ما يحدث في لبنان

إلغاء الطائفية السياسية أم إلغاء ما يلغيها؟

null
مصطفى علي الجوزو
وزير سابق شابّ، كنت أعجب بأحاديثه بعد تركه الوزارة، أدهشني وهو يدّعي أن حكم المسيحيين للبنان كان الأمثل، ويتحدى من يخالفه الرأي بأن يدعو أي باحث حيادي إلى المقارنة بين العصر المسيحي والعصر غير المسيحي في لبنان؛ يعني زمن ما قبل الحرب الأهلية الذي سادت فيه المارونية السياسية، وزمن ما بعد الطائف الذي غلب عليه حكم الساسة المسلمين؛ ولم يخطر في باله ذلك المثل العامي القائل: «كما حنّا كما حنين»؛ كما لم يتذكر، وهو المثقف الألمعي، بعض الدراسات العالمية واللبنانية التي تناولت التاريخ السياسيّ للبنان الحديث، والتي لم تذكر شيئاً يدعو إلى فخر حنا أو حنين، على الصعيد السياسيّ. ولولا الإرث التاريخي الطائفي الذي يحرك عقول كثير من اللبنانيين، وحتى المفكرين، ويعطل موضوعيتهم العلمية، لتذكّر وزيرنا الهمام أن الحرب الأهلية، سواء كانت حرب الآخرين على أرض لبنان بأدوات لبنانية، أم كانت حرب اللبنانيين في ما بينهم مستعينين بالآخرين، وجالبين الدببة إلى كرومهم، هي نتاج ممارسات ما ادَّعى الوزير أنه حكم مسيحي، وذلك غير دقيق على كل حال؛ كما أنها نتاج خططه الطائفية. ولو كان صاحبنا حريصاً على سمعة طائفته، لكان عليه أن ينفي المسيحية عن الحكم السابق للحرب الأهلية في لبنان، حتى لو كان يعتقد خلاف ذلك.
وغني عن البيان أن الدولة اللبنانية التي أراد لها مؤسسوها أن تكون وطناً مسيحياً، وأن تكون البنت الأثيرة لفرنسا أمّ الكثلكة، بدت، في بداياتها على الأقل، جزءاً من المنظومة العنصرية الطائفية التي عمل الاستعمار الغربي على إنشائها، لحفظ مصالحه، ولمواجهة أي توحّد عربيّ يهدد تلك المصالح، بحيث تغلب الإيديولوجية الطائفية على الدويلات الناشئة، الخارجة صورياً من ربقة الاستعمار، ويسهل تحريك العامل الطائفي كلما استشعرت دول الاستعمار خطراً على مصالحها، فتتقاتل الطوائف في ما بينها بدل أن تقاتل الاستعمار، وبدل أن تنشئ إمبراطورية عربية تهدد تلك المصالح تحت شعارات مختلفة، أهمها شعار الوحدة العربية. بل ربما أريد للبنان أن يكون رديف إسرائيل وحليفَها في مواجهة المشروع العربي القومي.
