من يتضرر من الثورة التونسية؟
ياسين الحاج صالح
بينما يتعذر تقدير الجهات التي ستستقر الأوضاع التونسية بصورة تناسبها أكثر من غيرها، فإنه يمكن بدرجة أكبر من الموثوقية تقدير أربع جهات متضررة مبدئيا من الثورة.
أولاها نظم الحكم العربية دون فارق بين الممانعة منها والمعتدلة. في هذا الشأن الحكم الأبدي هو دين الجميع ودولتهم. لقد زجت الثورة التونسية جمهورا مليونيا في المجال السياسي، تعودت النظم المعنية ونخبها الحاكمة على احتقاره واغتيابه بالسوء مع شركائها الغربيين. وأعادت مبدأ التغيير السياسي إلى جدول عمل وتفكير المجتمعات العربية ونخبها، بعد أن كان المثال العراقي قد أحبط هذا التطلع، ورفع إلى الصدارة مطالب الأمن والاستقرار. وإذا جمعت احتجاجات الجمهور التونسي بين مطالب العمل والمعيشة من جهة، والحرية والكرامة من جهة ثانية، واستهدفت اجتماع السلطة الأمنية الفظة والثروات الفاحشة في أيدي طغمة نظام بن علي، فإنها تمثل درسا في التربية السياسية لقطاعات من مجتمعاتنا أوسع من تلك التي تخاطبها المعارضات التقليدية. كذلك نالت الأخبار الواسعة عن زوجة الرئيس وصهره وعصبة “الطرابلسية”، وثرائهم الفاحش وجشعهم، من هيبة نخب الحكم العربية. فلكل منها “طرابلسيوها” من أبناء وأصهار وأبناء عم وذوي قريى، وليس أي منها في موقع يؤهله لرمي طرابلسيي تونس بحجر. وفوق ذلك كله كان ممتنعا بالمطلق الحيلولة دون التداعيات الآثمة التي يثيرها سقوط الطاغية في نفوس رعايا نظرائه.
في المقام الثاني تضررت القوى الغربية النافذة، فرنسا بخاصة والولايات المتحدة، فضلا عن إسرائيل. كانت لهذه القوى الثلاث علاقات طيبة مع نظام بن علي، ولقد وجدت فيه متراسا قويا في مواجهة “الأصولية الإسلامية” ونموذجا للحكم السلطوي الحداثوي المظهر ترتاح إليه. وما أصاب السياسات الغربية في العقدين الأخيرين من تلوث شديد بعقيدة صراع الحضارات، ثم بمواجهة “الأصولية الإسلامية” دون اعتناء يذكر عموما بتمييزه عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية بعامة، كل ذلك جعل الحكومات الغربية تفضل نظما “حداثوية” مهما تكن دموية وفاسدة. الديمقراطية مكسب كبير للمجتمعات، ولا يتمناها المرء إلا لمن يحبهم. نحن نتمنى، مثلا، لو أن الحكم في إسرائيل دكتاتوري دموي فاسد، يمارس أشكالا فظة من التمييز بين اليهود، ويذل محكوميه وينكل بمعارضيه، ويكرس الحاكمون فيه أفضل جهودهم كي يخلدوا في الحكم، ثم يقيموا سلالات حاكمة مالكة. ومثل ذلك يتمناه لنا الإسرائيليون ومراكز القرار السياسي والمعرفي المسيطرة في الغرب. ويبذلون من أجله جهودا سياسية وأمنية، وثقافية. وطبائع العلاقة بين القوى الغربية ونظمنا تبيح الاشتباه في أن استمرار من كان رئيس وزراء بن علي رئيسا للوزراء في مرحلة ما بعده، وما قد يعنيه ذلك من إجهاض للثورة، يستند إلى دعم أطراف قوية من وراء الستار. في الميزان مصالح اقتصادية وإستراتيجية، فضلا عن إرادة تطويق العدوى المحتملة إلى بلدان عربية أخرى. ومن علائم الشؤم أن جفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، كان في تونس بين 24 و26 الجاري بغرض “صوغ حصيلة الانتفاضة التونسية”، حسب تعليق لوكالة فرانس برس. ومن تونس طار إلى باريس.
