الرجل الذي غنّى لتونس
عناية جابر
مشهد تونسي سوريالي (في الحقيقة سورياليته من كونه مشهدا عربيا في الأساس) تفـــــوّق بالنسبة لي على مشاهد سواه. مشهد يبقى في ذاكرتي طويلاً بعد، نقلــــته كامــــيرا هاتــــف ما على مــــا بدا، واخشى أنه غــــير حــقيقي ومحض إملاء خيالي الوافــــر. مشهد ليس بالطــــبع ذلك الذي أخـــــذ بجســـد البوعــــزيزي حرقاً، ذلك ما لا طاقة لي على الترّيث عــــنده، وما أشحت عنه، وكنت من الذهول حتى أن البكاء فاتني، وحلّ خطب في عقلي، أغفلني عمّا حولي.
ثمة إذن، ذلك المشهد الذي أتكلم عنه الآن، ولا أدري حقيقة ان كان استوقف أحدا سواي، رآه وشهد حقيقة حدوثه. رجل تونسي نفر فجأة، من أحد البيوت، الى شارع خال وفسيح، في ليل مسترخ على المدينة، لامع ونديّ. رجل خرج كظبي شارد في ليل تونس، والليل دائماً أقل قسوة من النهار، وشرد في الشارع في وقت حظر تجوّل. رجل خرج الى الشارع غافلاً عن أيّ حظر، يهتف لنصرة تونس ويُغنيّ لها.
مشهد أمدّني ببهجة غامرة، بثتها اللحظة الخاصة للرجل، والتماسك العنيد الذي متّع مشيته في الشارع بكل ما هو جديد وغريب. هل رأى احدكم المشهد؟ أم هو خيالي زيّن لي رجلاً هاشلاً في شارع فارغ في إملاء حظر التجول، يترنّم بتونس ويُهدهد نومها.
لقد أراد وبيأس كل ما يجعل الأحلام ممكنة التحقق.
أن يكون بوسع الحاكم تقديم وعود دون أن تكون لديه أية نيّة في برّها، ذلك أمر جعل نبرة الرجل حزينة، أرسلها عن وعود صارت عدماً وهباء، وغنّى لتونس وحدها وقد انتشلت من حاكمها.
مشهد رجل في ليل تونس المحظور، ويحدث في داخله أشياء جديدة وغريبة، ولا يزال يبدو عليه الغضب، لا تزال نبرة صوته متهدجة قليلاً، أماّ ما اخافه فكلّهُ مُنته، وكل أغراض المشهد ناعمة وحريرية.
اختفى خوفه لحظة قرّر أن تونس مفرودة الآن لأهلها، ومجرد وجوده في الشارع هادىء ووحيد، أكثر قوة، وأكثر حرية في حب تونس، منحهُ المقدرة على توبيخ الحظر، وصارت دعساته سريعة سهلة العبور، ورجعها رقيقاً ومُنغّماً..
لم يكن لحظة خروجه الى الشارع عاقلة، بل بدا مجرّد طفل كبير خلصت ساعات دروسه الثقيلة وآن أوان عودته الى البيت، ولا بدّ أن الملايين مثله، اطفال كبار ينظرون من خلف زجاج نوافذهم الى سانحة اللقاء بتونس الحلوة. أطفال كبار طال سجنهم في مكان ضيّق وتاقوا الى توسيع زاوية الرؤية، وإلى كشف لكامل الوطن، شاءه الحاكم غير مرئي.
خلف النوافذ انتظر التوانسة طلوع الصباح، بعد عقود من الليالي المتصلة، وكان القهر ينهش قلوبهم. الرجل الذي خرج الى الشارع، وحده تحت عين الكاميرا وغافلاً عنها، بدا لي أشبه بشبح هاشل تصلني منه نبرته المنتشية، في حين لا أميّز تماماً ما يقول. الكاميرا لا تلتقطهُ كصورة أو فوتوغراف، تلتقط صورة فعلته أو عنوانها. الذين بقوا خلف الأبواب بسبب الحظر والخوف، أحرجوا الكاميرا من مكوثهم بعيدين عنها ومنتظرين، أحرجوا الكاميرا وأحرجوني وأحرجوا أنفسهم بما في مكوثهم دون الرجل، من شهوات الى الخارج الذي جال فيه وحيداً.
مجال الرؤية للكاميرا لا يطال سوى جزء الشارع ورأس الرجل، وأحياناً جسده بحسب ارتجاج الكاميرا، كما لاح شطّ قليل بقي أسود وامض ومخملي، والمؤكد أن خروج الرجل في ليل الحظر المُهدّد، منح الكاميرا لحظتها الإستثنائية.
رجل في عراء الليل الممنوع، سبغ على اللقطة صفة الواقعية السحرية، وهي صفة يصحّ اعتبارها خيالية، ومرتكزاً بالغ الدلالة لرغبتنا نحن الرائين الى المشهد، كما يصّح اعتبارها الهيكل الإجمالي لحلم يتحقق أمام أعيننا.
رجل خرج الى الشارع في وقت حظر هستيري، لا يقف خروجه عند فكرة تحدّي الحظر، والتوق الى الإعلان للعالم، للشاطىء، لليل، لإسفلت الشارع أن الطاغية رحل وأن عنق تونس في حلّ من قبضته، فما الحاجة بعد الى انتظار الصباح؟
غنّى الرجل على ما سمعت، وإن فاتتني كلمات أغنيته، لم أميّز منها سوى كلمات ‘تونس، الخضراء، الحلوة’
من رأى المشهد يعرف تماماً قوة حضوره. الرجل وحيداً في الشارع، ومع أول إطلالة لضوء الصباح ينضم اليه كل من تريّث خلف بابه، يكبر الحشد ويغدو جمهوراً في نباهة النهار الذي استوى على تونس كلها، النباهة التي كشفت همّاً مركزياً، غير رومانسي، لناس هذه التونس العظيمة.