ولذلك حرص الغرب على أن تكون له الكلمة المسموعة في اختيار رؤساء الدولة اللبنانية ووزرائها وكبار موظفيها، وكان من الطبيعي أن يختار رؤساءَ جمهورية يدينون بالولاء له، ويستطيعون بصلاحياتهم شبه المطلقة أن يحققوا السياسة ويعيّنوا الإدارة التي تخدم مصالحه، سواء كان على رأس الإدارة مسيحيون أو مسلمون. ولذلك يُدخل الباحثون في المارونية السياسية الساسةَ والإداريين المسلمين الذين كانوا جزءاً منها. وقد استقر أن مقتل رياض الصلح كان بسبب توقيعه على الحكم بإعدام أحد رؤساء الأحزاب، لكن الأرجح أن قتله كان بسبب اتجاهه القومي العربي الذي يأبى أن يكون لبنان للاستعمار مقراً أو ممراً، وإلا فلماذا لم يُقتل رئيس الدولة وهو صاحب السلطة الأعلى والأقوى والقادر على إصدار عفو خاص، أو الإيعاز بتخفيف العقوبة؟ ولماذا حاولوا التمديد له؟
الدولة اللبنانية لم تكن، إذن، مسيحية بمعنى حكم المسيحيين لها، وبمعنى اتخاذها النصرانية ديناً للدولة ـ وإن حاولت تغليب المظاهر الدينية النصرانية ـ بل هي منظومة جمعت خليطاً من الطوائف، واتسمت بكون أفرادها من الوصوليين النفعيين المستعدين لطاعة الاستعمار، لقاء أن يتمتعوا بالحكم وخيراته، وأن يسرقوا خزانة الدولة باسم طوائفهم، وإن عُمل على أن يكون على رأسهم أشخاص مسيحيون، وذلك بضرب من الربط بين لبنان وفرنسا، ابتداء، وبالفصل بينه وبين سائر العرب وأكثرهم مسلمون، حتى خلط بعضهم بين القومية العربية والإسلام. فإذا اتفق أن خرج بعض الساسة على هذا النهج، فإن المنظومة تدفعه عن الحكم كما يدفع الجسم ما يتسلل إليه من عناصر غريبة، حتى إذا بدا ذلك صعباً أو متأخراً، لجأوا إلى القتل، لتعود الأمور بعد ذلك إلى مجراها السابق، وربما باندفاع أكبر.
ولكن هذا النهج لا بد له من أن يلقى مقاومة، هي في طرف منها طائفية، بمعنى شعور بعض الطوائف بالغبن لاستئثار إحدى الطوائف بالسلطة والخيرات؛ وهي في طرف آخر قومية، بمعنى أن السلطة لا تستجيب لآمال أكثرية شعبية، إسلامية ومسيحية، في العروبة والوحدة، بل تنحاز في اتجاه مخالف لذلك تماماً، وهذا ما أدى إلى النزاعات والحروب اللبنانية المختلفة: سنة 1958 ولمّا يمض على الاستقلال خمسة عشر عاماً، وسنة ,1969 وسنة ,1973 ثم سنة 1975 التي اندلعت على إثرها الحرب اللبنانية الأهلية الأخيرة، مفخرة العصر الذي يزعم معاليه أنه مسيحي، ثم الدخول السوري، فالدخول الإسرائيلي، فانتعاش ما زعمه الوزير عصراً مسيحياً على العهد الجميليّ، فنشوء الحكومتين في ظل فراغ رئاسيّ، فالحرب بين المسيحيين، فاتفاق الطائف الذي أنهى العصر الذهبي المزعوم.
ولم يكن الاستعمار يُتعب نفسه في اختيار الحكام، فكاد يحصر السلطتين التشريعية والتنفيذية وما يتبعهما في أيدي أسر وقبائل بعينها، وكان تكرار الأشخاص بفضل مبدأ لا غالب ولا مغلوب، ثم توريثهم السلطة لأبنائهم، هو القاعدة السائدة، مع تعديلات تقتضيها الظروف، وبعضها مؤقت؛ كقيام حكومة الشباب بعد ثورة ,1958 وكقيام حكومات الدكتور سليم الحص، وحكومات المرحوم رفيق الحريري وسليلتها حكومة السنيورة.
وخلافاً لما يتوهمه بعضهم، ومنهم الوزير المشار إليه، فإن حكومات الطائف لم تنقل الحكم من المارونية السياسية إلى السنّية السياسية؛ فدستورياً لم تنقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة بل إلى مجلس الوزراء مجتمعاً؛ وعملياً كان الحكم باستمرار رهناً بالدولة الغريبة المهيمنة. ومن المفارقات أن الساسة السنّة كانوا أضعف الأطراف بعد الطائف، فلم يلتزم رئيس الجمهورية إلياس الهرواي بالدستور، بل ظل يمارس كثيراً من الصلاحيات التي نقلها الدستور إلى مجلس الوزراء والتي يفترض أن يفيد منها الوزراء جميعاً ولا سيما رئيسهم، وقال كلمته المشهورة: لو طبقت دستور الطائف لكان عليّ أن أمكث في بيتي ألعب النرد. وكان الأشقاء السوريون لا يرغبون في غلبة الساسة السنّة ولا في مساواتهم بالساسة الآخرين، بل كانت لهم تفضيلات غير مجهولة، لا ضرورة الآن لذكرها. ولم يَبدُ المسيحيون قط ضعافاً بعد الطائف، بل ظلوا أقوياء، وفرض الرئيس الهراوي أعرافاً كثيرة تتناقض مع الطائف؛ وإن ظل في حلق المتعصبين غصة، وهي تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية، وربما أيضاً جعْل مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك الأمر في وظائف الفئة الأولى.