قد يتحفظ المرء عن اعتبار الإسلاميين طرفا ثالثا متضررا من الثورة التونسية، غير أن الاتصال المستغرب لراشد الغنوشي بسيف الإسلام القذافي، وثنائه على حاكم ليبيا الذي انفرد بمجاهرة الثورة التونسية بالعداء، يبعث على التساؤل عما إذا لم يكن لازما رفع هذا التحفظ. على أية حال، كسرت الثورة التونسية منوالا عمره فوق ثلاثة عقود من هيمنة الشكل الديني على الصراعات الاجتماعية والسياسية في بلداننا. ولم يبرز بين شعاراتها الرئيسية شعار إسلامي واحد، ولم يكن الإسلاميون مبادرين لها أو في موقع قيادي فيها، ولم يُرصد أي هجوم على العلمانية أو على مدونة الأحوال الشخصية التونسية، الأكثر تقدمية في العالم العربي. وشاركت النساء مشاركة طيبة في الثورة، سافرات ومحجبات، مختلطات في كل حال مع الرجال. والحدث الذي أطلق الثورة، حرق محمد بوعزيزي نفسه، ليس مما يتقبله الإسلاميون عموما، وبعض الفقهاء الحكوميين سارعوا إلى تحريمه. لكن الأهم هنا أيضا هو نوعية المثال: مدني، شعبي، وطني تونسي، شعاراته تتحرك في عالم دنيوي، ومطالبه حياتية وإنسانية ووطنية. كل هذا يقطع مع التمثيلات الإسلامية لـ”الأمة”، ويضع النموذج الإسلامي للاعتراض السياسي في موقع المتضرر. يقطع أيضا مع استنفاد تمثيل مجتمعاتنا بدكتاتوريات حاكمة وبالإسلاميين، فقد ظهرت تونس مجتمعا بشريا عاديا متنوعا، أكثريته ليست هنا ولا هناك. معلوم أنه يشترك في اعتناق هذا التمثيل الثنائي الإسلاميون أنفسهم، وأطقم الحكم في بلداننا، والقوى الغربية، وشريك إيديولوجي مقرب من الطرفين الأخيرين.
يتعلق الأمر هنا بتيار ثقافي سياسي غير هامشي، هو الشريك الرابع في ائتلاف المتضررين. نسميه التيار الغربوي لكونه يرى العلاقة بين الغرب والحداثة علاقة ماهوية، فلا حداثة ممكنة لدينا دون تغرب سياسي وثقافي وسيكولوجي. والسمة الجوهرية الثانية لهذا التيار الذي يصف نفسه بالعلمانية أنه يرى العالم من منظور مواجهة “الأصولية الإسلامية”، فيكتسب كل شيء آخر قيمة نسبية في أحسن الأحوال، ومعدومة في أسوئها، بما في ذلك نمط ممارسة السلطة، وصيغ تعبئة وتوجيه الموارد الوطنية، وتوزيع الدخل الوطني، والعلاقة بين السلطة والثروة، ونوعية العلاقات بالقوى الدولية المهيمنة، بما فيها إسرائيل. معتدلو هذا التيار تجاهلوا عموما الثورة التونسية. أما المتطرفون فقد تشككوا فيها، وسارعوا إلى إبراز مظاهر العنف والاعتداء على أملاك خاصة بعيد فرار بن علي، رغم أنه كان واضحا منذ البداية أن من بادروا إلى ذلك هم من بلطجية النظام؛ وهم بعدُ لا يكفون عن التبشير بأن البديل الوحيد عن النظام هو الإسلاميون.
طوال عقود أقام هذا التيار في عالم ذهني يكون في أتم استقراره ويقينه بالصواب الذاتي حين تكون مجتمعاتنا في أسوأ أحوالها. حتى تحول تطلب سوء الحال إلى رسالة ونضال، وحتى تطورت الغربوية إلى دوغما خاصة فقيرة في محتواها الفكري والأخلاقي، ضعيفة الروابط مع الواقع المتغير، وقوية الروابط مع مؤسسات وأجهزة ميسورة. فإذا حدث ما يخلخل ثوابت هذا العالم الذهني، وما يشير إلى أن مجتمعاتنا مثل غيرها تماما، ليست أفضل، لكن ليست أسوأ، استشرس القوم لإثبات ما كانوا يعرفونه دوما: نقصنا الجوهري وقلة عقلنا الدائمة.
ما يجمع الأطراف الأربعة هو نزعتها المحافظة المتطرفة، واحتقارها للجمهور العام ومبادراته المستقلة، وصدورها جميعا عن خطاطات مكتملة في شأن التاريخ والحقيقة والخير، متمركزة جدا حول الذات. القوم كاملون. وكل شيء غيرهم ناقص إذن.