لعل حركة العين التي تابعت الكاميرا مُظهّرة الرجل، ومعه تصرّف جسده وثباً وركضاً ودعسات ذات خيلاء، أوفر حمولة بدلالاتها من الكتابة، وأوفر من الشعر. الكاميرا جعلت مصير بلد برمّته، وتحديد مستقبله ومآله، رهناً بحركة رجل، منتصرة وزاهية. وبدا ميزان الإنتماء الى تونس جديدة وحرّة، رهناً بانفلات الرجل الى الشارع في خطوة ليلية محظورة، أعلت من درجة الإنتماء، مستأهلة بلوغ ذروتها.
ناصر العويني.. صوت الثورة التونسية
ماهر خليل-تونس
الساعة تشير إلى الثامنة مساء بتوقيت تونس من يوم 14 يناير/كانون الثاني الجاري، كل التونسيين كانوا قابعين أمام أجهزة التلفزيون بانتظار حدث هام جدا سيعلن عنه بعد وقت قصير، حدث ارتجفت لإعلانه القلوب ودمعت لسماعه الأعين، ليس ذعرا وهلعا وإنما فرحا وسرورا.
في تلك الليلة المشهودة، كان ناصر العويني -وهو محام شاب- كغيره من التونسيين يتابع أهم خبر يذاع على شاشة التلفزيون الرسمي منذ عشرات السنين، وهو “الرئيس زين العابدين بن علي غادر البلاد فارا إلى وجهة غير معلومة”.
يروي العويني للجزيرة نت أنه أجهش بالبكاء لدى سماع النبأ الذي انتظره طويلا، وأن مشاعر اختلجت بوجدانه في تلك اللحظات، أدخلته في حالة فرح هستيري جعله يقدم على تصرف حوّله إلى أحد أبرز رموز ثورة الشعب التونسي التي سماها هو نفسه “ثورة قوى الخير ضد قوى الشر”.
وقال المحامي الشاب إنه نزل من شقته الكائنة في نهج باش حانبة المحاذي لشارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة التونسية، غير مكترث بحظر التجول الليلي، ومطلقا العنان لحنجرته التي باحت بكلمات اختزلت سنوات من القهر والقمع والظلم الذي سلط عليه بشكل خاص وعلى عموم التونسيين بشكل عام في زمن الرئيس المخلوع بن علي.
وأضاف أنه توجه في تلك الليلة إلى وسط الشارع المقفر من المارة وبدأ يصيح بأعلى صوته “بن علي هرب.. بن علي هرب”، في مشهد كأنما حاول من خلاله محاكاة الجماهير التي خرجت في مظاهرة مليونية في الشارع ذاته قبل سويعات تنادي برحيل الرئيس بن علي.
تصوير
وقال العويني إنه من شدة تأثره بما كان يردده، نزل أحد السكان لتصويره بكاميرا هاتفه الجوال، كما بينت لقطات فيديو أخرى نشرت لاحقا على موقع فيسبوك وتناقلتها أغلب المحطات التلفزيونية العالمية أن سكانا آخرين صوروه من شققهم المطلة على الشارع.
هذه اللقطات التي نصبت العويني رمزا لثورة تونس، أظهرته وهو يردد بصوت عال وبلهجة تونسية “يا توانسة يلي غبنوكم.. يا توانسة يلّي عذبوكم.. يا توانسة يلّي قهروكم.. يا توانسة يلّي سرقوكم.. تنفسوا الحرية.. شعب تونس هدالنا الحرية.. يحيا شعب تونس.. تحيا تونس العظيمة.. المجد للشهداء”.
وقال أيضا “يا توانسة ما عادش خوف.. المجرم هرب.. بن علي هرب.. شعب تونس حر.. الشعب هو اللي يحكم.. يا شعبنا يا عظيم.. يا شعبنا يا باهي.. يا شعبنا يا غالي.. تنفس الحرية.. العظمة لتونس.. البقاء للشعب التونسي.. رانا تحررنا، وبن علي هرب.. هرب”.
وقال محدثنا إنه ظل يردد ما يختلج في صدره قرابة الأربعين دقيقة حتى بُح صوته ولم يعد يقوى على الكلام، عندها اقترب منه أحد الجنود المرابطين في الشارع وطلب منه بكل أدب المغادرة لأن البلاد في حالة طوارئ.
تاريخ نضالي
وعن تاريخه النضالي، قال الناصر وهو من مواليد بلدة بئر علي بن خليفة من ولاية صفاقس جنوبي تونس، إنه بدأ كناشط سياسي في الاتحاد العام لطلبة تونس عندما كان طالبا في تسعينيات القرن الماضي بكلية الحقوق في تونس.
وأضاف أنه عانى في تلك الفترة الأمرّين من نظام بن علي الذي لفق ضده تهما كلفته السجن تسعة أشهر عام 1999، “ولم يكتف جلادو بن علي بذلك، بل واصلوا مطاردتي وانتهاك حرمة حياتي الشخصية.. تصور أني كنت أسمع طرفا ثالثا يتابع كل مكالماتي الهاتفية، وأني بقيت أربع سنوات بلا بطاقة شخصية حتى لا يعرف مكان إقامتي وأتجنب مضايقاتهم اليومية”.
وعن الثورة الشعبية التي شهدتها تونس، قال العويني إنه كان “يشتم انهيار النظام قبل أسابيع من وقوعه، وجثة النظام كانت تتعفن يوما بعد آخر، وقد أظهرت القطيعة بينه وبين الشعب مؤشرات توحي بالعد التنازلي لحكم الطاغية وزبانيته”.