ولقد يخيّل إلى بعضهم أن حقبة حكم السنيورة هي حقبة حكم السنّة بامتياز، وذلك بسبب خروج السوريين من لبنان، وبسبب تعطيل مشاركة الشيعة الحكم وهم حلفاء سوريا؛ وذلك وهْم أيضاً، لأن السلطة الأولى في تلك الحقبة كانت سلطة الولايات المتحدة الأميركية، ولأن رأي المسيحيين والدروز في تجمع 14 آذار كان في أكثر الأحيان أقوى من رأي السنّة، بل لعله كان الموجِّه لاختيارات التجمع السياسية.
والحقيقة أن مقتل الرئيس رفيق الحريري كان مدخلاً إلى الفوضى، ويغلب على الظن أن القتلة قصدوا إلى ذلك، فخرج إلى العلن من كان يفترض فيه أن يستتر، واستثيرت النزاعات المذهبية، وعطل الدستور، وعطل المجلس الدستوري، ودخل إلى المجلس النيابي من ليس لبنانياً، كما يقال، وصار مجلس الأمن الدولي أهم من مجلسي الوزراء والنواب اللبنانيين، ونشأت الصدامات، وكادت تتعطل الحياة السياسية والإنتاجية، وساد الفقر، وفشا الفساد بصورة دراماتيكية، وبدا أن غاية تلك الفوضى فرض خيارات إيديولوجية جديدة على لبنان، والتمهيد للصلح بينه وبين إسرائيل. وذلك ما ينبغي التركيز عليه عند التفكير في مقتل الحريري.
في هذه الفوضى تحركت النـزعات الطائفية، حتى عند ذلك الوزير الشاب الذي لم يوح يوماً أنه طائفي. حتى في خطاب القسم طرحت إشكالية طائفية بامتياز هي ضرورة الاعتراف بحقوق المغتربين والإشارة إلى أنّهم أحقّ بالجنسية اللبنانية ممن مُنحوها بغير وجه حق. وهذا يعني ضمناً العمل على منح الجنسية لمن يُزعم أنهم يرجعون إلى أصل لبناني. وشجّع هذا أحد المنتمين إلى تجمع نيابي يفترض فيه شيء من الحياد، على أن يعود للمناداة بإعادة الجنسية إلى المهاجرين، وفسح له التلفاز الخاص برئيس تجمعه الحديث المتكرر عن ذلك.
