الظلم وطلب الحرية على كل صعيد.
تراجع الدور التنظيمي للأحزاب
لم يدفع العمل الحزبي الناس للاحتجاج ولا إلى مواصلته. لكن الأحزاب المعارضة لحقت بحركة الناس، وجلهم من الشباب، ومما يحسب في صالح الأحزاب المعارضة هدوؤها وسعة أفقها، فهي اعترضت بداية على خطأ دستوري تمثل في تولي الغنوشي الوزير الأول مهام الرئيس الهارب (المتعذر عليه قيامه بمهماته)، وألحت على احترام الدستور، فما كان ممن تبقى في الحكم سوى الرضوخ، وصار المبزع رئيس البرلمان رئيساً موقتاً لتونس، وكلف على الفور الغنوشي تشكيل حكومة، ضمت وزراء من أحزاب معارضة، سرعان ما انسحب منها خمسة وزراء، مع تواصل الرفض والاحتجاج وتمثله لاحقاً بالتخلص من كامل تركة النظام، ومن ضمنها حزب التجمع الدستوري. فتم طرد الرئيس المخلوع من الحزب، ثم انسحب الحرس القديم دواليك، وصار الحزب حزب لا أحد، وأعيدت ممتلكات الدولة إليها بعد أن كان الحزب محتكرها.
وما يمكن استخلاصه من هذا التسارع في تغيير المواقع، حصولها على مسافة حماية من الجيش، الذي ركز عمله على حفظ الأمن وبث الثقة بين مختلف مكونات الحركة السياسية معارضة وحاكمة، فعاد الغنوشي الآخر من منفاه في لندن، وبث التلفزيون التونسي خبر عودته. ثم أن المعارضة بدت ذكية، فهي لم تقطع الصلة مع أجهزة الحكم بشكل جذري كما حدث في العراق (حصل التغيير بفعل عمل خارجي تمثل بالولايات المتحدة التي وضعت بريمر حاكماً..)، إنما بادرت إلى الجلوس معها، على محور واحد، هو الحفاظ على مكتسبات الشعب التونسي. فزين العابدين وقبله بورقيبة، لم يدمرا تونس، فالبنية التحتية متقدمة على كثير من الدول المحيطة كمصر وليبيا، ونظام التعليم أكثر فعالية وتطوراً، والفكر العلماني العقلاني راسخ، وكل ذلك أفرز نخباً وكفاءات على أكثر من صعيد. وعلى هؤلاء يمكن لمستقبل تونس أن يُبنى بهدوء، بعيداً عن كل تطرف ديني، وعن مثالية ماركسية، ناهيك عن ميول قومية ما كان لها جذور في تونس أصلاً.
يبدو التونسيون أكثر تعقلاً وأكثر محبة وارتباطاً ببلدهم، وهم يستحقون الحياة الكريمة، ونحن ننتظر منهم تكامل المثال الثوري الهادئ والذكي والحريص، ليكون شعلة أمل حقيقية ومتجذرة في وسط مظلم وخطير يمضي من قلق إلى قلق كما هو حال لبنان اليوم، أو كما تسمع دوي انفجارات الانتحاريين في بغداد وسواها.
المستقبل