ومعروف أن إثارة هذه القضية ترمي إلى توكيد أسطورة المهاجرين اللبنانيين الذين ادُّعي أنهم يبلغون عشرين مليون شخص، ثم ترفّق بعضهم فزعم أنهم عشرة ملايين، وحصر بعضهم هذه العشرة في البرازيل وحدها، وهذا يعني أنه قد يكون مع هؤلاء عشرة ملايين أخرى في سائر أنحاء الأرض. والغالبية العظمى من هؤلاء المهاجرين مسيحيون؛ فالمراد إذن تغيير التوازن الديموغرافي اللبناني عبر هذه الأسطورة الفجة. وكيف يعقل لدولة كان عدد سكانها سنة 1942 هو 925 ألف مقيم و160 ألف مهاجر، وفق بلاغ صدر عن الحكومة اللبنانية في 21 حزيران سنة ,1943 أن يصبح عدد مقيميها اليوم أقل من أربعة ملايين وعدد مهاجريها ما بين عشرة ملايين وعشرين مليوناً، وكأن المَهْجر يجعل الإنسان يتوالد كالقطط؟
والمنطق البسيط يقول إن المهاجرين يتكاثرون بنسبة أقل من المقيمين، فلو تكاثروا بنسبة تكاثر المقيمين نفسها، أي أصبحوا أربعة أضعاف ما كانوا عليه سنة ,1942 لبلغوا اليوم نحو 640 ألف مهاجر، فمن أين جاءت عشرات الملايين تلك؟ ثم كيف هي صلة أولئك المهاجرين بلبنان لغوياً وثقافياً وقومياً؟ وهل ما زالوا يعرفونه جميعاً أو يعترفون به، وقد ماتت أكثر أجيالهم الأولى ولم يبق إلا الأحفاد الذين لم يطأ أكثرهم أرض لبنان؟ وهل يدفع أي منهم الضرائب للدولة اللبنانية، أم أنهم أعفوا منها بطريقة مريبة؟
ويتبارى حتى المعتدلون من الساسة المسيحيين في الدفاع عن الحقوق المدّعاة لطائفتهم، وعن استعادة دور طائفتهم في لبنان، وعن محاربة تهميشها، وعن اغتصاب صلاحيات رئيس الجمهورية ممثلها في رأس السلطة؛ ولا يتورع بعضهم، ومنهم مسلمون، عن الكلام على إعادة تلك الصلاحيات، ويصبح لرئيس الجمهورية الحق في اختيار ثلث الوزراء، ثم ينخفض ذلك إلى اختيار عشرهم لكن بحقائب سيادية، وفق المصطلح السائد. ويستكثر أحدهم صلاحيات رئيس مجلس الوزراء السنّي فيتصدى، في الطرف الآخر، أشخاص يدافعون عن حقوق السنّة؛ ويفترض بعضهم أن بعض الوزارات حق لإحدى الطوائف لا يجوز للطوائف الأخرى المطالبة بها، وهكذا..
حمّى طائفية رهيبة، وقتال أريد وسمه بالمذهبية، والناس جياع، والمجتمع يتفكك، وقيَمُه تنهار، وجفون المسؤولين لا ترف، لأن بطون الناس، وعيونهم التي ألفت الظلام، ومفاصلَهم التي أصاب بعضها الروماتزم، وأطرافهم التي أصاب بعضها الشلل، وفرشهم التي لم يعد لها بيوت بسبب الغلاء وقوانين الإيجار الجائرة، وسياراتهم ومدافئهم الفارغة من المحروقات، لا تعني المسؤولين إلا من حيث أنها تزيد أرباح مافيات الغذاء والاستشفاء والدواء والعقارات والنفط، الخ.
إذا كان صاحب المعالي يقصد هذه الحال حين يتحدث عن العصر غير المسيحي، فهو محقّ من جهة ومخطئ من جهة أخرى؛ فالحكم بعد الطائف لم يكن إسلامياً ولا سنّياً قط، ولم يكن ينتمي إلى أية طائفة، بل كان أميركياً بامتياز، كما سبق، باستثناء فترة قصيرة، وهناك من يرى أنه أصبح أميركياً إسرائيلياً. وطبيعي أن الحكم الإسرائيلي لا يطعم جائعاً ولا يؤوي متشرداً، ولا يساعد على قيام الدولة اللبنانية الحديثة.
حصرمة في عين الأعداء لو أن واحداً من هؤلاء المحمومين طالب بتطبيق الفقرة (ح) من مقدمة الدستور التي تجعل إلغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً أساسيّاً، ثم المادة 95 من الدستور نفسه التي توجب على مجلس النواب «اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية» تكون مهمتها «دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية». لكن الأصوات القليلة المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية تضيع في صخب الطائفية، وكأن المطلوب إلغاء المادة 95 من الدستور، والعودة إلى ما قبل الطائف، وليس إلغاء الطائفية السياسية؛ فهل يكذّب رئيس الجمهورية هذه المخاوف ويسارع هو ورئيس مجلس النواب إلى تأليف اللجنة المومأ إليها فور تأليف الحكومة العتيدة، إذا كتب الله لها أن تتألّف؟
([) كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى